الشعر والإنسان
د. خالد عبد القادر رُطيل | مصر
ظلّ الشعر طوال عصوره علاقة إنسانية بين الشاعر وبين نفسه أولاً، ثم بينه وبين الكون ثانياً، ثمّ تجلّت أواصره العاتية على ذات الإنسان فمنحته تجارب عصية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الشعر، وتجربة الشعر تظلّ كذلك من أكثر التجارب الإنسانية علوقاً بالجوانب البشرية التي ترتكز على أساس الطبيعة الروحية، والعلاقات الجمالية والأدبية بين الشعوب، وتكمن تلك التجربة في سعي الشعراء دوماً إلى رسم ملامحها أفقاً ورأساً، ولم يكن الشاعر يوماً يعيش لنفسه، أو يقرض الشعر عبثاً؛ بل كان همّه وهواه أن يرى المتعة في عيون الناس، ويثير البهجة على أطراف الشفاه، حتى وإن كانت تلك العلاقة تتسم بالصراع في غالب الأحيان، فإنّ الغاية الكبرى التي نشدها الشعراء هي تحقيق خصائص الإنسانية وكسب ودّها.
كلّ الأعمال الشعرية تقريباً، والتي أبدعها الشعراء من هوميروس إلى الآن ظلّت تعمل على تشكيل هذه الخصائص، والتي تجسّد صراع البشر من أجل إنسانية أفضل، وهنا تكمن وظيفة الشعر الحيوية والضرورية في مفهوم النظرة الإنسانية للإبداع، فالشعر هو- بحقّ- تلك الوسيلة التي تسخّر الإمكانيات التي تصل بالإنسان إلى وجود أفضل، وعالم أجمل، مسترسلاً في علاقات حاكمة وحاسمة في تحديد وجهة جمالية يستند إليها واقعنا، لذلك اصطلح النقّاد وعلماء الجمال والأخلاق على أنّ الإنسان الذي يتذوّق الشعر هو الذي يجد طريقاً إلى الحياة، لأنّ الشعر تجربة نفسية وجمالية فاعلة وضرورية لبلوغ الإنسان درجات ترقى به إلى النضج والرقيّ.
وتظهر علاقة الإنسان بالشعر من خلال انتماء الإنسان للشعر وصيغته التواصلية، وانصهاره في صميم الذات الإنسانية؛ إذ يسهم في تكوينها، وترسيم حدودها وفق ما جُبلت عليه تلك الروح من الشاعرية التي تشكّل لحمة الذات الإنسانية، والشعر دوماً في بحث دائم عن وسائل تعبيرية أكثر جمالاً، وأدقّ إفهاماً لمشاعره، لأنّ الناس جميعاً يتواصلون في الشعر، وبالشعر، ويجيدون وجهاً من وجوهه كلّ من موقعه، فالرسام يجيد الشعر من خلال إفراغ شاعريته على لوحة تفيض جمالاً، والناقد يعطي للمتلقي لغة أخرى أكثر واقعية لفهم النصّ، والشعر يمجّد الحياة التي- بطبيعتها- تتلوّن بأشكال عدة للشعر.
ثمّ إنّ مشاركة الشعر في نشر الروح الإنسانية تبدأ مما قاله الفرنسي جان كوكتو «الشعر ضرورة» ومما قاله الشاعر المكسيكي «أوكتافيوباث» ذات يوم: إنّ شعباً من دون شعر هو شعب من دون روح، وإنّ أمة من دون نقد هي أمة عمياء.
فلولا الشعر لانطمس الحسّ الإنساني تحت ركام المتغيّرات المادية اللامتناهية، ولخمدت مصابيح الوجدان، وخبا وميض التواصل البشريّ، فالإنسان مجبول على نزعة إنسانية تجاه الشعر، تراها في كلّ موقف يتعرض فيه للجمال، وكيف يكون ردّ فعله تجاهه، يبقى الإنسان إذن قادراً على خلق الشعور الحيّ، والعطاء الإنسانيّ المنسجم مع طبيعة الحياة، ويغدو كل منا بغير الشعر جزيرة نائية تنوء بحملها المثقل، وتسطو على نفسها من كثرة الجفاف.
ومن بؤس الثقافة العربية أنها لا تنصت جيداً لنداءات الشعر في خفايا النظرات المتلهفة إلى مسحة جمال تزيل عنها أثقال الحياة العتيّة، ولا تنصت جيداً إلى كلّ قصيدة ترتسم على وجه طفل يبتهج محياه للحياة، فكل منا يحمل في طياته قصيدة تنتظر توصيل رسالة خالدة تسهم في تنقية العالم، وترتيب حطامه المبعثر، وإعادته إلى الكمال والخير والعدل والجمال، من خلال دعوتها الأزلية إلى تحرير الإنسان من آثامه التي اقترفها على مدار التاريخ، في حقّ الطبيعة والحياة، مع تذكيره دائما بعالم المثل، وبأصله الإنسانيّ النبيل، فالقصيدة الإنسانية هي التي تنبّه العقل، وترتفع بالنفس، وتهذّب الضمير، وتغيّر العالم.
وأعظم ما حققته القصيدة الإنسانية أنها وصلت العالم المنظور باللامنظور، أو الوجدان بالشعور المباشر، واحتفت بتجربة الإبداع أيّما احتفاء، فجعلها ذلك أقرب إلى التجربة الروحية الصوفية، وهي قدرة الروح المبدعة وانتصار موهبتها على قوانين المادة، لتقدّم الحجج والبراهين على أنّ الفنّ وبالأخصّ الشعر هو طريق النجاة من قسوة الموت، وتخبّط السياسة، وغرور العلم الهدّام، وتعنّت الفكر المتطرّف، وجشع البورجوازية العشوائية، وضياع أنقى وأبقى ما في الإنسان وهو حياته الوجدانية، وقدرته على الخلق والتجديد والإبداع تحت عجلات الآلة والنفعية والوضعية، وزحام الفضاءات المدينية الملوّثة.
الشعر هو الذي يقول دوماً: إنّ الإنسان ليس ذلك الحيوان السياسيّ، ولا القدّيس المتدين، ولا الفاجر المنحرف، ولا هو المتصوف المنعزل، أو الفيلسوف المتعالي؛ بل هو الفنان القادر على أن يجعل من الحياة نفسها فناً تستحقّ من أجله أن تعاش، ويعمل على إيصال الكنوز الخافية في أعماق الفردية بكنوز الإنسانية وأسرارها ورموزها، ويثبت جدارته بهذه الإنسانية من خلال جدارته بالخلق والإبداع، ولعلّ هذا ما أشار إليه الشاعر الفرنسي شارل بودلير في إحدى قصائده عندما قال: «لا يوجد غير ثلاثة أشخاص جديرين بالاحترام: الراهب والمحارب والشاعر، أن تعرف وأن تقاتل وأن تبدع، أما الآخرون فإنهم صالحون للاستغلال والسخرة، مخلوقون للإسطبل، أي لممارسة ما يسمّى المهن»(1).
فالإبداع- إذن- وسيلة ناجعة لبناء الإنسان المعرفيّ والفني والقيمي والجماليّ، عبر مصادقات نفسانية إبداعية تسهم في بناء متجذّر في الأصالة والعمق، فهو الذي ينشر رسائل الاستقرار والسلام بين الشعوب والأمم، وهو الذي يستطيع أن يخاطب كلّ جنس، ويتكلم بأية لغة، وينحاز للإنسانية في كلّ زمان ومكان، ففي صميمه غناء ووجدان، لحن يعيد للعالم انسجامه وتوازنه، وهو صياغة جديدة لمصير الإنسان، لأخلاقه وقوانينه، لشريعته وسياسته.
هذه هي المُثُل التي جاهد الشعراء في كلّ العصور لتحقيقها، والأسطورة الإغريقية القديمة التي تُروى في هذا المعنى غير بعيدة عن الأذهان، فقد قيل إنّ شاعراً ركب مع جماعة من البحارة الغلاظ في سفينتهم، وتوهّم البحّارة من هيئته وصمته أنه يحمل كنزاً ثميناً فعزموا على قتله، وأعلنوا له هذا الحكم فرضي به، ولكنه سألهم أن يمهلوه ريثما ينشد أغنيته، وتناول قيثارته وأخذ يوقّع عليها لحناً رائعاً جذب الدولفين، فطفا على وجه الماء ليستمع إليه، ولم يكد الشاعر ينتهي من أغنيته حتى ألقى بنفسه على ظهر الدولفين ومضى
لم تكن الأغنية سبيل النجاة وحسب؛ بل كانت انطلاقة أخرى للحياة، ولوناً مغايراً لطريقة الإنسان في اختيار أساليب عدة للبقاء، وانحيازاً إلى من يقدّر تلك القصيدة الماثلة في روحه، لتصبح الهدف الذي يحلم الشاعر ببلوغه، وشاطئه البعيد، ففي هذا السياق قدّم النقاد والشعراء معاً مجموعة من التعاريف للشعر تقترب في عمقها من هذه العلاقة الموجودة بين الشعر والإنسانية، المتمحورة أساساً حول تضمين الشعر للمشترك بينه وبين تلك الإنسانية، فعلى سبيل التمثيل لا الحصر، نذكر ما قاله أرشيبالدماكليش «إن فن الشعر هو في جوهره واحد في جميع اللغات مهما اختلفت المظاهر السطحية»(2).
وهذا ينسجم مع أحد عناصر مفهوم الحداثة التي تركّز على الإنسان بوصفه بؤرة الشعر ومبتغاه، فالحداثة والإنسان على المستوى الغربيّ والعربيّ معاً كما نظَّر لها بودلير وأمثاله وفهمها يوسف الخال وأمثاله، وكما عبّروا عنها في مجمل تصوراتهم النظرية والإبداعية، تركّز هدفها على الإنسان قبل أي شيء آخر، فكلّ تغيير لا يخدم الإنسان لا ينتمي إلى الحداثة في شيء، لا في العلوم ولا في الفنون، فالإنسان هو المحور، ولهذا فحين نتمرّد على شكل من أشكال الشعر فإننا لا نتمرّد من أجل الشعر؛ بل من أجل الإنسان، لأنّ الشعر وسيلة، أما الإنسان فوحده هو الغاية، وحتى عندما تطرح الحداثة نفسها على أنها تمرّد على القوالب والأفكار الجامدة، فإن الإنسان يكون ماثلاً في خلفية هذا التمرّد، فهو يحتلّ مرتبة أولى في قائمة أهداف الحداثة وتصرّفاتها، فكل تمرّد لا يقيم وزناً إلا للنظرية الشعرية ليس هو من الحداثة في شيء، كما يقرّر يوسف الخال ذلك: «بأن الحركة الحديثة في الشعر العربيّ المعاصر، تقوم على موقف شعرائها من الإنسان والوجود، وعلى مفهومهم المعاصر- لا القرن التاسع عشر- لماهية الشعر»(3)
وحركة الحداثة الفكرية عموماً، والشعرية خصوصاً ما كانت لتقوم في نظر هؤلاء لو لم تحدث قطيعة جذريّة بين المفهوم القديم للشعر في علاقته بالإنسان، والمفهوم الجديد، فبعدما كان الإنسان مقيّداً بسلطة الوصايا المجتمعية والإبداعية التقليدية لقالب الشعر، أصبح التعريف الجديد متحرّراً من هذه السلطة عبر تمرده على السائد المنغلق، وتغيير مفهومه على المستويات المتعددة تاريخياً وسياسياً وإبداعياً، لينحاز إلى الجانب الأكثر إبداعاً، أو المبدع أصلاً وهو الإنسان بحيث يصبح الشاعر منفتحاً على العوالم والأكوان المتعددة المشارب والتصورات والجماليات من خلال الشعر.
ولم يكن كلّ هذا ليحدث لو لم يكن الشعر ضرورة وجودية في حياة الأشخاص قديماً وحديثاً، وما حدث من تغيير في شكل الشعر حديثاً فهذا لا يعني التخلّى عن القديم بشكل من الأشكال؛ بل كان تجاوباً حياً وثرياً لمتطلبات هذا الكائن المنتج لهذا الإبداع، والمتلقّي له، ولم تكن الثورة على الشعر بحدّ ذاته؛ بل تصحيحاً وتقويماً لآلياته التي لا تلائم إنسان العصر، والتي كانت في عصر من العصور ملبّية لحاجته، فمجرّد أن يحاول الإنسان تطوير الشكل الشعريّ فهذا لعلمه ويقينه بأن الشعر لا بدّ أن يتخذ خطوات تناسب الحال والمقام، فالشعر ليس إبداعاً منزلّاً من السماء يصعب المساس به؛ بل هو من صميم الإنسان، ويتخلّق مما تنصهر به القريحة التي هي الذوق الإنسانيّ الجمالي الذي ينطبع ويتطوّر به ومنه، والذي يمثّل طوراً من أطوار الانفجار البعثيّ الإبداعيّ للإنسان، ولهذا فللإنسان الحقّ كلّ الحقّ في أن يتطوّر بتطوّر الزمن، وأن يحدّد معالم حاجاته الضرورية التي يمثّل الشعر أكثرها أهمية حتى يصوغ شكلاً من أشكاله التي تناسب مقامه حينئذ.
مفهوم الشعر
لم يتحدّد إلى اليوم بداية مؤكدة نعتمد عليها للشعر، وكلّ ما هنالك أننا نعرف بدايات إدراكنا للشعر أننا وجدناه في عصر ما قبل الإسلام، ولكن ثمة فرق بين هذا وبين بدايات الشعر الحقيقية، فهو صنو الإنسان، ولغته التي خُلقت معه، وتدرجت في التطوّر بتطوّره، لكن كلّ ما هنالك أنّ الإنسان القديم لم يدوّن الشعر، ولم يكن بحاجة لذلك فهو يمارس تلبية حاجات وجدانه كيفما عنّ له، والتي كان يعتقد أنها له هو وليست لغيره، لهذا فوّت هذا الإنسان علينا كثيراً من إرهاصات الشعر الأولى.
ولأن الإنسان يحيا على الأرض وله جانبان للحياة: جانب الجسد؛ وهذا يقيمه الغذاء والماء، وله متطلباته التي لم يكن الشعر طرفاً فيها، وجانب الروح والذوق؛ وهذا يقيمه الإحساس بالجمال والتعبير عنه، والشعور بالمأساة والمكابدات، والتنفيس عنها، لهذا عرّفوا الشعر بأنه: كلام يعتمد على استخدام موسيقا خاصة به، يطلق عليها مسمّى الموسيقا الشعرية، وكذا قالوا: هو نوع من أنواع الكلام يعتمد على وزن دقيق، ويقصد فيه فكرة عامة لوصف وتوضيح الفكرة الرئيسة الخاصة بالقصيدة، ومن التعريفات الأخرى للشعر بأنه الكلمات التي تحمل معاني لغوية تؤثّر على الإنسان عند قراءته أو سماعه، وأيّ كلام لا يحتوي على وزن شعريّ لا يصنّف ضمن الشعر(4).
هذه التعريفات- وإن كانت حدّدت شكلاً معيناً للشعر- إلا أنها لم تلاحظ الهدف الأسمى للشعر كضرورة إنسانية لا تتخلّف عن وجوده على الأرض، وكلّ ما قالوه من تلك التعريفات إنما يدخل في باب التنظير الشكليّ العقيم الذي يظلّ يراقب الشعر من منظور أمنيّ ولا يعرف له قيمة، ولا مسّته منه روحة ولا ظلة، وقد ظلّ أصحاب هذه النظرة يرون الشعر على هذا النحو قروناً حتى فطن الشعراء والأدباء لقيمة الشعر لا على أنه مظهر رفاهيّ لشاعر يزوّق الكلام والتعابير؛ ولكن على أنه قيمة روحية وجمالية تزيد في عمر الإنسانية، وتبني لبنات حضارتها، وتسهم في علاج اعوجاجها.
لهذا كله اختلفت موضوعاتهم عمن سبقهم، وسادت الروح والطبيعة والحبّ العميق مجمل القصائد، ومن هنا فإن التعريف الأمثل للشعر ينطلق وحسب من إحساس الشاعر نفسه بقيمة ما يقدّمه للبشرية، وعمق التجربة من عدمه هو ما يحدّد ذلكم التعريف، لذا فالشعر هو تلك الحالة الإنسانية التي يعانيها الشاعر كماً وكيفاً، وتجيء معبرة عن تجربة خاصة أو عامة تفاعلت معها الروح تفاعلاً يشي بالتحام هذا الفرد بجماعته الإنسانية، والتعبير عن مكابداتها ومعاناتها، لترتسم الحياة على وجه قصيدته.
إننا أمام حاجة ليست آنية للإنسان، وإنما تتأصل فيه وتتخلّق بتخلّقه، وهي ما تولد منه حين يحاصر الأشياء بلسانه يريد أن يسميها، ويضع لها وصفاً يليق بها، ولعل هذا المعنى هو ما علمه الله تعالى آدم بعد خلقه ونفخ الروح فيه؛ إذ يقول الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]
لنا أن نتساءل: ما تلك الأسماء التي تعلّمها آدم؟ هل هي أسماء الأشياء؟ ربما، وهل كان آدم- عليه السلام- في حاجة لمعرفة الأسماء وحسب؟ أم كانت هنالك ضرورة ملحّة لفهم مراميها، ودلالاتها المختلفة، والتي ستكون معيناً له في فهم تلك الحياة الجديدة التي هو مقبل عليها، وفي نظرنا أن هذا هو ما حدث؛ وإلا كان هذا التعليم هشاً- حاشا لله تعالى، ولهذا كان علينا أن نتخيّل مدى المعرفة التي حصلت له بعد هذا التعليم الذي حدث عن طريق الإلهام، وقد عرف آدم من خلاله كيف يعبّر فيمدح ويهجو ويصف ويحب ويكره، وهكذا.
إذن فالتعبير عمّا في النفس بسائر الأشكال لم يكن صناعة إنسانية عن عمد، أو بمعنى أدقّ: إنّ الإنسان خلقت فيه روح الإبداع مع أول خلقته، ولهذا فالتعبير بالشعر وغيره من الوسائل الإبداعية هو طبيعة إنسانية تتفاوت درجاتها من إنسان لآخر بتفاوت حظوظ البشرية في ذلك.
ثم إنّ عجز الملائكة عن معرفة تلك الأسماء يصبّ- في اعتقادنا- في هذا المعنى بأن الأسماء لم تكن تعني المعرفة الشكلية وحسب؛ بل هي كيفية التعبير بأكثر من طريقة، من خلال تشبّع آدم بتلك المعاني الكامنة خلف الأسماء، وهي معرفة البلاغة والإعراب عن المعنى، ولهذا فإن الملائكة لا تجهل أسماء الأشياء، ولا يكون تميّز آدم عليهم بكثرة معرفته للأسماء، وحفظ أكبر عدد منها؛ ولكن لأن هناك وجداناً انفرد به، جعله على هذه المُكنة والتميّز.
ومن هنا نفهم موقف العرب من القرءان، والذي فُهم خطأ لقرون عديدة من وصفهم للقرءان بأنه شعر، ونرى أن هذا الوصف منصرف إلى جمال الكلام وفنيّته، وما فيه من الإبهار اللغوي المعجز، فشبّهوه بأرقى أنواع القول عندهم وهو الشعر، وليس ذلك من قبيل اعتقادهم أنه شعر مما هو معروف عندهم هيئة ووزناً، أو أنّ الشعر قد يكون كلاماً غير موزون، كما توهّم ذلك بعض الدارسين المعاصرين.
وقد أشار الباقلاني إلى ذلك إشارة واضحة دالة، فذكر أن الكفار لما قالوا تلك المقالة أن كلامهم «لا بد أن يكون محمولاً على أنهم نسبوه إلى أنه يشعر بما لا يشعر به غيره من الصنعة اللطيفة في نظم الكلام، لا أنهم نسبوه في القرءان إلى أنّ الذي أتاهم به من قبيل الشعر الذي يتعارفونه على الأعاريض المحصورة المألوفة».(5)
كما أنّ وصفهم للقرءان الكريم بأنه شعر قد يعني إحالتهم هذا الكلام المعجز المؤثّر إلى مصدر غيبيّ، أو إلهام خارجيّ؛ لما كانوا يعتقدونه من أن الشعراء يُلهمون من قبل الشياطين، وأنّ لكل شاعر رئياً من الجن يُلقي على لسانه هذا القول المعجز، ويدلّ على تلك الإحالة أنهم ربطوا الشعر بالسحر والكهانة والجنون.
ويشهد على معرفة العرب اليقينية للشعر، وإدراكهم- وإن كابروا- أنّ القرءان ليس بشعر ما جاء في حديث أبي ذر عن سبب إسلامه قال أبو ذر: «قال لي أخي أنيس: لقيت بمكة رجلاً يقول: إن الله تعالى أرسله- يعني محمداً صلى الله عليه وسلم- فقلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر ساحر كاهن، قال أبو ذر: وكان أنيس أحد الشعراء فقال: تالله، لقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فلم يلتئم على لسان أحد».(6)
وكذلك ما ورد عن الوليد بن المغيرة حين ذهب إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فاستمع إلى القرءان ثم عاد إلى قومه فكان هذا الحوار: «قالوا نقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه، ومقبوضهومبسوطه، فما هو بالشعر، والله إن له لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة».(7)
ولكننا برغم كل ذلك نجد قول الله تعالى: {وما علمناه الشعر} [يس: 69] قد يُفهم على أن القرءان يذمّ الشعر، وينقص من قدره، ولكننا لو تمعّنا ما وراء المعنى لوجدنا أنه يمدح الشعر ويعطيه مكانة أخرى، وذلك لأن القرءان رسالة معجزة، جاء ليضع الدساتير والقوانين، وينظّم حياة المسلم، وتلك الرسالة ليست للشعر، ولا تنبغي له؛ إذ هو تعبير خاص عن النفس لا يتعدّاها إلا بقدر رؤية صاحبها في قضية ما، لذا فإن الآية تقرّر لنا بوضوح أن الشعر له حيثياته التي تعدّ متنفساً للنفس، ولا يتعدّى أهله الناطقين بلغته، والقرءان لا ينبغي له ذلك؛ لأنه جاء ليعلّم العالمين، ويرشدهم إلى طريق الله المستقيم.
نعود إلى الإنسان وكونه مركز الانبعاث الإبداعيّ؛ حيث ترتبط الإنسانية في جوهرها بالعالمية، حيث يصبح الإنسان هو مركز الكون، بصفته يحمل المشترك بين الجغرافيات المتعددة والثقافات المختلفة، والحضارات المتباينة، وهذا المشترك سبيل التفاهم والتعايش والتسامح والحوار والائتلاف في الحياة والجمال والقيم، عبر إبداع الأسئلة المسهمة في كشف هذا المشترك، والذي تتمايز فيه الشعوب، ويعلو عند أمة وينخفض عند أخرى حسبما تقتضيه طبيعة التربية الجمالية والحسية لكل أمة.
وإذا أردنا أن نعرّج قليلاً على مفهوم الإنسانية في الشعر العالمي نجد دانتي أليغري في الكوميديا الإلهية الذي قال عنه «ت،سإليوت»: إن دانتي وشكسبير اقتسما العالم بينهما، ولا ثالث لهما، حيث إن أَثر الكوميديا قدّم أعظم مخيّلة توصّل إليها الجنس البشريّ، فما قدّمه دانتي هو الكون الأدبيّ الواسع الذي لا يمكن أن نتوسّع فيه، أو نقلّص منه، إنه تراث البشرية، وآخر حدود الخيال البشريّ، إذ لا يمكن أن نضيف إلى العالم العلويّ عالماً آخر، ولا أن نجعل تحت العالم السفليّ عالماً آخر، ولذلك فإن قراءة الكوميديا هي قراءة تراث الإنسانية، وخلاصة مخيلتها.(8)
ويسمو الشعر دائماً ليتخطّى الحدود المكانية والزمانية، حتى حدود العقيدة أحياناً ليكون قاسماً أصيلاً ينحاز إلى البشرية على تعدّد أجناسها، وهذا ما نشعر به حين نستمع إلى الشاعر جبران خليل جبران حين قال:
أحبك ساجداً في مسجدك
وراكعاً في هيكلك
ومصلياً في كنيستك
أنا وأنت أبناء دين واحد هو الحب
وفي قول الشاعر الهندي طاغور:
أيها الليل، الليل الذي أرخى سدوله،
اجعل مني شاعرك.
لقد جلس البعض بكما
في ظلمتك طوال عصور وعصور
فدعني أذيع اليوم أناشيدهم.(9)
والشاعر الألمانيّ يوهان «فولفغانغ غوته» صاحب نظرية «عالمية الأدب» أو «الأدب العالمي» قد أثار هذه القضية وتخيّل أن الآداب المختلفة ستجتمع كلها في أدب واحد كبير تقوم فيه الشعوب بدور الروافد التي تصبّ إنتاجها في هذا النهر الكبير، أو الأدب العالميّ، حيث كان غوته يؤمن بالإنسانية الواحدة، كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، تتعاون أفراداً وجماعات على طريق الحكمة، وتسعى إلى الحق والخير والجمال، تنأى بنفسها عن الهمجية، وتستمسك بالقيم السامية، بالتسامح والمحبة والسلام، فالفنّ الحقيقي حسب الشاعر الكونيّ «غوته» هو الشيء الذي يستطيع أن يوحّد بين البشر، ويجمعهم على التفاهم والمحبة والاحترام والإنصاف، ويعدّ ديوانه «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» الذي أشاد فيه بطبيعة الإنسان وقوّاها، حيث يحمل طابع التفاؤل والإقبال على الحياة، ويدعو إلى المؤاخاة بين الأمم والشعوب، كما نجد الشاعر المكسيكي «أوكتافيوباث» الذي كان ينطلق من هاجس الاتصال بالآخرين الذي كان يؤرقه، ليكتشف في النهاية أن الحب هو الوسيلة الوحيدة للتغلب على الوحدة، أو حسب تعبيره: «القفز عن جدار العزلة».
والشاعرة البولندية، «فيسوافاشيمبوريسكا» التي قالت: أتعلّم الصمت في كل اللغات، والشاعر العربيّ أدونيس الذي قال في كتابه رأس اللغة جسم الصحراء: الشعر حب يجعل الليل أقل ظلاماً، والنهار أكثر شفافية، والشاعر الأرجنتيني «روبرتو خواروث» الذي قال: «مصير الشاعر الحديث هو توحيد الفكر المشاعر المخيلة الحب الإبداع، وهذا كشكل حياتيّ، وكطريق موصّل إلى القصيدة».(10)
أما على الجانب العربيّ والإسلاميّ فإننا نجد كذلك تلك النظرة الإنسانية للشعر، وأنها والعالمية بمعنى، ويتمثل ذلك في استدراجها للإنسانية المستنبطة من الروح تارة، ومن الروح والجسد تارة أخرى، ومن القلب النورانيّ الربانيّ على مستويات كثيرة من الشعر الوجدانيّ، أو الصوفيّ الوجدانيّ الذي يمثّل العالمية التي تفوق ما دعا إليه غيرهم؛ ذلك أنهم كانوا يفهمون تلك العالمية لا على أنها اتصال الإنسان بأخيه وحسب؛ بل كانوا ينطلقون من الذات العليا التي تجتمع عندها كل الأجناس، ولا يفرّقهم جنس أو لون أو لغة.
ويفسّر هذا ويدلّ عليه جواب الهجويري حين حاول تقديم تعريف لهذا المفهوم على المستوى الإسلاميّ، حيث ردّها إلى خمسة مذاهب في القول: «من حكماء العرب من حدّ الإنسانية بالروح عن الجسد بمعزل، ومنهم من حدّها بالروح في اتصال بالجسد واتحاد، ومنهم من حدّها بالقلب، ومنهم من حدّ الإنسانية بأنها سرّ إلهيّ أودع في جسد، ومنهم من حدّها بالحياة»(11) وهو يشير إلى المعنى الذي يجعلها سراً إلهياً أودع في الجسد، تتشكل بطبيعة الحياة، وتلك هي ركيزة النظرة الإسلامية لشمولية المعرفة والحس الوجداني.
وقد بلغت أنظار الفلاسفة المسلمين في شأن الإنسان مبلغ النزعة الإنسانية العليا، ونجد مثل هذا في قولهم: «وينبغي لمحبّ الكمال أيضاّ أن يعوّد نفسه محبة الناس أجمعين، والتودّد إليهم، والتحنّن عليهم، والزلفة منهم، والرحمة لهم، فإن الناس قبيل واحد متناسبون تجمعهم الإنسانية، وتحلّهم قوة إلهية في جميعهم وفي كل واحد منهم، وهي النفس العاقلة، وبهذه النفس صار الإنسان إنساناً، وهي شرف جزئي الإنسان اللذين هما النفس والجسد، والإنسان بالحقيقة هو النفس العاقلة، وهي جوهر واحد في جميع الناس، والناس كلهم بالحقيقة شيء واحد، وبالأشخاص كثير، وإذا كانت نفوسهم واحدة- والمودّة إنما تكون بالنفس- فواجب أن يكونوا كلهم متحابين متوادين، فبحق يجب لمحبّ الكمال أن يكون محباً لجميع الناس، متحنناً عليهم، رؤوفاً بهم»(12)
ومن الشعراء الذين تعاملوا مع مفهوم الإنسانية العليا الإمام المعلم الشيخ محي الدين بن عربي في ترجمان الأشواق:
لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
///
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرءان
///
أدين بدين الحبِ أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
///
لنا أسوة في بشر هند وأخته
وقيــس وليلى ثم ميٍّ وغيلان(13)
ورغم التحفظات الكبيرة على هذا القول إلا أنه يظهر لنا ما وصلت إليه النظرة الإسلامية للشعر والإنسان من منظور صوفيّ تطرّف على حدود المنهج الشرعيّ، لتبقى إنسانية الشعر نابعة من القوى النبيلة التي تنبذ الذات المتصارعة دوماً، لتسمو إلى معانقة القيم السامية النابعة من الذات الواحدة التي انبثقت عن الروح العليا، لتخلق توازناً مهيباً بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر، والتي تصبّ كلها في نشر القيم السامية بكل درجاتها الدينية والدنيوية، ليبقى الشعر خطاباً واحدً يعبر عن كل ذلك.
هوامش:
- يراجع اليوميات: شارل بودلير: ترجمة آدم فتحي- منشورات الجمل- كولونيا- ألمانيا- ط الأولى 1999م.
- أرشيبالدماكليش، الشعر والتجربة: أرشيبالدماكليش: ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي- مراجعة: توفيق صايغ- منشورات دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر- بيروت- ط الأولى 1963م- ص73.
- يوسف الخال، دفاتر الأيام: يوسف الخال: منشورات رياض الريس للكتب والنشر- لندن، قبرص- بيروت- ط الأولى 1990م- ص65.
- يراجع تعريف الشعر وفائدته وفضله وعناصره: محمد غنيم.
- إعجاز القرآن للباقلاني: تحقيق السيد صقر- دار المعارف- مصر- ط الثالثة- ص: 76.
- الرسالة الشافية: عبد القاهر الجرجاني: ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: ص124.
- السيرة النبوية: ابن هشام: تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبدالحفيظ الشلبي- دار إحياء التراث العربي- بيروت- 1391هـ / 1971م- 1 /270.
- مقدمة كتاب الكوميديا الإلهية: ترجمة حنا عبود- منشورات ورد للطباعة والنشر والتوزيع- دمشق- ط الأولى- 2002م- ص5-6.
- ديوان قفة الثمار: براندرانات طاغور: ترجمة سامي الرياشي- منشورات المطبعة البولسية- لبنان-بدون تاريخ- ص29.
- الأنطولوجيا البيانية في حد الشعر وتعريفه: عبدالقادر الجنابي: ،سلسلة كتاب قصيدة النثر- منشورات الغاوون- بيروت- 2010م- ص 179-180.
- الحكمة العربية دليل التراث العربي إلى العالمية: د/ محمد الشيخ- منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر- بيروت- ط الأولى- 2008م- ص65.
- المرجع السابق ص92.
- ترجمان الأشواق: محي الدين بن عربي: دار صادر-بيروت- ط الأولى- 1386ه-1966م- ص43-44.