دماء التدوين في أدبيات أهل التصوف والحديث

د. محمد السيد السّكي| استشاري تحاليل طبية وكاتب وروائي مصري

للأسف الشديد عدم الموضوعية والمغالاة حبا ً أو كرهاً تدفع البعض للتزوير والتحريف ودس النصوص ونسبة الأعمال الفكرية لأشخاص لم يقوموا بتأليفها مما يسبب لغطاً وضلالاً وإضلالا.. وإن كنا نفتقر لآلية التأكد من تلك الفرضية، إلا أنه بمضاهاة تلك الأعمال بأخرى من المنسوبة إليهم وتتبع سيرتهم والترجمات عنهم، نستشف بخيال الدفاع عن الرموز ما يعطينا ويعطيهم باب نجاة مما نُسب زورا ً إليهم ..

أطرح هنا بعض الأمثلة وأسكت عن أخرى. فهذا مولانا عبد القادر الجيلاني صاحب الكرامات باز الأولياء الأصهب – قدس الله سره – من الشخصيات المتصوفة التى تحظى بقبول وكلمات طيبة من جميع الاتجاهات السلفية والصوفية، المتشددة والمعتدلة. ولقد نسبت قصيدة إليه، أرى بتأكيد الموضوعي المحب أنها منسوبة إليه كذباً وقد يكون ذلك بدافع المغالاة فى الحب، وإليكم القصيدة لتحكموا عليها:

عَلَى الأَوْلِيَا أَلْقَيْتُ سِرِّي وَبُرْهَانِـي

فَهَامُوا بِهِ مِنَ سِرِّ سِرِّي وَإِعْلاَنِـي

///
فَأَسْكَرَهُمْ كَأْسِي فَبَاتُوا بِخَمْرَتِـي

سَكَارَى حَيَارَى مِنْ شُهُودِي وَعِرْفَانِي

///
أَنَأ كُنْتُ قَبْلَ القبْلِ قُطْباً مُبَجَّلاَ

تَطُوفُ بِي الأَكْوَانُ وَالرَّبُّ سَمَّانِي

///
خَرَقْتُ جَمِيعَ الْحُجْبِ حَتَّى وَصَلْتُهُ

مَـقَاماً بِهِ قَدْ جِــــدَّى لَهُ دَانِـي
وَقَدْ كَشَفَ الأَسْتَارَ عَنْ نُورِ وَجْهِــهِ

