أدب

أحلام جائعة.. ملاحظات حول سرديات الأزمة

هدى توفيق| ناقدة وأديبة مصرية

   صدرت المجموعة القصصية أحلام جائعة، للكاتب: رضا يونس؛ عن دار نشر المفكر العربي، مصر، القاهرة، ط1: 2023م. 

يشير الخطاب النقدي التالي: (إن “العنوان” يُعَدَّ أخطر البؤر النصية التي تحيط بالنصِّ، إذ يمثَّل -في الحقيقة– العتبة التي تشهدُ عادة مفاوضات القبول والرفض بين القارئ والنص)-(فالعنوان هو الذي يُتيحُ (أولاً) الولوج إلى عالم النصَّ والتموقع في ردهاته ودهاليزه؛ لاستكناه أسرار العملية الإبداعية وألغازها. هكذا يُعرف “العنوان” النص، بتسميته وتحديد تخومه، ومجاله، ثم يقتنص قارئاً له، لِيُدُق، من ثم، نواقيس القراءة، فتشرع عوالم النص بالتكشف والتقوض في فعل القراءة.)(1) كمفتاح لطرح أسئلة تأويلية حول مغامرة اختيار عنوان أحلام جائعة؛ الذي يبرز ظاهرة الاحتفاء بالمهمش داخل (ظاهرة العنونة). (2) وتلك الأسئلة هي الآتي: هل الأحلام تجوع؟ بمعنى: هل الأحلام مثل أي كائن حي يجوع، ويعطش، ويتألم، ويحس بمشاعر وأحاسيس بين الحزن والفرح؟، وماذا إذا تجسدت هذه التخيلات كما حدث في أغلب قصص هذه المجموعة التي تحتوي على عشرين قصة قصيرة. سواء بنهج استراتيجي مباشر في أغلبها، وغير مباشر في عدد قليل منها ؟؛ ولكن كيف ستتشكل داخل بؤرة العنونة؟ وتلك الأسئلة تحتاج إلى إجابات منطقية تطرح رؤى ثاقبة عن مكنون استحواذ عنوان أحلام جائعة؛ ليصبح الشغل الشاغل في التأويل وابداء ملاحظات عدة حوله؛ الذي يدرج تحت مسمى تركيب لغوي من الجملة الاسمية.

     أي تسمية عامة غير معرفة؛ لكن المفارقة الإبداعية أنها رغم أن هذه التسمية أحلام جائعة مبهمة وعامة وغير محددة؛ لكنها تتطرق في داخل السرد القصصي إلى تفاصيل أفعال وسلوكيات ومواقف حياتية عن الحكي عن مفردات الجوع بشتى ألوانه: سواء الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، والثقافي، والعاطفي؛ لأسباب واضحة من الفقر والظلم والتهميش، والحرمان من أبسط حقوق المواطنة والكرامة الإنسانية من الطعام والشراب والعاطفة، التي هي متاحة للكائنات الأخرى ببساطة؛ إن الجوع هنا يتحول إلى إشكالية كبيرة تشمل جميع جوانب حياة هذا الإنسان الشقي والمعذب؛ من ظلم الواقع المعاش داخل المجتمع المحلي والعربي والعالمي. نشعر به جوع واسع الرؤية فهو لا يقتصر فقط على المجتمع داخل الوطن الأم؛ ولكن يتجاوز حدوده إلى خارجه على المستوى العربي والعالمي، والإشكالية التي تقدمها قصص هذه المجموعة. عن كيفية استراتيجية تأويل حالات الأحلام الجائعة من قصة لأخرى؛ ليطرح سؤالًا هامًا: كيف تجوع الأحلام! وهي مجرد أحلام تعبر عن مسمى واضح ساكن، بل ويتم وصفها بأنها جائعة، وهي مجرد أحلام التي هي آتيه من منطقة اللاوعي عند الإنسان. سواء في النوم أو اليقظة؛ لأنه أيضاً يوجد أحلام واعية تتمنى أشياء بسيطة، وتعتبر من أبسط حقوق أي إنسان للعيش والاستمرار في الحياة.أن يكون هذا المسكين مستيقظًا وواعيًا، ويتمنى أن يحصل على أقل حقوقه الأدمية. مثال أن يأكل أويتناول شيئاً يشتهيه أوينجز شيئاً يطمحه أويسعى إليه. فمفردة الأحلام الجائعة هنا كعنوان يمثل عتبة مركزية الرؤية ومهمة؛ لتفكيك شفرات النصوص القصصية الداخلية؛ لأن حضورها غير المعرف توحي بأنها مفردة مكنونها واسع ومرن وتتعالق في علاقة موازية وجدلية داخل الوحدات القصصية. كما يشير المصدر النقدي:(في حين أن “العتبة” هي التي تقودنا إلى باب النص، فالعلاقة بين البيت والعتبة علاقة جدلية، كل منهما يفضي إلى الآخر،) (3). ومن ثم نشعر أن العنوان يمثل سطوة كاملة على سلطة المتن مع الإشارة التي تحسب هنا للمؤلف. أن تلك السطوة التي تمارسها عتبات النصوص سواء العنوان الكبير أحلام جائعة، ومنه إلى العناوين الفرعية نموذج: (المسافة صفر، اللفافة، أحلام جائعة، معدة لقيطة، ثلاثة أصفار، وظيفة أربعينية، رعب محمود، السقوط لأعلى، نشيد القطيع، نصف الكوب الفارغ، وغيرها من القصص حتى ولو عبرت عن ذلك الحلم الجائع بشكل غير مباشر. لنجد أن تلك العتبات لم تأتِ على حساب سلطة المتن. بل بالعكس لقد اتحدت هذه السطوة مع تلك السلطة؛ لتمتزج جيدًا بمكونات إبداعية ملهمة. أفرزت حالة متناسقة ومتوائمة إلى حد كبير في التعبير عن إفرازات هذه الأحلام الجائعة. لأننا نجد:(كما لو أن “المتن” ذاتي الكينونة، مكتفِ بنفسه، يُحقق حضورهُ في العالم بمعزل عن النصِّ الموازي، مع العلم أنَّ الموازيات النصية هي التي تهيئ “المتن” ليكون كائناً متميزاً، فانتقاله من حال الهيولى إلى الكينونة والوجود 

(الشَكل) مرهون به. ومن هنا، تتراكم خطورة العنوان، ومعه الموازيات النصَّية، في كونه مفتاحًا لفعل القراءة، ولذلك كان لابدُ من قلب المعادلة رأسا على عقب، لِيشغف الاهتمامُ بهذا المكمل والمتمم، ويتوسع فلا يُكتفي بالقبض على نصية “العنوان”فحسب، وإنما يُتخذ العنوان أداة لتفكيك النص وتحليله وتفسيره وتـأويله، لِتكشف القراءة بذلك عن الاستراتيجية التي ينتهجها المؤلف في عنونة نصه، وكذلك عن استراتيجيتها، بالانطلاق من العنوان في محاصرة النص ومطاردته)(4) فكانت تلك المجموعة من الموازيات النصية: من الغلاف، والعنوان، والإهداء، والعناونين الداخلية، والحوار، والهوامش، والروائح مثل: البرفان الفرنسي، ورائحة المبولة العفنة من قلة الماء، ورائحة عطر الفتاة المركز الذي حرض المتحرشين عليها، والرموز مثل: النجمة السداسية، والتقويم الافتراضي…إلخ (5) نجدها مكملة ومفعلة بنشاط مع قضايا المتن القصصي؛ لتبدع في النهاية قوالب من التهكم والفانتازيا السوداء من كل الأحوال المعيشية الصعبة التي يعيشها المواطن المصري في كل المجالات. حتى على المستوى العربي كما نرى في قصة:(من يشتري الوطن؟!) (6) عن عجوز ينادي بحسرة وألم: من يشتري الوطن… أبيع الوطن.. أما من مشترٍ؟!) وعلى المستوى العالمي كما في قصة ميتافيرس(7) بعد التطور التكنولوجي الكبير الذي حدث ولا زال يحدث في جميع أنحاء العالم، خاصة في مجال عوالم التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي وغيره؛ وما يجلبه من تصورات بعيدة المدى عن المستقبل القادم لعام 2030م. وربما كما ذكرت القصة يصبح اسمه التقويم الافتراضي. وهكذا الأمر ينطبق على معظم أجواء القصص في طرح تخييل واسع ينطلق أيضاً من مواقف واقعية إلى حد ما تتفاقم وتزداد دراميتها؛ من سوء الأوضاع الواقع بشكل مستمر. ويتجلى تأثيرها في بعض القصص بدرامية عالية، ونهايات فاجعة مثل قصة: (العتبة الحمرا)(8) تحكي عن زوجة تقتل زوجها ببشاعة؛ لأنها اكتشفت خيانته بعدة خطوات من: التعذيب والتمثيل بجثته؛ من أجل الانتقام منه بكل الطرق فقد بدأت: بالتخدير، ثم السمّ، والحرق، والشنق، والطعن، والتمزيق؛ لتشبع رغبة الانتقام كاملة التي مصدرها جوع شديد؛ لتحقيق رغبة مدمرة وكبيرة الوصف. فليس كل أنواع الجوع تكون ملموسة وواضحة.

  إنما يوجد نوع آخر يرتبط بالروح والفراغ العاطفي. الذي قهر به هذا الزوج الخائن زوجته بإهمالها وهجرها وخيانتها؛ رغم إخلاصها وحبها له لدرجة أنها تفننت في عمل كل أصناف تشويهه وتعذيبه. دون أن تذرف دمعة واحدة؛ لأن فحواه رغبة جائعة للغاية من الانتقام منه بدون ندم أو حزن عليه. قائلاً على لسان حالها: (ليغادر مسمومًا مخدرًا محروقًا مشنوقًا مطعونًا ممزّقًا، دون دمعة وحيدة تنحدر ولو بطريق الخطأ من مقلتيها المتحجرتين) (9). وكان عنوان القصة (العتبة الحمرا) إشارة إلى لون الدماء والحب والخيانة. فاللون الأحمر كان لون هذه العتبة بكل ما يوحي من استلهامات عن تأويل اللون؛ الذي كان في بداية الأمر رمزًا للحب ثم أصبح رمزًا للخيانة ثم في النهاية رمزًا للدماء والبشاعة. كل هذا يتجسد في العنوان (العتبة الحمرا)، التي هي في علاقة شائكة وموازية بين البيت والعتبة؛ التي دخلت بنا إلى العالم القصصي وأفضت لنا بكل تلك الأحداث الدامية للزوج الخائن، والحلم الجائع بشدة لزوجته من أجل الانتقام المبالغ فيه. وهذا يشير: (بمعنى أن “العنونة” جزء لا يتجزأ من استراتيجية الكتابة لدى القاص لاصطياد القارئ وإشراكه في لعبة القراءة، وكذلك بعدُ من أبعاد استراتيجية القراءة لدى المتلقي في محاولة فهم النص وتفسيره وتأويله، ومن هنا الحاجة الملحة لتحوز “العنونة” موقعا لها في خريطة النظرية الأدبية المعاصرة، فهي لا تفتا تضج بإشكاليتها وأسئلتها أمام عتبات القراءة النقدية)(10) تنطلق من نقطة واحدة ومحددة هي فكرة الجوع وتجلياته على الجميع بأشكال مختلفة ومتنوعة الأزمة. سواء مجردة أو حية نابضة في أغلب قصص المجموعة، وعلى رأي المثل الشعبي (الجعان بيحلم بسوق العيش). (ليتساءل المتلقي عن دور “العنوان” في القراءة النصية وتفكيكه للنص) (11). ويؤكد على المعنى المراد تأويله: (غير أن “البداهات = أقصد العتبات النصية” سرعان ما تضعنا أمام مأزق الدهشة: لماذا اختار الكاتب هذا العنوان؟ وما علاقته بالنص؟هل انبثق العنوان مصادفة أوأن المقصدية تمارس غواياتها في هذا المجال؟ إلخ، هكذا تجرنا العتباتُ إلى دوامة من التساؤلات،). (12)نبدأ من الإهداء: إلى زهراتي وزهوري الذين شاركت ريهم: “ربما كانت أحلامي جائعة، لكنني حققت أعظمها في وجودكم الذي أحيا وجودي)(13).كما نرى أن الإهداء نتصوره كفاتحة شهية للعنوان الرئيسي أحلام جائعة باعتراف القاص:أن أحلامه جائعة وأمنياته ضائعة ولا يستطيع تحقيقها كما تمنى؛ لكنه يتجاوز هذا الانكسار والهزيمة أمام الواقع المر بأن يتحقق ولو معنويا بوجود زهوره وزهراته في حياته؛ لأنه لولاوجودهم ما كان يستطيع أن يحيا ويستمر ويعافر بالسرد والحكي عن تلك الأحلام الجائعة. والمستعصية الإنجاز على أرض الواقع الصعب، ويسترسل الكاتب في طرحه الإبداعي الذي أدخل به المتلقي بداية من العنوان والإهداء إلى القصص التالية:

1- قصة (المسافة صفر). (14). تحكي عن فتاة في العقد الثالث من عمرها. فاتها موعد الحافلة التي تقلها من الضاحية الراقية إلى مقر الشركة؛ فاضطرت أن تستقل المترو للذهاب إلى عملها، وبداخل عربة المترو يحاول بعض الغوغاء التحرش بها بسبب جمالها ورائحة عطرها المركز (الذي استعذبته خياشيم الذكور، فجذبهم من أنوفهم الجائعة حيث مصدر الشواء الحي.) في رغبة جائعة ومبتورة من هؤلاء الحثالة خوفاً من الكاميرات المراقبة؛ فهربت إلى عربة السيدات فقط. وجلست بجانب امرأة في العقد الرابع باحثة عن الأمان والدفء. لكن ما حدث كان فوق التوقع؛ وقد شعرت (بحركات أنامل مثلية تتسلل عابثة بصدرها، من جديد تفيق الفريسة على يد ناعمة تتسرب بين فخذيها). فالمسافة بين الرجل والمرأة في تلك القصة أصبحت صفرًا. أي لا يوجد أية مسافة من الأمان والثقة في أحدهما. فالكل يتحرش بالفتاة ولا توجد أية مسافات للحذر والخشية حتى من نفس جنسها. رغم أنها هرولت إلى العربة الأولى للاحتماء فكان الواقع الجائع صادمًا لها بشدة من امرأة مثلها أيضا تتحرش بها، وتريد أن تنهش لحمها مثل تلك الذئاب البشرية الذين قابلتهم في بدء القصة. إذا المسافة صفر من الإنسانية والرحمة والقيم والأخلاق للجميع.

2- قصة (اللفافة)(15). البطل عربي الطاير يقول ساخراً معترضاً على حاله البائس: (حسنًا.. أفلستني الملعونة “كو“؛ غيرت طقوسي؛ هأنذا أُطلق الكسل ثلاثًا بائنات)بينما هو يعدد مؤهلاته الخزعبلية في زمن الفهلوة والزيف والفنكوش. فهو خريج الجامعة الفنكوشية في السياسة والاقتصاد، ويحمل ماجستير في إدارة الأزمات المالية، وآخر في تنمية الموارد وتعظيمها، ويتقن ثمان لغات حية ومثلها ميتة يجيدها نطقا وصمتا وكتابة، ويعزف على العود والكمان والتشيلو والدرامز، ويتقدم في مسابقة كبيرة لاختيار أفضل بحث افتراضي في اللاشيء؛ وتضمن بحثه المُعجز كيفية تطبيق سوق عربية مشتركة وعملة موحدة أسماها الـ”نونو”؛ من أجل أن ينتقل من طبقته الفقيرة ويصبح من الأغنياء بعد الفوز، والحصول على المال الذي يعد بالملايين كما يتخيل؛ لكن يتفاجأ وقد أعطوه بعد الفوز والتكريم لفافة بيضاء بخطين زرقاوين متوازيين بمسافات محسوبة، وبداخلها ورقة شكر أولا: لعبقريته في ابتكار مشروع السوق المشتركة في الفهلوه، والثانية في صناعة جيل جديد من أمثاله. وتنص قواعد المسابقة على أن يتبرع الفائز بقيمة الجائزة لمعهد بحوث الفهلوة. فاللفافة البيضاء كان بداخلها حياة هذا الفنكوشي؛ بأن يترك الفقر والعوز والحرمان بحلمه الجائع والمتطلع إلى المال والغنى والثراء والعيش كما يستحق ، وكما يرى من قيمتة الثمينة؛ لأنه خريج الجامعة، وحاصل على ماجستير في كذا وكذا وكذا. وكله نصب واحتيال بصرف النظر عن أنه فقير؛ لأنه شخص محتال ولا يستحق أي غنى بمؤهلاته المخادعة، وهذا ما يستحقه من فقر. لكن لوكان فقيراً ومجتهداً وصادقاً ربما تحقق له ما يتمناه من ثراء باجتهاد حقيقي وصادق، وليس هذا العربي الطاير المحتال ضحية اللفافة البيضاء.

3- (أحلام جائعة). (16). تمثل هذه القصة حالة طوباوية لعلاقة حب بين زوجين مستمرة منذ تسعة عشر عاماً، ولازال يعشقها وحبه مثل النهر الجاري المتدفق لا يصيبه الجفاف. وتحكي القصة عن ذهاب الزوج مع زوجته الحبيبة لتعمل عملية الزائدة؛ وبينما هو ينتظرها في غرفة الافاقة. يسأل الدكتورة التي أجرت لها العملية عن أدق التفاصيل: هل تألمت كثيراً؟، وكم مرة قالت آه؟، وهل ذكرت اسمه ؟، وهل كانت متضايقه منه في شيء؟ و..و..و..إلخ. والدكتورة تستغرب بشدة من هذا الحب الأفلاطوني،وكأننا في المدينة الفاضلة وتسأل:” أيعقل أن يكون هذا الكائن من كوكبنا؟ّ! “. ومن شدة إعجابها بهذا الزوج الجميل طبقت نوبة عملها يومين متتالين دون راحة. حتى تستمتع بأجواءهذا الحلم الطوباوي معه، وتنفصل عن الواقع المجحف الذي تعيشه مع زوجها كما أثبتت نهاية القصة.وقد استمرت الحالة الرومانسية العذبة برقة ودهشة؛ عندما أحضر الزوج المتيم ثلاث وردات حمراوات طازجات في البدء. ثم بعد العملية حزمة من الورود تتباين ألوانها وهريسة لزوجته حتى تغير رائحة البنج ومذاق الألم، ومثلهما أيضا للدكتورة. حتى تأتي المفارقة المدهشة بجملة صادمة في نهاية القصة؛ لتقضي على حلمها الجائع الذي كانت تتمنى فيه أن يكون هذا زوجها الحقيقي، وليس هذا القادم في انتظارها ليأخذها إلى المنزل قائلا:” يلا بسرعة مستنيه إيه، هو أنا السواق بتاعك ياهانم؟! بقالي ساعة مستنيكي في العربية.. مش كفاية طفحتيني امبارح أكل بايت. “.

4- قصة: (من يشتري الوطن ؟!). (17). في تلك القصة توجد مفارقة عميقة بين عجوز يتحسر على فقدان الوطن وينادي عليه من الحسرة؛ لأنه ضاع وأصبح مستباحاً للأعداء الذين استحوذوا عليه بعد التطبيع، وعودة العلاقات مع جيرانهم. رغم أنه ليس وطنهم إطلاقاً وهم قوات محتلة بالغصب والعنف، وبين تفاقم الأمر من هؤلاء الجيران؛ لتمني الدعوة لزيارة تل أبيب “خذني زيارة لتل أبيب، أرجوك يالنشمي اللبيب… أنا بدوي ونهجي رهيب.. عاشت إمارات السلام. عن العرب عز الشعوب.. والقدس والدروب.. أدلها من كل صوب.. عاشت إمارات السلام ” (+) والمؤلف يشير في الهامش عن:(محطة الحافلات الرئيسية في تل أبيب في إسرائيل، تقع تحديدًا في جنوب المدينة وافتتحت في 17 أغسطس 1993.. تعتبر ثاني أكبر محطة حافلات مركزية في العالم.) والعجوز يتألم في حلمه الجائع إلى العروبة، وعودة الوطن لأصحابه والعيش في وطنهم المحتل.بل وهؤلاء العصبة الفاجرة يتفاخرون به مع من يؤازروهم وينصتون لأقوال الزيف والخداع والتضليل. إنه حلم كل وطني وشريف جائع للحرية والكرامة والسلام.

5- قصة: (معدة لقيطة). (18).( تبدأ القصة بداية قوية: (يسمع صوت زئير معدته يفترس جدارها المبطن بالجوع). وبطل القصة الجائع يذهب إلى الكافيه حتى يستطيع أن يحضر أي نقود ليشتري به طعام يسد به رمقه. وكالعادة في المقهى يجتمع صاحب أسطورة لعبة الدومينو مع أصدقائه ليلعبوا الميسر. ويطلب الصبي منه أن يعطيه أي نقود ليشتري به طعام لأنه منذ يومين لم يأكل؛ لكنه يرفض ويزيحه ويتهمه بالنحس؛ لأنه خسر الجولة الأخيرة في اللعب، وسيدفع حساب المشاريب، ويذوق الهزيمة لأول مرة في حياته. ويتهمه أنه السبب في هذا ويلعنه؛ لأنه أفقده تركيزه بإلحاحه المتواصل في طلب النقود. وينهض الصبي على ذات المائدة التي كانت ساحة قمار، ويتحسس ورق الدومينو الدافئ، ويتخيل نفسه يجلس أمام الخاسر، ويلعب معه ويراهنه إذا كسب أن يعطيه جنيه وساندوتش حوواشي. بينما لو خسر الصبي سيمسح حذاءه بقميصه، وفي خيال الصبي يدور الحوار برشاقة حتى يفيق الصبي المسكين الجائع منذ يومين على صوت طرقعة تقتحم أذنه قبل جلده السميك. (تحيط يده الباردة قفاه البرونزي الملتهب، منكسا رايته يخرج إلى الساحة، يذوب بالجماهير حاملًا أحلامه الجائعة.) من خلال معدة لقيطة مسكينة مثل طفل لقيط ليس لديه أبوان.

6- قصة: (نصف الكوب الفارغ) (19). تبدأ القصة بعبارة محورية وهامة في استرتيجية إدارة القصة ببراعة وإبداع 🙁 قررت أن أتوقف عن التذمر).ونتيجة لهذا القرار الحاسم لمواجهة القنوط والقهر الداخلي المكبوت سيذهب إلى طبيب العيون قبل موعد الزيارة الدوري، ويغير العدسات السميكة التي صنعت أخدودين أسفل جفنه ورؤية مشوشة بغيرها ذات الزجاج النحيف. ويتمادى في سحر هذا التغيير المزيف ليقهر أحلامه الجائعة؛ بأن كل شيء أصبح مثاليًا ورائعًا. ويكرر تلك العبارة الملهمة التي تبدو كجرس إبداعي؛ لاستكمال حدوتة العدسات الخفيفة الزجاج بعد أن نظر للنصف الآخر المليء للكوب. فباتت تلك العبارة كمفصل مهم لسيرورة القصة باحتراف:(ولأنني قررت التوقف عن التذمر.) قرر أن يشارك الصبية في مباراة كرة القدم، وقد كلفوه بحراسة المرمى، وفجأة تطيح الكرة بعدساته الرقيقة، ويعود لحالته الأولى والواقعية؛ وكأن تلك النظارة الشفافة لم تكن إلا وهم وسراب كبير تحطم كاملاً متناثرًا على الأرض. أي أرض الواقع السيئ فعلًا، وقد ظهرت الأمور على حقيقتها، ويعود إلى بيته مكسورًا، ويجلس قليلًا أمام كشك الجرائد؛ ليطالع عناوين الصحف المسائية بالبنط الأسود العريض: “أثيوبيا تبدأ الملء السادس.. مصر تنوع مصادر استيراد التوك توك.. إلغاء مجانية التعليم.. روسيا ترفض تصدير القمح إلى مصر.. كومباوند لكل مواطن بمقدم مليون جنيه.. هروب عالمين من علماء الذرة إلى أمريكا.. الدولار يكسر حاجز الخمسين جنيها.. إسرائيل تنقل عاصمتها إلى القدس باعتراف جامعة الدول العربية2% لا ينتخبون بشار). وأخيرًا يعود إلى بيته بمعدة فارغة، وزوجته تلعن أحلامه المبتورة الجائعة. وتلقي إليه بطبق من العدس (المسوس)، وقليلًا من المخلل، ونصف كوب من ماء المجاري المعالج. أعتقد أن عنوان نصف الكوب الفارغ لا يوحي بأية نظرة أمل. بأن الإنسان لابد أن يتفاءل ولا يكتئب من سوء وضع ما، وعليه أن ينظر إلى الجزء الممتلئ بأن لديه أشياء أخرى جيدة تستحق الحياة. لكن ما توحي به القصة غير ذلك؛ لأن الكوب كله في الحقيقة فارغ، وعندما حاول البطل ِملأه كان حزمة من الأوهام والأحلام الجائعة. بعد استعماله نظارة بزجاج خفيف وشفاف، إنه في النهاية خداع ووهم كبير أوقع نفسه فيه. وأن ليس من نصف كوب فارغ بل الكوب كله فارغ؛ ويحتاج إلى الكثير حتى يمتلئ، ونستحضر القوة في مواجهة هذا الواقع المزري بالفعل من كل جوانبه، ولا يبعث على التفاؤل. إنما أحلام جائعة وجائعة باستمرار. كما ذكرت عناوين الصحف بكل صراحة عن مدى تدهور الأوضاع في شتى الجوانب. وأن النصف امتلأ بكوب من ماء المجاري المعالج الغير صحي.

7- قصة: (ثلاثة أصفار). (20). تمتد حالة عدم الشبع وإن كانت في تلك القصة تعبر عن محاولة سد فجوة الحلم الجائع. للعيش أمام البحر بأن يقوم البطل الذي يعمل موظف بالاقتراض من البنك قرض بقيمة مائة ألف جنيه؛ ليكمل شراء الشقة التي يحلم بها في منطقة “كامب شيزار بالإسكندرية وتطل على البحر مباشرة بزاوية نصف دائرية، وبعد معاناة أسبوعين من سباق الروتين الممل، وتواصله مع أقرب صديق له يفوز به؛ رغم أنه سيثقل كاهله طيلة خمس سنوات مريرة، وسيحاول أن يتكيف مع حالة التقشف الممتدة لسنوات مع أسرته. ويحكي الراوي كل تفاصيل هذه الرحلة الخيالية بداية من وضع المال في عشرة أكياس متفرقات، ووصف مشاعره وأحاسيسه، ومدى الزهو والفرحة التي يشعر بهما؛ لأنه سيسكن أمام البحر ويعيش وسط هذا الجمال الفاتن، وكأنه يعيش في أوروبا حلمه القديم منذ الطفولة أنه سيغزوها بمخترعاته العبقرية. وكل شيء من وجهة نظرة قد تبدل وأصبح يوحي له بالتفاؤل والفرح. حتى صور له خياله أن المارة ينظرون له نظرة مختلفة؛ لأن أثر النعمة بدا عليه بسرعة بسببها، ويستطرد الكاتب في وصف كل شيء وصولاً إلى الشقة الفاخرة، ويتذكر حبيبته التي هجرته وغادرت جميع مواقع التواصل الاجتماعي حتى يفقد الأمل في عودتها إليه تمامًا. حتى تأتي الصدمة الواقعية كحال جميع الأحلام الجائعة والمبتورة؛ وهو يفيق على نداء أحد العمال يريد أن ينظف المكان، ويخبره بسخرية أن حلمه الجائع رقم:(43). التي تعادل مساحتها 1200 متر ثمنها الحقيقي هو 40 مليون جنيه، وليس 400 ألف جنيه؛ ليفسر عنوان القصة ثلاثة أصفار العتبة الحاسمة لهذا الحلم الجائع. من قسوة الواقع، وهذا الموظف المسكين يترنح بين رغبة الشبع ومأزق الجوع والقهر.

8- قصة:(نشيد القطيع)(21) تبدأ القصة من نهاية ما حدث للبطل، وأدى به للتفكير في الانتحار :(يحمل البنزين ومعه أثقاله متجها حيث الالتحام بالجماهير ذوي البشرة الداكنة.). وذلك بعد الافراج عنه؛ لأن صاحب المصنع قدم فيه بلاغ ضده يدعي فيه تحريضه للعمال ضد قرار تجديد زيوت الآلات؛ بإحالة العشرات إلى التقاعد المبكر، وصرف نهاية الخدمة عشرة ألاف جنيه ناجية من التعويم. تصرف على أربع دفعات ولا تكفي شيئاً قائلًا بحسرة: “ثلاثون عاما يدور كثور هادئ في ساقية السيرة الحسنة. نال من قبل ميدالية العامل المثالي عشر مرات. الآن بات من الضالين)وماذا سيصنع بتلك الآلاف العرجاء؟ّ! أمام مسؤوليته الأسرية والديانة والفواتير المؤجلة؛ فيقرر أن يذهب إلى الميدان ويحرق نفسه حتى يصل هناك. وفي صدر الميدان يوجد مطب صناعي في منتصفه تجلس سيدة على كرسي متحرك هرم. تمد يمناها بصوت أصابه الوهن والهوان: لله يا محسنين، حسنة قليلة تمنع بلاوي كثيرة، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. يشفق عليها سعيد ويعطيها أخر جنيه معه. لكنها ظنت أنه مخبر يلاحقها ففرت هاربة؛ فاندهش من تلك الحيلة المخادعة لاستدرار عطف المارة بها، وتلفت يمينًا ويسارًا ودونما وعي يسقط البنزين، واقترب من الكرسي جالسًا فيه، ويردد نشيد القطيع: لله يا محسنين …………….؛ فعنوان نشيد القطيع هو حال العامة من الفقراء والمهمشين في تلك الحياة. لا يعرفون غير إجادة نشيد القطيع من الشحاذة والنصب والاحتيال بأي الطرق حتى يستطيعوا العيش. حتى ولو كان على حساب الكرامة والعدالة الإنسانية. واللافت أيضا للنظر أن اسم البطل هو سعيد، ويتناقض بشكل فانتازي وكوميديا سوداء تسخر من حاله البائس. عن شخص غير السعيد إطلاقًا؛ بل وكاد أن ينتحر من قهر الظروف والمجتمع الجاحف.

9- قصة: (باريسية) (22) تحكي عن رجل بمواصفات خمسينية: (يحمل كرش خمسيني، وتجاعيد خمسينية، نظارة قعر كوب خمسينية، عرجة خمسينية، ويجهز نفسه للكفن، حيث لم يتبق سوى الاستقرار على حفرة تليق بعقوده الخمسة، وهاتف هرم قديم دون أمل في محاولة تجديده.) ويتعرف على سيدة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي تتواصل معه للتقديم في المسابقة الدولية للقصة القصيرة، ويساعدها في خطوات التقديم، وتدقيق القصة حتى تفوز بالمركز الأول. ويعتقد بعد أن اطلع على حسابها أنها فتاة على مشارف الثلاثين، وترفل في ثوب فرنسي؛ لأنه يعشق كل ما له علاقة ببلاد النور والملائكة من: الشكولاتة، والجبن، ولحم البقر، والبرفان الفرنسي؛ لتصبح حلمه الجائع كما يتمنى الحب والفورة الشبابية بالارتباط من فتاة بمواصفات فرنسية. حلمه بالضبط وتتواصل معه لتشكره وهو يهنئها على فوزها بالمركز الأول في المسابقة، ويقرران أن يتقابلا ويحتفلا سويا؛ وكالعادة كما حدث في القصص السابقة يفاجأ البطل عبد السميع الغلبان بأحلامه الجائعة. أن أمل الباريسية المزيفة تمامًا. ما هي إلا سيدة عجوز شمطاء، وملامحها بها الكثير من التجاعيد خلف نظارة قعر كوب هندي سميك. القصة تتمم زمرة تلك الأحلام الجائعة عن رجل خمسيني يحاول أن يجدد شبابه وحياته الراكدة بالاقتران بفتاة على مشارف الثلاثين ناضجة وجميلة وباريسية المواصفات كما أشار العنوان باريسية. والمفارقة أيضًا أن اسمها أمل ، ولايوجد فيها أي أمل ؛ لتشبع جوع حلمه في الحب والحياة.

10- قصة: (كريرا). (23). أيضاً في تلك القصة يتحدث عن حبيبته الباريسية من حي (مونمارتر) الشهير. تلك السيدة الوفية والتي رافقته في الأفراح والأحزان. والشاهدة على تاريخ خيباته ومشاريعه الفاشلة، ورغم هذا الوفاء منها لم تكن لتغار يومًا. ثم فجأة في حادث عبثي يفقدها بكل قسوة قائلاً ومعبراً عن مفردة الأحلام الجائعة المتوالية في تطلع روائي على الدوام:(انشطرت حبيبتي مائة شقفة، لتمنيت أن ألقي نفسي أسفل هذه العجلات الجائعة، لتحيا هي، حتى ولو مع غيري.) وقد تحول وصف الجوع هنا إلى العجلات الشيء الساكن والجماد؛ ليتحول إلى كائن حي يشتهي الفتك ونهش لحم كريرا الوفية والحبيبة؛ وتصبح العجلات الجائعة. وتأتي المفارقة أنه رغم حزنه أصبحت الرؤية عنده غير واضحة، فتوجه إلى قسم البصريات ليشتري نظارة مصرية؛ لأن الرجال لا يصبرون دون أنثى، ولا يبكونها سوى عند قبرها. ولأن كريرا هي رمز الحب والإخلاص والوفاء كانت العنوان الأمثل داخل بوتقة الأحلام الجائعة؛ لأن كريرا الجميلة بصفاتها قبل شكلها الظاهري كانت كالحلم الكبير الذي يجوع إليه البطل؛ ليتحقق مثلها في جمالها ووفائها؛ لأنه لم يكن مخلصًا مثلها بتاتًا بل ذهب مباشرة بعد وفاتها للبحث عن أخرى مصرية بكل جحود ونكران. رغم ما قدمته له حبيبته الباريسية.

11- قصة:(وظيفة أربعينية). (24). يحكي البطل عن هذا اليوم التاريخي من حياته والخروج على المعاش والتقاعد؛ وقد سلمه المدير الجديد هدية التقاعد بكل برود وابتسامات مزيفة. وبدأ يشعر بالوحدة والاكتئاب لجلوسه في البيت لفترات طويلة؛ وأصبح يراقب الجميع من أهل بيته ويعلق على كل شيء يعجبه أولا يعجبه، ويتدخل في أدق التفاصيل بعصبية وتذمر في أحيان كثيرة. حتى ملّوا منه وتمنوا عدم وجوده المستمر هكذا في البيت. مثل الأوقات الماضية عندما كان يذهب إلى العمل، وينشغل بأموره فيه. فبدأ يتنقل بين المقاهي والمولات والمنتزهات حتى وجد ضالته في زميلته السابقة، وعندما أخبرته بوفاة زوجها تزوجها، وأخبر الأولى أنه يعمل خبير أمن ليلي في بيت مدير المخابرات. وسعدت كثيرًا حتى ينشغل عنها، ولا يتدخل في كل تفاصيل البيت. حتى أُحيلت الزوجة الثانية على المعاش وتقاعدت في المنزل؛ فأصابها الهم والحزن، وبدأت تتدخل وتدقق وتسأل وتشاكس في كل شيء يحدث أمامها. مثلما كان يحدث معه مع الزوجة الأولى بعد التقاعد والجلوس في البيت. وبدأت الزوجة الثانية الحديثة في التقاعد تعاني من صدمة الخروج على المعاش، وما يجلبه للبعض من الشعور بالوحدة والملل والزهق، وأصبحت مثله في الطباع تفتعل المشاكل وتتنمر على كل شيء. بل وبدأت تنفر من هذا الزوج حتى سألته: لماذا لا تبحث عن تغيير أجوائك؟ يطيع نفورها.. ينزل إلى الشارع.. يبحث عن وظيفة أربعينية. الحلم الجائع إلى العمل والنشاط دفع هذا الرجل للزواج من أربعينية؛ حتى يعوض جوعه من مشاعر الحزن والهم الذي طاله بعد أن ترك الوظيفة بشكل اضطراري، وأصبح لا يشعر بوجوده وظن أن حلمه الجائع سيستوي ويشبعه بالزواج. لكن مرت السنوات وأصبحت هذه الزوجة الأربعينية مثله. بل وتطالبه بالبحث عن أجواء أخرى بدلًا من الجلوس بجانبها هكذا في البيت؛ لتنقلب حياته في محور البحث دومًا عن وظيفة أربعينية مع امرأة أخرى وأخرى في سن الأربعين؛ حتى يشبع حلمه الجائع إلى الامتلاء والشعور بالحياة التي انتهت بعد تقاعده من وجهة نظره.

12- قصة: (رعب محمود). (25). تلك الأسطورة الحكائية التي تفسر لغز انقطاع التيار الكهربائي عن القرية منتصف الليل. وكان أمرًا غريباً حاول القرويون معرفة السبب لكنهم لم يحصلوا على إجابة، وشعر بعضهم أن هناك أقداماً ثقيلة ربما تكون أشباحًا، وانتشر الخبر في القرية حتى فسرها لهم حكيم القرية الذي اشتهر بين القوم بـ”أبو العريف” حكاية محمود العاشق الذي كان يعمل أجيرًا لدى عمدة القرية مقابل قروش معدودة،وقد كان شابًا وسيمًا حد الهوس؛ وتتمناه جميع فتيات القرية، أصابه عرج في ساقه اليسرى، أحبته إخلاص ابنة العمدة وقد فتنت به رغم عرجه. لكن تربص به شيخ الخفر وعذبوه بأشد ألوان العذاب حتى مات؛ لأنه تجرأ على أسياده وأحب ابنة العمدة. عقب اغتيال العبد محمود الشاب الوسيم يستيقظ شبحه حاملًا فأسه التي جعلوها رفيقه في حفرته. (يغادر هيكله كل خميس حولًا في الليالي القمرية لمدة ثلاثة شهور؛ فتحجب نور القمر عن ليالي بدور القرية؛ ليبقى هؤلاء تحت احتلاله.. فقط أهل القرية من يغطون في ظلام حالك، بيد أن القرى المجاورة تنعم ببريق القمر الحر) ويقرأ الحكيم فقرة أخيرة من مذكرات جده:(تقول الأسطورة أن لعنة محمود حلت على القرية، حينما يخرج شبحه بعد منتصف الليل يبحث عن نسل من اغتالوه، وقد يعترض طريق من يردد اسمه أربع مرات)والحذر كل الحذر أن ينطقوا اسمه أربع مرات؛ لأنه ساعتها سيحضر ومعه فأسه الجائع يبتر بها الرؤوس. ليتخيل القاص الفأس في القصة مثل روح حية جائعة للثأر والدماء. مثلما تخيل في القصة السابقة عجلات القطار كائنًا جائعًا للقتل مع الحبيبة كريرا. وفجأة يصمت الجميع ويشعرون بالرعب من فأس ذلك العبد الجائعة للثأر. وتأتي المفارقة المعهودة الاستخدام في أغلب قصص المجموعة، لنفيق على الواقع المر؛ وأن ما كان وحدث من أحداث سابقة في القصة هو مجرد تخييل للتعبير عن الحلم الجائع بمخيال خصب، وسلاسة ومرونة سردية في التناول أثناء متابعة القراءة؛ لاكتشاف ألغاز تلك الأحلام الجائعة المثيرة للدهشة والقراءة. وكان الحل الفني لفك لغز انقطاع الكهرباء قد انحلت شفرته. حين يأتي من بعيد صوت يهرول: أأمرني يابشمهندس)(بسرعة يامحمود روح للكشك الرئيسي ووصل الخط الفرعي لقرية العبيد، الشركة ياسيدي قاطعة عنهم الكهربا أسبوع، قال إيه… بتأدبهم عشان بيسرقوا الكهربا).وأن عنوان القصة رعب محمود رعب مزيف، وأن الجهل والتخلف هما سبب إخراج أسطورة محمود لا غير؛ لأنهم كانوا يحلمون بالنور والإضاءة، ويجوعون إليه بدلًا من الظلام والأشباح المرعبة.

 13- قصة: (السقوط لأعلى)(26). يمتلك توفيق إصطبل خيول بمنطقة نزلة السمان، بالقرب من منطقة الأهرامات للعمل مع أفواج السياح المغرمين بركوب الخيل، والتقاط الصورة؛ لتخليد الذكرى. وقد استيقظ على صوت الصهيل في حظيرته الخاصة بسبب الفتى المراهق اليافع المكتمل الفتوة الحصان أدهم. منذ ثلاث سنوات وتوفيق يحاول أن يروضه حتى يتأدب؛ ولا يثير الشغب والتمرد وأذى زملائه في الإصطبل. وهو يختلف تمامًا عن (تلك الإصطبلية الهادئة القانعة والخانعة دائمًا الراكنة إلى الكسل، فما عليها إلا أن تستيقظ مبكرًا لتشارك في عرض يستمر لساعات عند قدمي منكاورع، ومحظوظة هي من ترتقي درجة لتحمل سائحها أسفل قدمي أبو الهول. بينما هذه التي تتسلق الهضبة لتحمل مستأجرها إلى الدرجة الأولى لعجيبة الدنيا الأولى) وهذا الاختلاف والتفوق للفتى أدهم لم يأتِ من فراغ عندما نعرف حقيقة أمره. أن بائعه الأول سلكاوي قد اشتراه من هجّام قد سرقه من مزرعة خيول أصيلة، وليس كما أخبر توفيق أنه اشتراه من أحد هواة تربية الخيول بالشرقية. المهم أن توفيق سئم من عناده وثورته فعذبه ومنع عنه الطعام والشراب لوقت. ثم أعاد وضعهما لكن الحصان الأصيل أبى أن يأكل أو يشرب بعد كل هذا الذل والعذاب الذي وقع عليه بشدة، واختار أن يموت بكرامة وشموخ وعزة أتيه من أصله الكريم والعزيز ويعترف:” إذن الموت بشرف على العيش كحصان إصطبل..”؛ وأخبر الطبيب توفيق أنه لابد أن يموت ليخلصه من السكرات سريعًا. لكنه قرر أن يلقيه على الطريق الصحراوي يكابد الموت دونما رحمة. وبالفعل أغمض أدهم عينيه مستسلمًا لشهقاته الأخيرة مودعًا حياة تمناها ولم يعشها؛ حتى ينقذه شخص عابر اسمه فارس في الطريق، ويحاول علاجه حتى يصحو مرة أخرى:” يعود إلى فارس يهز ذيله.. يحيطه بفمه.. يُسقط دمعتين.. يرفع رأسه. ثم يسقط واقفاً..). هكذا كان حلم الحصان أدهم الأصيل أن يسقط وهو واقفًا شامخًا. دون ذل أو انكسار بكل كرامة وعزة؛ لأنه أصيل ومن أسرة عريقة وأصيلة. ومن الملاحظات الشديدة الرهافة إضافة الوصف: (الفتى المراهق اليافع المكتمل الفتوة) لهذا الحصان الأصيل. مثل أي إنسان أصيل لا يقبل الإهانة بتاتًا، ويختار مباشرة الموت بكرامة وشموخ حتى لو كانت النهاية هي السقوط؛ فليكن سقوطا عاليًا وشهيدًا يفتخر به داخل نفسه العزيزة. بل والجميع ينحنون له احترامًا وتبجيلًا؛ لاعتزازه واختياره الملهم.

ولكن عن ماذا سيكون حديثنا عن القصص الست الباقية؟:(حارس المبولة، آمال حبلى، اغتيال طبلة، مساحيق الغربة، الخيط الأبيض، ميتافيرس)(فكان أن توصلت الدراسة إلى توليف “استراتيجية منهجية للقراءة النصية”، تقوم على “استراتيجية بعيدة المدى”، وتشتغل وفق مفهومات السيميولوجيا والهرمنيوطيقيا والتفكيك، لتدفع بـ”الاستراتيجية قريبة المدى” إلى الظهور واحتضان العنونة، ومقاربتها وفق مستويات متعددة: بنية العنوان في أبعادها التركيبية والدلالية والمجازية أولاً، وثانياً جدلية العنوان والنص بما تنطوي عليه من علامات متنوعة ومختلفة: الحضور الدلالي واللفظي للعنوان في النص، وتكثف النص في العنوان، وعلاقة العنوان بالعناوين الداخلية، وثالثاً العنوان في التناص، ليكون هذا المستوى محفلاً، لرصد تفاعلات العنوان مع النصوص والعناوين الخارجية، فضلاً عن إتاحة المجال لمقاربة مستويات أخرى ذات علاقة بالعنوان، تبعا لخصوصية النص الخاضع للقراءة النصية.).(27).

بمعنى أن الاستراتيجية القريبة المدى أو المباشرة قد تحققت في القصص الستة عشرة السابقة باتخاذ العنوان طريقًا مركزيًا لتفتيح المواضيع، وتكوين رؤية عن تفاصيل أحداث كل قصة على حدى بريادة العنوان الأم ((أحلام جائعة)). ثم العناوين الفرعية مثال: (المسافة صفر، اللفافة، من يشتري الوطن؟! …. إلخ).

بينما الاستراتيجية البعيدة المدى أوالغير مباشرة؛ لتتمة الاحتفاء بظاهرة العنونة المطروحة كتأويل ظهرت إلى حد ما في تلك القصص الستة السابق ذكرها في البدء. سواء كان على المستوى الشخصي كقصة: (اغتيال طبلة)، توضح محاولة هذا العازف على إحدى الآلات الموسيقية العمل والنجاح أمام هذا الجمهور الجائر، والمتحكم في توجهاته في تلقي الفن، ولكن الآلة الموسيقية تغتال هذا الفنان وتسقط وينهزم أمام الجمهور المتعصب. وعلى المستوى العربي تأتي القصص التالية:قصة: (حارس المبولة) الذي يجلس عاملا أمام الحمامات يحرسها، ورائحتها عفنة وكريهة للغاية بسبب عدم وفرة المياه؛ بل وهذا الحارس الملعون يتقاضى نقود من المارة في مقابل الدخول رغم عدم توفر ماء للتطهر؛ لأن الحارس ممول ومقيت ينفذ أجندة مصالح الدول العدائية؛ من أجل التحكم في المياه وبيعها وإفقارنا. وكذلك قصة:(آمال حبلى) عن وفاة الشابة الحامل في عمر الثلاثين أثناء قصف الاحتلال لإحدى البنايات. وقصة:(مساحيق الغربة) عن فتاة عربية تعيش في (لندن). وتعاني من الشعور بالوحدة والاغتراب الشديد في هذا المنفى البارد بدمائه الباردة وسط الجليد. وحلمها الجائع لذكريات الطفولة، وهي تمارس مع صديقاتها ألعابهن البسيطة: (أحبوه الزقيطة، ودق الحابي، وطاق طاق طاقته”. (28)وأيضاً قصة: (الخيط الأبيض) عن حلم الأمومة الجائع بعد أن فقدت ابنتها (سمو البرنسيس)بعد تجربة قاسية ومريرة مع زوجها المدمن. وأخيراً على المستوى العالمي في قصة:(ميتافيرس) باختراع تقويم جديد مغاير لما لدينا بالفعل يسمى تقويم افتراضي في عام 2030؛ وفحوى تلك التغيرات الخيالية التي ستقلب كل شيء رأسا على عقب بحجة التطور والمستقبل الجديد المصدرة إلينا. بدعائم علمية ومستجدات فوق التصور بمقترحات مستقبلية مخيفة. أظنه يؤدي إلى تحطيم القيم الدينية والقيميه والمعرفية الثابتة؛ من أجل صنع الإنسان المسخ، المشوه والمفرغ من كل المثل والأعراف والتقاليد والجذور العريقة بسوائل وأرقام ومعادلات. أعتقد فيها من الأضرار أكثر منها فوائد لخدمة البشرية بشكل سلمي ومفيد. وتعرض الكوكب للهلاك الروحي والمادي. نموذج القنابل والآلات المدمرة التي كانت في الأصل مجرد أفكار، وتم اختراعها لكنها دفعت البشر إلى حروب طاحنة، وأدت للخراب والدمار وفناء الحياة.

أرى أنها كلها أحلام جائعة ومجهضة، وإن كان التوجه الاستراتيجي في تلك القصص بالتحديد بعيد المدى وغير مباشر، عن القصص السابقة المذكورة في البدء كما نوهت من قبل. وهذه كلها رؤى تحمل الصواب والخطأ في كل الأحوال. (فإذا أدركنا أن فعل “العنونة” يُنجزُ وجوده الأنطولوجي في حدث “التسمية” فيمكننا تأويل عملية التسمية بـ”العنونة غير المباشرة” في مواجهة” العنونة المباشرة” التي تجد في فسحة الكتابة مجالًا لممارسة ألعابها وغواياتها)(29).

 لنصل في النهاية أن سرديات الأزمة المتفاقمة على كل الوجوه في تلك المجموعة القصصية المثيرة للعديد من الملاحظات؛ قد حققت بالنسبة لي إشباعًا سرديًا فنيًا عالي القيمة الأدبية. فرغم أنها كانت أحلام جائعة ومحرومة من أبسط حقوق الإنسان الطبيعية؛ لكن أيضاً أتفق مع إهداء المؤلف: ربما كانت أحلامي جائعة؛ لكنني حققت أعظمها في متعة القراءة، وتناولها بذائقة أدبية لا غير.

 الهوامش:

  • انظر المصدر: في نظرية العنوان؛ مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية، د. خالد حسين حسين، الناشر: التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، ط1: 1/1/2007م. ص: 7. 
  • انظر المصدر: ص: 8.
  • انظر المصدر: ص: 17.
  • انظر المصدر: ص: 8.
  • انظر المصدر: ص: 10. (منقول بتصرف).
  • أحلام جائعة: ص:38-41.
  • أحلام جائعة: ص: 25- 33.
  • (نفسه): ص:34- 37.
  • (نفسه): ص: 36.
  • انظر المصدر: ص: 16- 17.
  • انظر المصدر: ص: 10.
  • انظر المصدر: ص: 18
  • أحلام جائعة: ص: 5.
  • أحلام جائعة: ص: 7-11.
  • (ن). ص: 12- 16.
  • (ن). ص: 17- 24.
  • (ن). ص: 38- 41.
  • (ن). ص: 42- 46.
  • (ن). ص: 47- 50.
  • (ن). ص:51- 56.
  • (ن). ص: 57- 59.
  • (ن). ص: 65- 70.
  • (ن). ص: 77- 79.
  • (ن). ص: 83- 87.
  • (ن). ص: 102- 106.
  • (ن). ص: 107- 112.
  • انظر المصدر: ص: 8- 9.
  • أحلام جائعة: ص: 88.
  • انظر المصدر: ص: 25.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى