تأملات قرآنية في سورة طه (9)
د. خضر محجز | فلسطين
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي﴿29﴾ هَارُونَ أَخِي﴿30﴾ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴿31﴾ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴿32﴾ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً﴿33﴾ وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً﴿34﴾ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً﴿35﴾
يغرم الناس بالقول: إنّ هارون كان أكبر من موسى. وهذا القول نَسَبَهُ ابنُ جُريْج لابن عباس، ولم يسمع منه؛ وإنما هي صحيفةٌ وجدها ابن جريج، فقرأ منها وحدّث به؛ فقبلها بعضهم وأعرض عنها آخرون. ولو كانت في غير التفسير والأخبار لما قبلوها، لما في إسنادها من شكوك الاتصال. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: “ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير”.
ولو صحت نسبة هذه الصحيفة لابن عباس، فإن هذا يخلق سؤالاً: كيف جزم ابن عباس بأن هارون أكبر من موسى، ولم يسمعه من ابن عمه المعصوم صلى الله عليه وسلم؟ اللهم إلا أن يكون قد نقله من التوراة التي بين أيدي اليهود، وتقول: “وَكَانَ مُوسَى ابْنَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَهَارُونُ ابْنَ ثَلاَثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً حِينَ كَلَّمَا فِرْعَوْنَ” (سفر الخروج. الإصحاح السابع/7).
والحقُّ أن قد نقلَ ابنُ عباس في تفسيره عن التوراة وتفاسير الأحبار وآباء الكنيسة كثيراً، دون أن يصرح بذلك. وما من مصدر ـ في ذلك الزمان ـ كان يمكنه أن يتوفر له غير ذلك. وقُل مثل ذلك في تفاسير تلاميذه التي تجري مجرى الأخبار. ونحن نعلم أننا حين نجزم بأن لا قيمة لهذا النقل، إنما نُفرغ الكثير من الأقوال المنسوبة لابن عباس في التفسير من قيمتها العلمية. ولعل هذا هو ما عناه الإمام الشافعي حين جزم بأن: “لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث”.
كيف لا، وقد علمنا يقيناً من كتابنا، أنّ التوراة، التي نقلوا عنها، ليست وثيقةً تاريخية صالحة للاحتجاج، لِما غَيَّر فيها الأحبارُ والرهبان وبدّلوا. ولم نذهب بعيداً ونحن نرى الكنيسة اليوم، تثبت الأسفار الأبوكريفية، التي لم تكن تعترف بها طوال القرون الماضية؟ ونحن نعلم أن الذين أخذوا من علوم أهل الكتاب في التفسير، إنما أخذوا غالب ذلك من نصارى العرب بعد فتح الشام، أي: من الصيغة المسيحية للتوراة. وقد نصَّ على ذلك كثيرون، وأشار إليه الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ حين قال بأنّ عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ “أصاب يوم اليرموك “زاملتين من كتب المتقدمين” “وكان فيهما إسرائيليات يُحَدِّثُ منها. وفيهما منكرات وغرائب”.
فأيُّ ذلك من كلام الأحبار والرهبان ـ الذي نقله مفسرونا الأوائل ـ كان حقاً: أتلاعبهم بأعمار الأخوين موسى وهارون، صلى الله عليهما وسلم؟ أم إبقاء ذلك على ما هو في الأصل الذي لم يعد موجوداً؟ أم نقل ابن عباس وتلاميذه ذلك؟ ثم ما فائدة هذا النقل لنا ولتفاسيرنا؟ وما هَمَّنا إن كان هارون أكبر من موسى أو أصغر؟
فدعونا من ذلك ولننظر في كتاب الله: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي﴾:
الواو عاطفة هذا على ما سبقه، فالدعاء مستمر. و﴿وَزِيراً﴾ مفعول به لفعل الطلب ﴿اجْعَلْ﴾. والوزير: العون. وجملة ﴿مِنْ أَهْلِي﴾ صفة لـ﴿وَزِيراً﴾. و﴿هَارُونَ﴾ بدل منه. و﴿أَخِي﴾ بدل من ﴿هَارُونَ﴾.
فأنت ترى أنْ لما أُمر موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالذهاب إلى فرعون، لم يصرح لنا خطابُ هذه الآيات بإعلانه خوفه، بل أضمر ذلك، لما صَرَّح به في سورة الشعراء: ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ (الآية: 14)؛ وفي سورة القصص: ﴿إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ (الآية: 33): فما أضمره في موضعٍ أظهره في غيره. ثم إن موسى قد دعا قبل قليل فقال: ﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ وهو قول يشتمل على ذلك وغيره، لأن الله ـ عزّ وجلّ ـ إذا يَسَّرَ له أَمرهُ، فلن يخاف القتل.
لكن حين يجتمع موسى بأخيه هارون، ويبلغه الرسالة والتكليف، سينطق خطاب السورة بخوفه. وسنقول ثمة ـ حين نصل إليه في الآيات ـ ما يفتح الله علينا به، إنْ شاءَ ذلك وأقدَرَنا عليه. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾:
هذا من موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعليل لطلبه من ربه: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي﴾، على عادة البشر في تعليل طلباتهم، لظنّهم أن ذلك أجدر بأن يجعلها مقبولة.
و«الأزر» في المعاجم: «الظهر». قلت: وكَنَّىٞ به ها هنا عن القوة.
﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾:
وهذا من أعظم البِرِّ من الشقيق بشقيقه وهو غائب. فلم يكتفِ بأن طلب من ربّهِ مساعدة أخيه، حتى طلب له الرسالة.
﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً* إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً﴾:
قال جار الله رحمه جاره: “حتى نتعاون على عبادتك وذكرك: فإن التعاون ـ لأنّهُ مُهَيِّجُ الرغبات ـ يتزايد به الخير ويتكاثر”. ﴿إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً﴾ِ: أي: عالما بأحوالنا، وبأنَّ التَّعاضُدَ مِمّا يُصلحنا، وأن هارون نِعمَ المعينُ والشادُّ لِعَضُدي”.
قلت: وفي فضل الاجتماع على الذكر، وردت أحاديث كثيرةٌ، منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فإذا وجَدُوا قَوْماً يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنادَوْا: هَلُمُّوا إلى حاجَتِكُمْ. قالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بأَجْنِحَتِهِمْ إلى السَّماءِ الدُّنْيا. قالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وهو أعْلَمُ منهمْ: ما يَقولُ عِبادِي؟ قالوا: يَقولونَ: يُسَبِّحُونَكَ ويُكَبِّرُونَكَ، ويَحْمَدُونَكَ ويُمَجِّدُونَكَ. قالَ: فيَقولُ: هلْ رَأَوْنِي؟ قالَ: فيَقولونَ: لا واللَّهِ ما رَأَوْكَ. قالَ: فيَقولُ: وكيفَ لو رَأَوْنِي؟ قالَ: يقولونَ: لو رَأَوْكَ كانُوا أشَدَّ لكَ عِبادَةً، وأَشَدَّ لكَ تَمْجِيداً وتَحْمِيداً، وأَكْثَرَ لكَ تَسْبِيحاً. قالَ: يقولُ: فَما يَسْأَلُونِي؟ قالَ: يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ. قالَ: يقولُ: وهلْ رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لا واللَّهِ يا رَبِّ ما رَأَوْها. قالَ: يقولُ: فَكيفَ لو أنَّهُمْ رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لو أنَّهُمْ رَأَوْها كانُوا أشَدَّ عليها حِرْصاً، وأَشَدَّ لها طَلَباً، وأَعْظَمَ فيها رَغْبَةً. قالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قالَ: يقولونَ: مِنَ النَّارِ. قالَ: يقولُ: وهلْ رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لا واللَّهِ يا رَبِّ ما رَأَوْها. قالَ: يقولُ: فَكيفَ لو رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لو رَأَوْها كانُوا أشَدَّ مِنْها فِراراً، وأَشَدَّ لها مَخافَةً. قالَ: فيَقولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أنِّي قدْ غَفَرْتُ لهمْ. قالَ: يقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ: فيهم فُلانٌ ليسَ منهمْ، إنَّما جاءَ لِحاجَةٍ. قالَ: هُمُ الجُلَساءُ لا يَشْقَى بهِمْ جَلِيسُهُمْ” (متفق عليه. واللفظ للبخاري).
اللهم اجعلنا معهم بحبنا إياك، وحبنا لهم فيك.
هذا والله أعلم.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. إنّه لا يُفلح من نَسَبَ إلى الله ما لم يَقُلْ.
اللهمَّ اجعلْ حُبَّك زادَنَا ومعادَنَا، واجمعنا مع الأحباب. واكتب هذا إن قبلته في كتاب أبَوَيَّ.