وَمِنْ خَمْرَةِ التَّوْحِيدِ بِالْكَاسِ أَسْقَانِي

///
نَظَرْتُ إِلَى الْمَحْفُوظِ والْعَرْشِ نَظْرَةً

فَلاَحَتْ ليَ الأَنْوَارُ والرَّبُ أَعْطَانِــــــي

///
أَنَا قُـــطْبُ أَقْـطَابِ الْوُجُودِ بأَسْرِهِ

أَنَا بَازُهُمْ وَالكُلُّ يُدْعَــــى بِغِلْمَانِـي

///
فَلَوْ أَنَّنِـي أَلْقَيْتُ سِرِّي بِدَجْـلَةٍ

لغَارَتْ وَرَاحَ الْمَاءُ مِنْ سِرِّ بُرْهَانِـي

///
وَلَوْ أَنَّنِـي أَلْقَيْتُ سِرِّي إِلَى لَـىً

لأَخْمِدَتِ النِّيرانُ مِنْ عُظْمِ سُلْطَانِـي

///
وَلَوْ أَنَّنِـي أَلْقَيْتُ سِرِّي لِـمَيِّتٍ

لقَامَ بإِذْنِ اللهِ حَيّاً وَنَادَانِي

///
سَلُوا عَنِّيَ السُّرَى سلُوا عَنِّيَ المُنَى

سَلُوا عَنِّيَ القَاصِي سَلُوا عَنِّيَ الدَّنـي

///
سَلُوا عَنِّيَ العَليَا سَلُوا عَنَّيَ الـثَرَّى

وَمَا كَأنَ تَحْتَ التَحْتِ وَالإِنْسِ وَالجَانِ

///
فَيَا مَعْشَرَ الأَقْطَابِ لُمُّوا بِحَضْرَتِـي

وَطُوفُوا بِحَانَاتِي وَاسْعُوا لأَرْكَانِي

///
وَغُوصُوا بِحَارِي تَظْفَرُوا بِجَوَاهِرِي

وَتِبْرِي وَيَاقُوتِي وَدُرِّي وَمُرْجَانِـي

///
وَقَفْتُ عَلَى الإِنْجِيلِ حَتَّى شَرَحْـتُهُ

وَفَكَّكْتُ في التَّوْرَاةِ رَمْزَةَ عِبْرانَـيِ

///
وَحَلَّلتُ رَمْزاً كَانَ عِيسَى يَــحُلُّهُ

بِهِ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَا وَالرَّمْزُ سُرْيَانـي

///
وَخُضْتُ بِحَارَ الْعِلْمِ مِنْ قَبْلِ نَشْأَتِي

أَخِي وَرفَيقِي كَانَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانِ

///
فَمَنْ فِي رِجَالِ اللهِ نَالَ مـَكَانَتِي

وَجَدِّي رَسُولُ اللَّهِ فِي الأَصْلِ رَبَّانِـي

///
أَنَا قَادِرِيُّ الْوَقْتِ عَـبْدٌ لِـقَادِر

أُكَنَّى بِمُحْيِي الدِّينِ وَالأَصْلُ جِيلاَنِي

عندما تنظر من الوهلة الأولى إلى تلك الأبيات المنسوبة إلى مولاي عبد القادر الجيلانى – قدس الله سره – فإنك لاريب أن تقول ماهذه الاناة العليا التي تجرى فى دماء ذلك الرجل؟!، وعندما تنظر مرة وألف مرة فإنك إما أن تلوي الحقائق كمحب أو تفتري المساوئ كمبغض، وإما أنك لو تحليت بلباس العافية وجمعت أشلاء التاريخ المتناثرة فإنه ببساطة سينفلق أمام عينك فجر الصورة التقريبية الأقرب للحقيقة.

اننا للأسف أسرى لأهواء الحب وكدماته وأمواج الكره ولطماته..وعند النظر إلى التراجم التى تحكي عن الباز الأصهب الإمام الجيلانى تجد أن هناك إجماعاً على تدينه وخلقه وزهده وتواتر كراماته كما ذكر العلماء بواسع طيفهم وانتمائهم الفكري والفقهي كالنابغة الذهبي وابن تيمية والعز ابن عبد السلام والنووي وابن قدامة وابن رجب الحنبلي وابن حجر وغيرهم مما يسهو عليّا ذكره..
ومن ثم فإنه بسهولة تبزغ امام أعيننا نبتة الإيمان وشجرته قائلة بأن هذه الأبيات هى مدسوسة على الجيلاني رحمه الله .. وهكذا نسبوا أبياتاً وأشعاراً لعبد القادر الجيلانى تجعل المرء ينفر منه ويتهمه بغرور هو ليس فيه بقريب أو بعيد..
وقد دُس على محيي الدين ابن عربي – قدس الله سره – مايشين عمله الأعظم الفتوحات المكية، وزعموا أنه من دعاة الاحلال والاتحاد رغم عبارته المشهورة التي يقول فيها :
“من قال بالحلول فدينه معلول وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد” ..
والمتأمل في كتاب شمس المعارف الكبرى والمنسوب إلى الشيخ البوني والمعروف بأنه من كتب السحر يتضح له جلياً اختلاف شخصية الكاتب عند التنقل مابين فصول الكتاب. مما يجعلك تقول إنه يستحيل أن يكون الكاتب شخصاً واحداً. فشتان مابين الذي يبين أسرار أسماء الله ومابين الذي يوضح كيفية استحضار الجان وتسخيره في أعمال السحر، كما أن فقدان النسخة الأصلية وتعدد النسخ وحجم عدد الصفحات فيما بعد، قد يجعلنا نخلص إلي احتمالية أن يكون هذا العمل قد ضيف عليه وقد دُس في الكتاب ما جعل هدف الكتاب ينقلب الي ضده..

والمتأمل في صحيح الإمام البخاري يجد أنه توجد منه نسخ متعددة، فيوجد حوالي ثلاث عشرة نسخة بثلاث عشر راوٍ عن البخاري، ويختلف محتوى الكتاب من شخص لآخر ، فرواية الكتاب عند النسفي تختلف عن غيرها بل ان مئات الأحاديث المروية مابين النسخ نجدها زائدة.. وهكذا فإن هذا التباين بين النسخ المختلفة وعدم وجود النسخة الأصلية، يجعل من الصعب التشدق بأريحية وصول هذا الكتاب بدقة، والقول بأنه لم تشوبه عملية دس أو إخفاء..
وهنا يحضرني الشيخ المجدد محمد الغزالي – رحمه الله – وهو يجهش بالبكاء عندما اتهموه بأنه يعادي سنة رسول الله وهو لم يكن إلا متأملاً ومفكراً ومدافعاً عن الله ورسوله..وأذكر في مقالي ذلك ماقاله الشيخ محمد الغزالي في كتابه (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث)..
يقول الشيخ الغزالي: عيب بعض الذين يشتغلون بالحديث قصورهم في تدبر القرآن وفقه أحكامه فلم الغرور مع هذا القصور؟ ولماذا يستكثرون على غيرهم من رجال الفكر الإسلامي الرحب أن يكتشفوا علة هنا أو شذوذا هناك!.
إن التعاون في ضبط التراث النبوي مطلوب، ومتن الحديث قد يتناول عقائد وعبادات ومعاملات يشتغل بها علماء المعقول والمنقول جميعا وقد يتناول الحديث شئون الدعوة والحرب والسلام، فلماذا يحرم علماء هذه الآفاق المهمة من النظر في المتون المروية؟.. وما قيمة حديث صحيح السند عليل المتن؟
وفي عصرنا ظهر فتيان سوء يتطاولون على أئمة الفقه باسم الدفاع عن الحديث النبوي، مع أن الفقهاء ما حادوا عن السنة، ولا استهانوا بحديث صحت نسبته وسلم متنه وكل ما فعلوه أنهم اكتشفوا عللا في بعض المرويات فردوها – وفق المنهج العلمي المدروس –  وأرشدوا الأمة إلى ما هو أصدق قيلا وأهدى سبيلا. وهم بهذا المنهج يتأسون بالصحابة والتابعين.. انظر موقف عائشة -رضي الله عنها- عندما سمعت حديث (إن الميت يُعذب ببكاء أهله عليه) لقد أنكرته، وحلفت أن الرسول ما قاله وقالت بيانا لرفضها إياه: أين منكم قول الله سبحانه: (ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى)؟!
إنها ترد ما يخالف القرآن بجرأة وثقة ومع ذلك فإن هذا الحديث المرفوض من عائشة لا يزال مثبتا في الصحاح بل إن ابن سعد في طبقاته الكبرى كرره في بضعة أسانيد. وعن عائشة أنها قالت: أولئك الذين يعذب أمواتهم ببكاء أحيائهم هم الكفار. وعندي أن ذلك المسلك الذي سلكته أم المؤمنين أساس لمحاكمة الصحاح إلى نصوص الكتاب الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.”

إن منهج التحليل الطيفي العقلي يمكّننا من لمس روح الحق. ومابين مغالاة المحبين والكارهين تسيل دماء التوثيق والتدوين وتضيع الحقيقة وتنطمس المعالم ويبقى الحق على الدوام يلامس القلوب..
إن الحب والاتّباع بقوة بلا بصيرة يهوي بنا إلى بئر الضلال، فالكل يقع فى فخ الحب والتدليس والافتراء حباً لا كرهاً ، وتسيل دماء التدوين من طعنات المحب والكاره والمغرض..
ويقع العلماء والأولياء تحت رماح أهل الفكر المتعفن إما بدس أو إخفاء، وخاصة المنهج الصوفي فإنه على الدوام يتصف بالافتراء ويبعث للأسف على النفور منه رغم إنه خير وأبر القربات ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى