مقال

الكتاب والمغترب

بقلم: هيثم نافل والي
إذا أردت أن تتحدث مع أحدهم عليك أن تعرف أولاً بأنه يمتلك أذنين ويسمع؛ فما فائدة بث الهموم أمام تمثال من الحجر؟! والمتنبي في هذا الصدد يقول:

أعز مكان في الدنى سرج سابح

وخير جليس في الزمان كتاب

في حين يخبرنا أبو العلاء المعري قائلاً:

مشيناها خطى كتبت علينا

ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منيته بأرض فليس

يموت في أرض سواها

لا نود هنا أن نتطرق إلى البديهيات المسلم بها عن مدى أهمية وضرورة الكتاب في حياة الناس، ولو بدأنا سوف لن ننتهي على الرغم من أننا في بلداننا التي مازالت نامية تحبو، أو تسعى للنمو لتتعلم السير والمشي تحتاج لتذكيرها والعودة لها كوننا أناس لا نقبل التسليم بالبديهيات إلا إذا تم قطع رؤوسنا أولاً ثم يعرضوننا للنار كي نتطهر من ربق عاداتنا وتقاليدنا وما علق في أذهاننا منذ مئات السنين!
لكن، يمكننا ببساطة اختزال ما نريد قوله بجملة واحدة تكون كالسهم المنطلق لتعبر عما نريده:
إذا أردت أن تعرف رقي وسمو وتطور الشعوب أنظر إلى فنونها، وإبداعاتها، وهنا تبرز إلى مخيلتنا مباشرةً عملية الخلق الكتابي كونه أحد أهم الفنون التي لا يستطيع البشر الاستغناء عنه، خاصة النثري منه في صنع التغير وبالتالي قيادة الثورات نحو الإصلاح!
حصرنا رؤيتنا اليوم على نقطة جوهرية، ألا وهي، حياة المغترب ومدى علاقته بالكتاب. ثم نعرج عن حياته قبل الاغتراب لنتعرف عليها وفيما إذا تغيرت تلك العلاقة سلباً أم إيجابا، ضعفت أم سمنت! تراجعت أم قويت.. وهل اختلت واختلفت الموازين والمعايير الحياتية الكتابية لديه؟ هذا ما سنحاول معرفته عن كثب..
يقول شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري واصفاً حاله وهو في حالة اغتراب:
يؤلمني فرط أفتكاري بأنني سأذهب لا نفعاً جنيت ولا ضررا
الغربة عالم متفرد، لا يعرفه غير من يعيش في بيئته! عالم خاص جداً، لا يشبهه أي عالم سوى نفسه! وفي حياة الغربة نلقى كل شيء، التناقض، الغرابة، الحرية، الفقر، الغنى، الانفلات، النسيان، فقدان الذاكرة، تحلل الأخلاق، السير في طرق مظلمة، متعرجة لا يعرف لها رأس ولا ذيل، ونبذ الكتاب الذي هو عمود أساس مقالنا المنكوش يتصدر واقع المغترب المغبر المنحوس الذي له لون التراب وطعم الزقوم وكأن ما يعيشه تمتد أصوله إلى أهل النار والأشرار!
تجد الأسواق والمحال التجارية منتشرة في كل ركن وزاويا من شوارع المدن الأوربية وبكافة أنواعها التي تخطر على بالكم والتي لم تروها حتى في الأحلام إلا أن تجد مكتبة عربية تعرض بضاعتها المغضوب عليها بحكم الزمن الأغبر، لا، لن تجدها!
عجباً، المكتبات في بلداننا كانت السمة الغالبة على مدننا؛ تتنافس فيما بينها على ما تملكه من كتب وجودتها، بالإضافة إلى فخرها باسمها، عمرها، مكانتها، روادها، وكيف تستقطب المبدعين من كتاب البلد ليكونوا زبائن دائمين عندها؛ لكن في الغربة لا أحد يجازف، أو حتى يفكر بأن يفتح مشروعاً لعالم الكتاب، فما ينتظره محسوب بدقة لا تقبل الشك، الخسارة الفادحة بالجهد، والمال، والوقت، وبالتالي خراب البيت العائلي!!
لو تم الإعلان عن حفل لمطرب لوجدنا عاصفة من الجمهور تنتظر أمام المسرح يتقاتلون كي يدخلون، يدفعون الغالي والنفيس للحصول على تذاكر الحجز.. في حين لو عرفنا بأن هناك كاتب مبدع، متميز يود إحياء أمسية ثقافية للتحدث عن علاقة الإنسان بأخيه، وللترويح عن العقل، وترويض ذهنه الذي غالباً ما يكون فالتاً بسبب تعاسة الغربة وشقاوتها الجهنمية، وقتها لن نجد من الحضور غير الكراسي الشاغرة الحزينة الباردة التي نعتقد بأنها ترفض بشدة واقعها هي الأخرى، وبعض من أصحاب وأصدقاء المبدع ونفر من عائلته جاءوا للمجاملة، والمحاباة، ورفع المعنويات لا أكثر كيلا يشعر بالإحباط أو اليأس، وربما يدخل في دوامة الكآبة التي لا يخرج منها إلا بتسليم الروح لبارئه!!
ترى كيف يمكن للإنسان الذي يكون في بلده قارضٌ للكتب يصبح بسهولة مستهلكاً لكل شيء إلا الكتاب الذي لا يقربه؟!
هذا الاختلاف الجوهري في حياة المغترب أثر بشكل سلبي على حياته وحياة المقربين منه مثل أولاده الذين يولدون على ثقافة هامشية، سطحية لا تراعي فيها قيمة الكتاب ولا تقدره!
كان التنافس في السابق وقبل الاغتراب على اقتناء الكتاب على أشده بين الطبقة الواعية المثقفة المحبة للقراءة والمطالعة، وفي كل مجالات الحياة، ثم يتباهون بما لديهم من كتب متوفرة عندهم ويفتقدها الآخرون! في حين لو دخلت بيوتهم المغتربة تجد زجاجات الشمبانيا والويسكي هي التي تتصدر صدورهم، وليست الكتب التي كانت تمثل أساس وركن وعمود بيوتهم! وإذا تحدثوا تجدهم عباقرة زمنهم، يسترسلون دون هوادة على صيت وسمعة الناس إلا الكتاب لا يأتي على ذكرهم، ولا حتى على طرف لسانهم وكأن الأخير مرض معدٍ لا أحد يقربه خوفاً على صحته!
الإنسان لا يتغير بسهولة كما نتوقع، بل يحتاج إلى زمن طويل كي يعتاد، لكن مسألة الكتاب وعلاقته بالإنسان الذي كان يقرأ ويطالع، ثم يهمل تلك العادة وذلك الطبع لهي مسألة شائكة يصعب حل خيوطها وفك عقدها، فكيف يمكن لذلك الإنسان أن يكون النقيض تماماً؟ ثم نراه يعيش الغربة وبكل جزئياتها الخيرة والشريرة دون أن يرجع له عقله، وصوابه، ورشده ليعود فيقرأ؟!
ألم أقل بأن عالم الغربة متفرد، خاص جداً، لا يعرفه إلا من يعيش وسطه، وربما يحتاجون هؤلاء من يدق على رؤوسهم كي يعوا ثم يفتكروا!.. طوبى لمن حافظ على أصله، وأبقى علاقته بالكتاب كما كانت قبل وبعد الاغتراب، وإلا سيكون الجاهل كالمتعلم، البريء كالمجرم، الظالم كالمظلوم، والحاكم كالمحكوم والعياذ بالله. هكذا هو طبع الإنسان لم يتغير، يمارس الشر حتى لو لم يستفد منه!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى