في ظلال أشجار البونسيانا
بقلم: د. محمود رمضان
تحت ظل تلك الشجرة ولدت حكايتنا، سبق ميلادها وظلها الوفير، ميلادي في الحياة بسبعة عشر عاماً، فقد زرعتها جدتي حليمة في عام 1950م رحمها الله رحمة واسعة وغفر لها، على حافة مصرف صرف قدري العمومي على يمين ويسار القنطرة التي كانت تربط الطريق العام وفرع بحر أنسي المتفرع من بحر وهبة وعدة طرق ببعضها عند مدخل عزبة اللواء شكري جرجس بُقطر سابقاً( عزبة السادة آل عنصيل حالياً) بمنطقة المظاطلي التابعة لمركز طامية محافظة الفيوم .
وتزدهر أشجار «البونسيانا (Delonix regia) أو “الرنف الملكي” أو المُتَوهِّجَة بأوراقها الخضراء الزاهية وزهورها الحمراء الجاذبة في شوارع مصر وحدائقها في فصل الصيف بشكل لافت، إذ تُعد من الأشجار المفضلة لدى المصريين منذ أن جلبها الخديوي إسماعيل ضمن أشجار آخرى بهدف تزيين وتجميل القاهرة في القرن التاسع عشر الميلادي.
وموطنها الأصلي مدغشقر، وتُزرع كنبات للزينة، وفضلًاً عن قيمتها الزيتية، فالبونسيانا الحمراء أو الملكية، شجرة ظل واسع ولا تنمو لارتفاعات عالية، وتتحمل دراجات الحرارة والرطوبة العالية بشكل عام، وتتميز بأوراق سرخسية الشكل، ومظهرها المزين بالزهور.
وتنمو في كثير من أجزاء العالم الاستوائية، كما يحرص العديد على زراعتها لقيمتها الجمالية أيضاً، وتحمل أشجار البونسيانا بذورًا داخل قرون طولية، وبذورها صغيرة الحجم، وموعد زراعة الشجرة في شهري مارس وأبريل، حيث يصل طولها بعد شهر إلى 15سم تقريباً.
كُنت إلقي عليها السلام في كل صباح حين كُنت وأشقائي نذهب مبكراً إلى المدرسة الإبتدائية في عزبة قدري عبر الطريق غير الممهد وسط الغراقة الشهيرة بحري البحر؛ وكانت رحلتنا إلى تلك المدرسة سيراً على الأقدام تستغرق حوالي 20 دقيقة يومياً، وحين تطورت الحياة في بداية السبعينيات من القرن الماضي استخدمنا الدواب أي (الحمير) لنركبها ولتحقيق راحة أفضل من عناء السير على الأقدام، بالإضافة إلى تخفيف ثقل الشنطة القماش المدرسية وحملها الذي احنى ظهورنا نحن أطفال تلك الحقبة.
واتذكر كم شاهدنا من الحيوانات المفترسة مثل الذئاب والثعالب وبعض من الفصائل الآخرى؛ بالإضافة إلى أنواع مختلفة من الزواحف والطيور الجارحة بشتى أنواعها في تلك الغراقة التي كانت تمثل خطورة كبيرة على حياة الجميع.، وقد تبدل الحال بالنسبة لتلك الغراقة ومُهدت الطرق بها وأصبحت أراضيها من أجود الأراضي الزراعية لخصوبة تربتها، وجادت بالخير الوفير على من يزرعها في الوقت الحاضر.
كانت شجرة البونسيانا وأختها الواقعتين على مقدمة المدخل الخاص بعزبتنا هما محور حياتنا اليومية، عندها يبدأ الصباح كما سبق وأن ذكرت، ونعود نحن الأطفال ويعود الجميع في الظهيرة لنستظل في ظلالها ونتبادل القصص واللعب معاً، وكان في خلفية ذلك يقع مصنع العطور الذي ظل يعمل حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي أيضاً، حيث كان والدي رحمه الله رحمة واسعة وغفر له، يقوم بتشغيله وإنتاج العطور المختلفة منه باستخدام الآلات البخارية والغلايات الكبيرة التي كانت توقد بالمازوت لتوليد طاقة وحرارة عالية جداً تستخدم في تقطير العطور المختلفة بالمصنع، عبر مراحل صناعية من ترشيح السائل العطري الناتج من التبخر، وهي خطوات تحتاج إلى شرح مفصل جداً.
وتكتمل الخلفية بصورة بانورامية، موقع منزلنا الذي كان عبارة مبنى من الطوب اللبن، يتكون من ثلاث غرف كبيرة وصالة متسعة بها الفرن البلدي الذي كان هو محور البيت بشكل عام، وكانت المساحة الأمامية لبيتنا مطلة على بحر أنسي، وتعد منطلقاً لاستقبال الزوار من الأهل والأصدقاء والجيران من العزب والقرى المجاورة أيضاً.
في هذا البيت الجميل كان ميلادي ومسقط رأسي في يوم الأربعاء الموافق 22 يوليو، ومازالت بعض مداميك الطوب اللبن التي شكلت ذاكرتي باقية حتى اليوم.
هذا المشهد العام الذي تشكل منه البيت والمصنع وأشجار البونسيانا ورائحة العطور وجهاد والدي وصبر والدتي ومشاركتها له في كل تفاصيل حياتنا اليومية وجرن الغلال الواقع خارج العزبة على الناحية الشرقية من شجرة البونسيانا والنورج القديم الذي كان يحدث موسيقى لا يمكن لأي سيمفونية مهما كانت نغماتها أن تعزف مثل النغم الآتى من نورجنا الخشبي، ومازال صداه يتردد في أذني حتى الآن.
وفي المساء كانت زهور البونسيانا الحمراء تتمايل علينا مع الإرسال المتقطع للراديو المحمول، وصوت أم كلثوم في الفن الجميل، ورؤية مياه بحر أنسي، وصدى نداء وصوت والدي ودعوتنا للعودة للبيت قبل الليل ما يليل، حيث كنا نتنافس فيما بيننا للعودة في سباق مثل سباق المارثون الذي يبدأ من عند شجرة البونسيانا حتى المنزل الوحيد المكّون لعزبتنا في الماضي، مع وعد للعودة في الصباح إلى تلك الشجرة.
لقد ذهب الجميع وبقيت شجرة البونسيانا التي يمثل كل فرع من فروعها ذكرى وذاكرة ليّ شكلت فيّ الصور الجمالية وكتابة الشعر والرواية والقصة، بل ومنحتني القدرة على التخيل والتعبير وحب الوصف بشكل عام، والتدقيق المتعمق جداً الذي ارتبط فيما بعد بدراستي للآثار، بذلك كله ومن منطلق الجمال الطبيعي للأوراق والزهور ورائحة العطور والمثابرة والأمل في تحقيق الآمال والطموحات التي كنا نحلم بها نحو حياة أفضل، تشكلت الحلقة الأولى من حكايتنا مع شجرة البونسيانا العتيقة.