مقال

التساييج المعرفية والنوازع الاختزالية!

بين فضائيات التحظير وزحام لا أحد

مختار عيسى | نائب رئيس اتحاد كتاب مصر

لا قيمة للكلمة التي تفقد استقلاليتها، ولا مكان لمبدع حق على خارطة الإبداع إن لم يتحرر من أي قيد تفرضه آليات سبق تجهيزها في معامل التثبيت الذائقي والتحنيط الثقافي ، كما سبق أن أشرت مرارا إلى ذلك وإلى أوجاع البلاغة العربية، وصنمية التعاريف التي أوقفت المبدع العربي قرونا عدة أمام كليشهات تعبيرية، وتوثينات تصويرية تدور حول معان مكرورة وعمود للشعر اصطنعته فئة، وخرجت بسببه قامات إبداعية فارقة من ساحة الرضا النقدي التي سجنت الذائقة بين جدران غرفة معتمة ، الضوء الوحيد فيها هو رضا سادن المعبد النقدي ، والنجاء الوحيد من عتماتها في استحسان من يملك أكياس الدراهم والدنانير، ينثرها إذا ما استوقفه مادح بأبيات مصنوعة ، مصبوغة نفاقا، ومدهونة كذبا، ولا يزييها إلا كاسي السلطان ، ولا يمررها غير ندمائه، ولا يسوغها سوى لاعبي السيرك اللغوي الراقصين على حبال الهوى أمام الأعين الرواصد، ولا تمر إلا عبر مطابعه، أو تقاريره ورجاله، وهيمنتهم على الآلة الإعلامية الجهنمية التي تستطيع بأذرعها الأخطبوطية اللامتناهية الإمساك بكلمة تحاول التفلت من سجن المسوّغ، والركض إلى فضاء الفرادة ، ورحابة الإبداع.

ولا سبيل أمام المتابع لأحوال الثقافة العربية وتبايناتها التي قد يظنها البعض دليل ثراء، رغم أنها تؤكد تعدد أشكال العسف، وتنوع أمزجة الرقباء، وفساحة أوضيق ما تسمح به الأجهزة حسب الظرف الآني، وحسابات الربح والخسارة في علاقات تجارية محض، وليس لاستقلال المثقفين واحترام توجهاتهم محل في هذه المعادلة… أقول لا سبيل أمام المتابع لرصد مساحات الاستقلال ومُتاحات الحركة أمام المثقف العربي في ظل أنظمة أغلبها يحتكر الحكمة ويدعي الإلهام، وينوب- بكل بساطة- عن الجموع المتباينة، برأي واحد، وذائقة تتكلس غالبا في فاترينة عرض ثابتة،لا تداخلها ذوائق المتفرجين، ونظرة عاجلة إلى الراهن الإبداعي العربي تؤكد وقوعه بين شقي رحى طاحنة؛ حيث تتناوبه قوانين وقواعد فضلا عن ادعاءات ونجمنات لا يخفى أن وراءها أذرع الإعلام، حكوميا كان أم شخصيا، وقد حوّلت كثيرا من أصحاب الأقلام والفكر، وبعضهم كان الرهان عليهم جادا، والأمل عليهم معقودا، إلى مهرجي سيرك احترف أصحابه تحريكهم لإلهاء المتلقي حينا عن قضاياه الحقة، وإغراقه حينا آخر في الذاتية المقيتة التي تجزره وتحوصله، فيما هى تفعل الأمر ذاته مع الكاتب، أو المخرج أو حتى المصور؛ حتى اختلط الأمر على المراقب وصارت آلته الرقابية وحواجزه الجمركية تمرر- كما سبق القول في مقالات عدة – جسد الراقصة، ولا تسمح بعبور قصيدة، أو خاطرة، وبالقطع هناك محاولات عديدة بذلها مثقفون واعون للتحرر من هذه الشبكة بخيوطها المنسوجة بإحكام أجهزة وعلاقات مؤسسية، ولعل ما عرف في أجيال سابقة بثورة «الماستر»التي أتاحت أشكالا أقل تكلفة، وأسرع إنتاجا من الكتب والمجلات كان خطوة جادة رغم ما شابها من دخول الأدعياء وبالطبع لا ننسى المحاولات المتتالية لجماعات ثقافية وتشكلات أدبية للمروق من المؤسساتية الثقافية بأسمائها المتعددة، وتجلياتها المختلفة، ومنها «الحظيرة» بتعبير ساخر ومقيت ألقى به مسؤول ثقافي في دولة رائدة في وجه المثقفين معلنا عن قدراته «السيركوية» في اللعب على حبال الحركة الثقافية المشدودة حتما بأوتاد أمنية، واستخباراتية، وبمجرد أن ألقى لعدد من مبدعينا الذين كنا نظنهم كبارا، وكانوا يعبئون أسماعنا وأبصارنا كل يوم بفرادتهم وانحيازهم للإبداع، والإبداع وحده، بمجرد أن ألقيت إليهم بعض المنح مادية كانت أوفي صورة جوائز مشكوك في استحقاقاتهم لها بحكم غياب التنافسية الشريفة سقطوا، باستثناءات قليلة كصنع الله إبراهيم مثلا، في البئر المسمومة ودخلوا «الحظيرة» لا يجرؤون على مغادرتها طوعا وكرها،واختاروا لأنفسهم أن ينضموا إلى صفوف طويلة عرفها المتن العربي على مدار تاريخه الطويل، ممن سلبتهم أكياس الدراهم والدنانير نصاعة الموقف،وشروق النفس، وضوءنة الفكرة، بانضمامهم إلى جيش كتاب السلطة، حتى صاروا أذرعها التي تبطش بها بكل من يجترئ على المخالفة، أو يحاول مجرد محاولة الانعتاق من مكرور محفوظ ممنهج تملية دوائر القرار، حتى إن جاء في صور تتخذ تجليات مهرجانية ثقافية أو إبداعية لا تخفي على العين الرمداء وتتأكد وقوعاتها في استنساخية رؤيوية للقضايا ذاتها، في علاقة المثقف بالسلطة حتى صار الشعر والأغنية والمسرحية والفيلم والكتاب مجرد أدوات في المطبخ السياسي؛ لإعداد الوجبة اللازمة لمن يجب سد جوعهم بين الحين والآخر؛ اتقاء لغضب، أو تمريرا لموقف، أو تبريرا لخيانة، أو تبييضا لوجه اسودّ من كثرة ماعلاه من غبار أزمات متلاحقة.
استقلالية المثقف
السؤال الذي يفرض حضوره هنا هو هل يمكن للمثقف تحقيق الاستقلالية، والمروق من « الحظيرة» ليلعب دوره الحق في مجتمع مفتوح يؤمن بحرية التعبير وحق الاختلاف أم أنه بالضرورة لابد واقع في شباك المؤسسة، وإلا سيق إلى غياهب التجاهل المعمود، والنفي المحسوب، والإقصاء الممنهج، فيما يُسوّد أرباع الأشباه، وأشباه الأرباع، وتكون لهم الصدارة في الحراك الثقافي، المحكوم غالبا بترسانة هائلة من قوانين الضبط والمصادرة، والحرق.
هل المؤسسة ضرورة؟…. بالطبع لا يمكن للإنسان وهو كائن اجتماعي، أن يعيش منعزلا عن الآخرين، وهو في حاجة ضرورية لتحقيق إنسانيته للتعايش معهم والتفاعل مع مخرجاتهم الفكرية والثقافية، ومن ثم فإن شكلا من تنظيم العلاقات لابد أن يقوم بين الناس في دول حديثة قد تبلورت فيها السلطات، وتداخلت وانفصلت في آن، فهل بالتالي هناك ضرورة لمؤسسة ثقافية عامة كوزارات الثقافة أو الإعلام في بعض الدول لاستيعاب الحراك الفكري والثقافي والإبداعي بصورة منظمة لا تغفل حق الفرد، ولا تتناسى دور الجماعة؟
بالقطع المؤسسة الثقافية ضرورة، لكن المؤسف أن مؤسساتنا التي تتعامل مع الواقع الثقافي لاتفترق كثيرا عن تلك التي تتعامل مع المنتج الزراعي أو الصناعي، الأمر الذي يدخل الدولة، أو نائبتها المؤسسة في )سلعنة( الفكر والنظر إليه وإلى المفكرين والمبدعين وفق قوانين تجارية كقانون العرض والطلب، وأحيانا حيث يلعب الترويج الذائقي، والتسليع الإبداعي، والنجمنة الممنهجة الدور الأكبر في في إعلاء فكرة على أخرى وتسويد ذائقة على غيرها، وإفساح المجال لتنافس غير شريف غالبا؛ حين تتدخل المؤسسة بأدواتها الترويجية أو الإقصائية؛ فتقدم ما يستوجب التأخر، وتؤخر رتبة ما يستحق الصدارة، الأمر الذي يضر بأطراف العلاقات الثقافية في المجتمع، من مبدع ومتلق، ووسيط حامل.
وليس غريبا إذن أن نجد كاتبا يتسول تكاليف طباعة كتاب يستحق أن تتبناه المؤسسة، وآخرين لا يتوقف هدير آلات الطباعة لتقديم ما يتصورون وتتصور المؤسسة المتآمرة جدارته، وهو لا يعكس إلا ما تريده السلطة عبر رقبائها، وهم غالبا بعيدون عن موضوع ما يراقبون، ولا علاقة لهم من قريب أو بعيد بالحراك الذائقي، أو التطور الإبداعي، فلا يمررون إلا ما عرفوه وما عرفوه سوى ما اختزنته عقولهم من كليشهات محفوظة حول مثلث التابو العربي الشهير، الجنس والدين والسياسة، ادعاء بأنهم يصونون ثوابت المجتمع، وكثير من هذه الثوابت لا يرقى لهذا الثبات التقديسي؛ كونه إنتاجا بشريا قابلا للمغايرة،والاستبدال، والتجاوز والانحراف

العلائق الفنية بين الفوضى ( الخلاقة ) و الإبداع

وعلى مستوى المحمول الرؤيوي ، والمرتكزات الفنية والمعيارية العربية فإنه يمكن التأكيد على أن المشتغلين بالحقل الثقافي العام يجابهون مقولات رسختها استعمالات متواترة اتفقت الذاكرة الجمعية على معانيها فاختزلتها في دال أو مصطلح أو تعريف، أو ما شابه ذلك من أطر تسييجية للمعرفة الإنسانية، ومن ثم فإن الركون، الطوعي أو الكرهي، لهذه التساييج يمثل لوناً من التوافق مكن الجماعة الإنسانية إزاء موقف ما من اعتمادها معايير للفحص، وقواعد للحكم، وفواصل مائزة، وأسوار محددة لفنون وآداب قد تكون، من وجهة نظري، وربما من وجهات آخرين، أبعد ما يمكن عن الخضوع لهذه الأطر التسييجية، وتتأبى غالباً أن تحدها أسوار تعريف، أو يمعيرها مصطلح؛ فهي مرتبطة بحركة دائبة من التغيير والتبدل انعكاساً حتمياً لمتغيرات لا نهائية تصيب كل جوانب الحياة التي تمثل الحقل الأساس لهذه الفنون والآداب.
ما من شك في أن سعي الإنسان الدائب للتصنيف والفرز يمثل احتياجاً فعلياً، بل وضرورياً يتيح له الانتقاء والتحديد، بل والتقويم والنقد أحياناً، ومن ثم تأتي محاولاته عبر الزمن بوصفه فرداً في جماعة تستند إلى معرفية مرجعية للوصول إلى القانون أو القاعدة أو الفاصل المائز، وتؤكد هذه المحاولات أن القوانين والقواعد ليست طرفاً زائداً يمكن بتره مع ضمان حركة صحيحة للجسم، أو ترفاً يمكن الاستغناء عنه دون كثير ضرر، بل هي- أي القوانين- تمثل سياجات مانعة وأطراً حاصرة تمكن المرء في لحظات كثيرة من ممارسة دور القاضي، حين يضع الموضوع على طاولة التمحيص والدرس القانوني قبل أن يصدر الحكم، إدانة أو تبرئة، أو يعيد التحقيق وفق ما اصطلحت عليه الجماعة وارتضته من قاعدة أو قانون أو تعريف.
قد يكون هذا ضرورياً وحاسماً- وهو كذلك بالفعل- في تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية، لكن هل يصلح على المستويين الفني والأدبي في التعامل مع نتاج شخصي في الغالب، وإسهام فردي، واستجابة خاصة وإن كانت في أطر ذائقاتية عامة؟ المعول عليه في الإبداع هو المجاوزة والانزياح والانحراف وكسر قانون المألوفية والخروج على مستقر العادة، والانطلاق من راهن متشبث بالبقاء إلى مأمول يجاهد للتحقق، ومن هنا فإن الانزياحات الإبداعية الدائمة والمحضوض عليها لون من ألوان التمرد والرفض أكثر منها قبولات ورضاءات، وهي انفلاتات حتمية من قيود التعاريف وخلوصات من أسر المصطلحات.. إنها لحظات مروق وانعتاق وفرار، ومن ثم فإن التساييج تمثل عوائق تحد من هذا الانعتاق، وتكبل هذا الفرار الإبداعي اللامتناهي فكاكاً من أغلال التسييج المصطلحي، وتحرراً من سجون الحكم الجمعي أو الذائقة المجتمعية العامة.
هل يمكن القول إن المحاولات المتواصلة لتعريف الفنون والآداب، أو أي منجز خاضع للحدود الزمنية والتبدلات السوسيولوجية أو الجيوبوليتيكية وتحولات الذات سيكولوجياً خضوعاً أو انعتاقاً من أسر تشابكات المعرفة والوجدان، والظرف، والطاقة، والقدرة كانت ضرباً من الجنون؟ ل يمكن توصيف هذه المحاولات التنظيمية للحراك الإبداعي تحت وطأة هذا الوصف القاسي؟
استعرافات لا تعاريف
هي على الأكثر مقاربات أكثر منها سياجات مانعة جامعة، وهي استعرافات أكثر منها تعاريف، واستفهامات لا مفاهيم؛ فليس عجيباً- إذن- أن يظل الصراع على تعريف الشعر- كجنس أدبي مثلا- نوعاً من القفز إلى المجهول؛ فذلك المتأبي على التأطير، الهارب من التساييج، المستعصي على الإمساك، واجه كل المعرفين، أو من حاولوا أو ظنوا أنهم قادرون على القبض على جوهره، فصرع كل تعاريفهم في حيواتهم، أو بعدها بقليل؛ فمن منا لا يذكر التعريف الغارق في البله، الذي وصف الشاعر بأنه كلام موزون مقفى، وكأن أي رص للأحرف أو الكلمات بصورة مموسقة ينتج هذا المتأبي الرافض.
ألم يقل الله تعالى في كتابه الكريم واصفاً الشعراء وحركتهم وهي لا تنفصل- حتماً- عن حركة أشعارهم “ألم تر أنهم في كل واد يهيمون”… لا وادي محدداً لهم، ولا معنى ثابتاً هم مقتفوه، وإلا سقطوا في هوة النظم السحيقة… تلك التي حاول المعرفون إسقاط الشعر في قاعها بتحديده بأنه الكلام الموزون المقفى، ولم تشفع إضافة عبارة “دال على معنى” في تعاريف تالية لإخراج النظم الخالص من المعاني من دائرة الشعر لم تشفع- هذه الإضافة- لهذه التعاريف لتحقق صمود أمام الانزياحات الكثيرة، ويكفي أن يجابه هذا التعريف القاصر بما في “ألفية ابن مالك” التي نظمها في أبواب النحو؛ فها هو ذا التعريف الشعري الكلاسي هذا ينطبق على “الألفية” تمام الانطباق؛ فهي “كلام” صاغه ابن مالك النحوي على “موسيقا شعرية خليلية” أي على تفاعيل عروضية لبحر من بحور الخليل بن أحمد الموسيقية، ودال على معان هي أبواب النحو، ولم يقل ابن مالك، ولم يدع غيره أنها- أي الألفية- شعر.
وهكذا، ما إن يدخل تعريف حتى يخرج، وما إن يعتد به حتى يتجاهل، ولا يرتفع في الأفق النقدي العربي إلا ويسقط في هاوية التلاشي، ولا يستقر حتى تضربه في أم رأسه خروقات كثيرة تطيح به وبصاحبه إلى حيث المتاهة من جديد.
هل معنى ذلك أن المعيارية التي تمكن الممعير من الفرز والعزل، الإقصاء أو التقريب لا تستأهل الإنشاء ولا تستحق الوجود؟ أو هي غير صالحة- على الأدق- لمهمتها؟
إن جاز وصف الشعر بأنه محكم جاز الاعتماد على مقاييس معيارية. وإن سلمنا بأن فيه اشتباهات كثيرة، واختلاطات وتمازجات مع فنون أخرى، وأشكال من التعابير الإنسانية وأنه يتداخل في كل لحظات الحياة، فإن الوقوف عند مصطلح محدد يمثل- كما أسلفت- محاولة للقفز في الفراغ أو حرث الماء.
التسييج ضرورة والمعيارية حماية
رغم خطورة التسييج الذي يحد في كثير من الأحيان من انطلاقات المبدع، ويمثل حصاراً دائماً عليه أن يشكل مادته داخل إطاره انصياعاً لسلطة الموروث على الراهن؛ إلا أن غيابه يفتح الغابة على كل الاتجاهات؛ حيث تتداخل الأنواع الأدبية تداخلاً قد ينفذ من خلاله، أو هو بالفعل سامح بنفاذ الأدعياء الذين يرتكنون إلى غياب الإسناد الجنسي للنصوص؛ فتنشأ الكتابات المهجنة، والمخلطة والتي لا يمكنك- وإن أجهدت ذاكرتك ووعيك وحياديتك- أن تعتمد مرجعية ما لتوصيفها، وربما تستسهل لإسناد “اللاإسنادي” كما قدمه الناقد المصري إدوار الخراط في تعبيره الشهير “الكتابة عبر النوعية” ورغم ما في هذا المصطلح من استسهال نقدي- من وجهة نظري- إلا أنه يمثل ملاذاً للأرباع والأخماس- إن اعتبرنا الأنصاف أقرب للإبداع- لترويج هذه الكتابات والدفاع عنها مادامت نصوص القانون النقدي الخراطي أتاحت فساحة تختبئ في ساحاتها بضاعتهم، وتروج لها عبر الدكاكين النقدية والمعلبات الاحتفائية في مجلات وصحف وتلفازات محلية بالطبع.
لاشك أن المعيارية الأدبية تتعرض لمراجعات كثيرة من قبل المهتمين بالشأن الثقافي العام، والإبداع الأدبي بصورة خاصة، ولا جدال في أن التصنيف أو التقسيم المدرسي للإبداع والمبدعين مناهج وأجيالاً يسهم- بقدر ما- في سلامة الحراك الاجتماعي والانتقال من ذائقة إلى أخرى ارتكاناً إلى وعي وإدراك، ومواهب استثنائية، وأنها- هذه المعيارية- تتعرض لتغيرات مناخية ثقافية واجتماعية وسياسية كثيرة فتنتقل من دلالة إلى أخرى، كما يحدث في الانتقال الدلالي لمفردة بخروجها من أسر المعجم إلى فضاءات دلالية جديدة؛ فإن التجنيس الإبداعي خاضع- لا محالة- لهذه الانتقالية بما يؤكد ضرورة مرونة المصطلح الذي ينبغي أن ننأى به عن وضعه على مائدة التقديس في سلفية أدبية أو تصنيمية توثينية؛ فلا يقبل تغييراً أو تحويراً؛ فكل ما هو بشري قابل للمراجعة والتعديل والحذف والإضافة، خصوصاً أن المصطلح- أياً ما كان ورغم تشابهات هنا وهناك في تطبيقه يختلف باختلاف البيئة الزمكانية كما هو الشأن بالنسبة للغة كوعاء ثقافي عام.
ما يمكن الوثوق به نسبياً هو أن التسييج- على خطورته- يمثل لوناً من ألوان الأمان الثقافي الذي يتيح الانتقال السلمي من ذائقة إلى أخرى دون اعتماد الثقافة التحنيطية سبيلاً وحيداً للتفاعل مع حياة تمور بالتغيرات، ومع ذلك فإن شيئاً من الفوضى المنظمة أو الفوضى الخلاقة بالتعبير “الكونداليزي” وإن كنت ممن لا يرونها حلاً وطريقاً لحراك اجتماعي سياسي، إلا أنها تمثل- في نظري- ضرورة لحراك إبداعي ثقافي؛ فالإبداع سعي دائب للمزايحة والمخالفة، وكسر النظام ليخلق من كسوره وبقاياه نظاماً جديداً، ومن فوضاه إبداعاً تتحقق له سلطة ما في مواجهة النقد، وينجب أشكالاً ونماذج على غير مألوف العادة، وهذا جوهر الفعل الإبداعي الحقيقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى