مقال

في رحاب الشعر (2)

بقلم: محسن جهاد الماجدي
الشِّعر ديوان العرب وسجل مآثرهم، فما تكون من حادثة، إلا ويكون الشِّعر له باب من أبواب تلك الحادثة أو نافذة تطل على رواق أو حائط من أجزاء الكلام، ففي العرب جمعاء مَنْ أفضل من النَّبي الأكرم والرَّسول الأعظم؟ بيد أنَّنا نجد له (ص) في أمر الشعر رأي إذ ورد حديث وإن كان ضعيفا، فقد رُوي عن عفيف الكندي -رضي الله عنه- أنّه قال: (بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل وفد من اليمن فقالوا يا رسول الله لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس. قال: وكيف ذاك؟ قالوا: أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق، اخطأنا الطَّريق فمكثنا ثلاثا لا نقدر على الماء فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر، ليموت كل رجل منا في ظلّ شجرة، فبينا نحن بآخر رمق إذا راكب يوضع على بعير فلما رآه بعضنا قال والرَّاكب يسمع:
ولما رأت أن الشَّريعة همها وان البياض من فرائضها دامي تيمَّمت العين التي عند ضارج يفئ عليها الظِّل عرمضها طامي فقال الراكب: ومن يقول هذا الشعر وقد رأى ما بنا من الجهد؟ قال: قلنا امرؤ القيس بن حجر قال: والله ما كذب هذا ضارج عندكم فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحو من خمسين ذراعا فحبونا إليه على الركب فإذا هو كما قال امرؤ القيس عليه العرمض والعَرْمَضُ والعِرْماضُ: الطُّحْلُبُ؛ قال اللَّحياني: وهو الأَخضر مثل الخِطْمِيّ يكون على الماء، قال: وقيل العَرْمَضُ الخُضْرَةُ عل الماء، والطُّحْلُبُ الذي يكون كأَنه نسج العنكبوت. يفئ عليه الظِّلّ, فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: (ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا خامل في الآخرة، بيده لواء الشُّعراء يقودهم إلى النَّار) أخرجه ابن حبان، ضعّفه ابن عبد البر. فضلا على أنَّ الشَّاعر حسان بن ثابت كان يسمى بشاعر الرَّسول (ص)، فيما ورد بيت في إحدى غزوات النَّبي محمد (ص) أنَّه قال:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
وهذا إن دلَّ على شيء، إنما يدل على علويّ كعب الشعر على النَّثر عند العرب. والعرب أمة شاعرة، وكانت تقام الولائم والاحتفالات إذا ظهر في قبيلة ما شاعر. وقيل:
ألهى بني تغلب عن كل مكرَّمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
ففي سوق عكاظ كان النَّابغة الذُّبياني يجلس تحت قبة حمراء
و يستمع إلى قصائد الشُّعراء و يحكم بينهم و يحدد مراتبهم،
في إحدى السنوات أنشدت الخنساء قصيدتها الرَّائعة في رثاء أخيها صخر التي تقول في مطلعها:
قذى بعينيك أم بالعين عوّارُ أم أقفرت إذ خلت مِن أهلها الدارُ
كأن عيني لذكراه إذا خطرت فيضٌ يسيلُ على الخدّين مــدرارُ
أعجبته القصيدة و قال لها: لولا أن الأعشى انشد قبلك، لفضّلتك على شعراء هذه السَّنة، فغضب حسان بن ثابت وقال: أنا أشعر منك ومنها. فطلب النَّابغة من الخنساء أن تجادله.
فسألته: أي بيت هو الأفضل في قصيدتك فقال:
لنا الجفنات الغرُّ يلمعن في الضُّحى وأسيافنا يقطرن مِن نجدة دما
قالت له: إن في هذا البيت سبعة من مواطن الضَّعف. قال: كيف؟
فقالت الخنساء: الجفنات دون العشر، ولو قلت الجفان لكان أكثر، و قلت “الغر” والغرة بياض في الجبهة، ولو قلت “البيض” لكان البياض أكثر اتساعا، و قلت “يلمعن”، واللَّمعان انعكاس شيء من شيء،، ولو قلت “يشرقن” لكان أفضل، وقلت “بالضُّحى” و لو قلت “الدُّجى” لكان المعنى أوضح وأفصح،
و قلت “أسيافا” و هي دون العشرة، و لو قلت “سيوف” لكان أكثر، وقلت “يقطرن” و لو كانت “يسلن” لكان أفضل، فلم يجد حسان كلمة يرد بها. وفي رواية قال له النَّابعة: أنك يا بن أخي لا تستطيع أن تقول:
فإنّكَ كاللّيلِ الذي هو مُدْرِكي وإنْ خِلْتُ أنّ المُنتأى عنك واسِعُ
وهذا غيض من فيض الشعر ورواياته، التي سنكتب عنها في حلقاتنا القادمة إن شاء الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى