أدب

محمد القاضي الشاعر الذي “رام فجرًا”

بقلم: د. عبد الحكم العلامي
ربما يصبح من نافلة القول أن نذكِّر بأن الذي هو على وفاق مع حركة الفعل لرحلة القصيدة العربية في توافقاتها مع متطلبات دينامية الزمن, سيصل _دون أدنى عناء _إلى حقيقة أن هناك مداريين معماريين يجيئان بحسبانهما المراصد الحاكمة لحركة هذا الفعل: أولهما يتجلى في المعمار المتوارث لبناء النص الشعري/ المعمار الذي تم التوافق عليه بمسمى عمود الشعر. وثاني هذين المدارين يتراءى في الإيقاع/ الوزن و القافية حسب خطة الخليل بن أحمد التي استنها و أسس لها بعد استقرار الهيئة النهائية لعملية البناء/ بناء القصيدة. ثم احتدم الصراع بعد ذلك بين مذهبين كبيرين/ أومنظورين متفارقين: مذهب شكلاني محافظ يمثله الآمدي و من لفَ لفَه من الأقدمين, و مذهب آخر جديد يحتكم إلى لعبة الزمن و هي تمارس دورها في الفعل وإحداث الأثر فيما يتعلق بتفسير هذه الظاهرة/ أقصد الظاهرة الشعرية.


ونحن هنا و كأننا على وفاق مع هذا الزمن إذ يمارس لعبته الأثيرة تلك في الفعل و إحداث الأثر, بمعنى أننا _رغم تناءي الأزمان, و تبدل الأوطان_ مازلنا نحيا مصادقات هذا الصراع بين أنصار تلك المذاهب على تباين مشاربها, و تعدد مساقاتها, فالزمن الذي نحيا لحظته الراهنة _على ما يبدو_ يستحضر لنا مثل هذه الأجواء من الصراع في دلالة لا تقبل الشك تتعلق بتداخل الأزمان و تواصلها, و تناسخ القضايا وامتدادات تأثيراتها, هذا, و قد اتسمت هذه القضايا فيما يتعلق بإنتاج النص الشعري بسمتين أساسيتين هما:
• التزام الكثيرين من منتجي هذه النصوص بآليات العمود الشعري الحاكمة حسب المنظور القديم, كاحتفاء هذه النصوص بالأوزان و عدد تفاعيلها, وبالقوافي و صرامة رويِِِّها, إضافة إلى استحضار لغة تتسم بالمهابة, ونصاعة الديباجة، وحسن السبك، وتستثمر خيالا يستجيب لمعيارية المجازات بمعناها المتوارث.
• نزوع الكثيرين من شعراء هذه الموجة _خاصة الشباب منهم_ إلى الاستجابة لحركة الزمن و تأثيراتها على النص و أجوائه لغة و أنساقا و خيالات فجاءت لغتهم تلك حية مفعمة بالنشاط و الحيوية ، وفي مثل هذا الطرح تنكسر حدة المعمار المتوارث ذاك
• وتتوزع _على أثر ذلك_ التفاعيل على بياض الصفحات توزيعا دلاليا, و تستجيب قوافي أصحاب هذا المنظور إلى انتسابها الحق لتلك الأنساق تحدوها إدارة ناجحة للغة مع الاحتفاظ بقدرة بادية على توزيع الدوال توزيعا يلائم المسارات الشعورية و الوجدانية والنفسية (1)


وأظنني بعد تأملي لديوان “رام فجرًا” للشاعر محمد القاضي (2), قد وقفت على استجابة طرحه للمسارين معا في رؤية شعرية ذات منزع برزخيِّ بينيِّ يعمل على مرأى من استجابته لحركة الزمن, وهي تحدث تأثيراتها في عملية إنتاج النص, حيث يقول في قصيدة له عنوانها “أطلال ليلى”:
ماذا أطال مسيرنا يا ساري
قف واطَّلع مني على أسراري
وانظر هناك إلى حديقة منزل
لاذت بصمت في حمى الأسوار
طمس الظلام جمالها و تسترت
من حزنها و حنينها بستار
لو خُيِّرت واسْتنطِقت لتكلمت
بدموعها تبكي رفاق الدار
كانت هنا فيما مضى حورية
فيها تجلى حسن صنع الباري
تشدو فتنتفض الحياة تطَّربا
وتفيض بالألحان والأشعار.
يستهل الموقف فعله الشعري الآثر هنا من خلال حوار مفترض بينه و بين رفيق الطريق بالمفهوم الحال, أو بينه و بين الصاحب المفترض كذلك كما عهدنا في الإهابات الشعرية المتوارثة: قف و اطَّلع” هل نحن بصدد طللية بالمعنى القديم, أم نحن بإزاء حالة من النوستالجيا أو الحنين بالمعنى الحداثي/ المعنيان يتقاربان, و إذن فنحن على وفاق مع طللية مفعمة بالحنين إلى الديار و من سكن الديار معا: انظر هناك إلى حديقة منزل.. طمس الظلام جمالها..” زمانان هنا يتلاقحان: زمن مُسّقط يتمثل في فرضية الوقوف على الأطلال على عادة الأقدمين من الشعراء, و زمن آخر مُسّقط عليه يتمثل في اللحظة الراهنة للذات الشاعرة, فحديقة المنزل هنا و الديار الدوارس هناك, و بينهما برزخ شعري لا يكاد يبين: لو خُيِّرت و اسْتُنْطقت لتكلمت” في استدعاء باد لا تكاد تخطئه عين لقول عنترة بن شداد في مقدمته الطللية لمعلقته الشهيرة:
يا دارعبلة بالجواء تكلمي..
و عمي صباحا دار عبلة و اسلمي”
هل سنكون مخادعين في تأويلنا هذا؟ بالقطع لا, فمادامت الأزمان تتداخل و الأماكن تتشارك و تتلاقح الديار, فلا ضير إذن أن تتجاور أطلال ليلى بديار عبلة/ متماستين بحديقة حورية هذا الشاعر: كانت هنا فيما مضى حورية” نعم هكذا, و كما هو حادث بالفعل, هناك حورية للشاعر كانت ممثلة للحظات الإنسانية في أبهى تحققها, حيث تجلِّي الحسن و الألحان و الأزهار/ حيث الحياة تضج بالحركة و الحيوية و النشاط, و حيث السكون الذي يتمثل أحيانا في الحزن والبكاء فالطقس هنا طقس طللي لا لبس فيه/ طقس ينتظم المبنى الذي يتمثل في هيمنة الوزن و القافية على أساساته, و ينتظم المعنى كذلك على أثر استلهام الفكرة و فلسفاتها, و الإسقاط و مآلاته في لحظة فعلية فارقة يضمها هذا الموقف, و غيره من المواقف التالية عليه كما سنرى, يقول محمد القاضي في القصيدة نفسها:
ملأ الحياءُ ربوعه فأذابها
في حمرة وتواضع ووقار
وتنافست فيها المكارم كلُّها
فتحيرت في وصفها أشعاري
كنَّا هنا نشدو معا في صحبة
من عازفات الطير و الأزهار
نتبادل الحب الشهيّ مذاقه
عند انحسار الضوء و الإبكار
ملك الهوى قلبي فصرت أسيره
ولا أرى أني أعود دياري
قلب المحب متى تملكه الهوى
فما يلوذ من الهوى بفرار
قد كان حرا ثم ها هو يرتضي
من بعد إجلال له بصغار.
على عادة أسلافه الأقدمين بدأ الشاعر قصيدته بمقدمة تشبه إلى حد بعيد واحدة من المقدمات الطللية المتوارثة فيما مضى من أزمنة وعصور, ليصل إلى غرضه الأثيرفيما عُرفوقتها بالغزل على عادة أسلافه كذلك ، فها هي حورية الشاعر أو محبوبته تُرى وهي تفيض بالصفات الجميلات والخلال الزاكيات / فالتواضع أذابها ، والحياءباد في حمرة خديها ذلك الحياء المُزيَّن بالوقار ليس هذا وحسب ، بل هي منبع للمكارم وأبجدية لها تمشي فتحفها الطيور ، وتحنُّ لخطوها الزهور / تتيه خيلاء عند انحسار الضوء, والإبكار على حد قول الشاعر ، وعلى حد قوله أيضا,فقد صار هو مملوكا لهذا الحسن وأسيرا لتلك الخلال : ملك الهوى قلبي فصرت أسيره ” فقلب المحب قد تملكه هوى المحبوب فانصاع له ، فلا يُرى إلا معه ولا يحرَك ساكنا إلا به ، ولا يمتثل لأمر إلا على بينه من رضاه ! إنها حالة من حالات الذوبان في المحبوب بالمعنى العرفاني الصوفي ، ذلك المعنى الذي يتجلى فيه كلُّ من المحب والمحبوب على مدار واحد تظلهم سماؤهم المنشودة ، وخياراتهم المبتغاة في أن يساكن أحدهم الآخر : قد كان حرا ثم ها هو يرتضي .. من إجلال له بصغار ” إنه الانصياع التام لمشيئة هذا المحبوب الذي توارت له الهيبات لتخلي الطريق لمسار واحد / لهيبة واحدة تتمثل في هيبته هو في معنى من معاني الإيثار التي يبذلها المرء في مثل هذه المواقف التي يكون المحبوب طرفا فيها ، أو على وفاق معها, و هذا ما تم التوافق عليه باعتباره غزلا عفيفا أو عذريا يميل إلى استحضار المعاني في إهاباتها المعنوية, بعيدا عن مساقات أخرى للغزل ذات إهابات حسية جسدانية. وفي قصيدته ” على طريق الخلاص يقف الشاعر موقف المتحنِّن الباذل للوقت والجهد حتى يتخذ سبيله إلى طريق خلاصه المنشود على هذا النحو :
على أعتاب مشرقها أطلَّت
وفي طهر الخلاص بكت وصلَّت
أزاحت طيشها شيئا وقامت
إلى المحراب فانكسرت وذلَّت
تجاهد أن تدافع حالكات
من الأوهام قد أضنت أضلَّت
تمنت والشتات بدا عليها
وغيمات التحيُّر قد أظلَّت
تناوشها وساوس طوَّقتها
لتطفئها إذا يوما تجلَّت
فثارت ثورة في غير حسم
ونازعت المخاض وما استهلَّت .
واحدة من بدائع هذا الطرح الشعري الذي نحن على وفاق معه الآن: أتحدث عن قصيدة “على طريق الخلاص ” فقد تأملت كثيرا في أسئلة عنها و فيها مؤداها : من تلك التي على طريق الخلاص ، ومن ذا الذي أخذ بيدها ليضعها على أوله ، وكيف سيصبح مآلها ونهايته ، وما الكيفية التي ستبدو عليها أثناء رحلتها البرزخية فيما بين أوله ومآلات آخره ؟! أقصد ذلك الطريق ، ثم قلت لنفسي طَرحُ الأسئلة سهل لكن الإجابات دائما ماتستعصي ، وتنأى للبعيد ، وما سؤال الغاية والمصير سوى شاهد ودليل على ما يلاقيه إنسان هذا الزمان من عطش وتوق للمعرفة ، وذلك لأنه في كل مرحلة يتقدم فيها خطوة ، تسبقه أسئلتُها بخطوات ! يالعناء هذا الإنسان ، ويا لإقامته المحكوم عليها بالامنحاء والفناء على هذه الأرض !! والآن وأنا على هذه الحال ، سأتبع السؤال بالسؤال : من تلك التي على طريق الخلاص ؟ قلت إنني سأتبع السؤال بالسؤال : هل هي النفس الإنسانية في قوامها الذاتي ذي النزعة الفردية ، أم هي النفس الإنسانية في مجموعها البشري عندما تتوق إلى نيل حريتها وانعتاقها المرجو, وفكِّ أسرها الذي أفقدها قدرتها على السعي من أجل إنجاز هذا الخلاص المنشود بالنسبة إليها فهي: على أعتاب مشرقها أطلَّت : وفي طهر الخلاص بكت وصلَّت ” مثل هذا وغيره يضع إنسان هذا الزمان في حالة قلق دائم يتعاوره فيها وجودان : وجود زائف يحتكم إلى قانون الغير بما يفرضه عليه من أحوال وأوضاع لا تتناسب مع رغبته في التحرر ، ويمثل هذا الوجود الشاعر هنا باعتباره المعبِّر المعتمد عن قضايا ذلك الإنسان وهمومه التي تقضُّ مضجعه ، و وجود آخر يجيئ موازيا لهذا الوجود يتمثل في القرين الكامن داخل الإنسان ، ذلك الذي يدفع به دفعا إلى العمل بحرية ونفاذ بعيدا عن أي انقياد لمشيئة ذلك الآخر ، يظل إنسان هذا الزمان رهينة لقبضة هذين الوجودين : الوجود الحق الذي يمثله القرين ، والوجود الزائف الذي يمثله ذلك الإنسان في معية الآخر ، لتبقى هذه النفس أو تلك الأنفس: تناوشها وساوس طوقتها .. لتطفئها إذا يوما تجلت ، ثم يواصل الشاعر عزفه على نايه الحزين / نايه الذي قطع من حقول الغاب في أرض الأحباب هكذا ، وعلى هذا النحو :
تجوب الليل بحثا عن صباح
فإن لاح الصباح لها تولَّت
وكان ضميرها يشتاق فجرا
فلما مد ساعده تفلَّت
وكم لعنت من الظلمات ليلا
وعن طهر الضياء بها تخلَّت
يؤرقها بطول الدرب شك
يطاردها إذا رحلت وحلَّت
تُراها سوف يدركها نهار
أم انزعجت من الأنوار ملَّت!
ديمومة إنسانية ما إن يفكُّ إنسانُها عقدة منها حتى يفاجأ بعقدٍ أخرى كثيرة تبدأ ولكنها لا تنتهي مما يضاعف من عذابات ذلك الإنسان ، ويفجر ينابيع حزنه التي يشير هدير سطحها إلى أعماق سحيقة : تجوب الليل بحثا عن صباح .. فإن لاح الصباح لها تولَّت ” هي ديمومة إذن ، وصيرورة يغالبها ثباتُ حالها مما يثير طقسا بل طقوسا من الملال والاستيحاش والرغبة في الفرار, ويشتد ألم إنسان هذا الزمان حينما يوقن أن رغبته في الفرار هي الأخرى محكوم عليها بالفشل ، فإذا ما حاول أن يجدد عهده معها ، تلقفه عاملان يسعيان مجتمعين إلي ضرب هذه الرغبة في مقتل هذان العاملان يتمثلان في الزمن والموت / الزمن الذي يسنُّ حرابه ليل نهار من أجل النيل من بهاء ذلك الإنسان بحرمانه من لحظات الهناءة العاجلة التي قد يتحصَّل عليها في لحظات نادرة من لحظاته المعدودة عليه سلفا ، ثم يأتي الموت بعد ذلك ليضع بصمته على ما تبقى منهذه الهناءة فيذهب بها إلى مكان آخر تتسع هوةُ الإجابة عن سؤال مآله إلى آماد لا تحد, لتظل الذات الإنسانية التي يمثلها الشاعر هنا, ويكتوي معها بلحظتها الراهنة على هذه الحال :
يؤرِّقُها بطول الـدرب شـــكٌّ
يطاردها إذا رحلت وحلَّت !!

المراجعات:
1- يراجع: د عبدالحكم العلامي/ حركة الفعل الشعري في المشهد المصري/ مؤسسة الكارمة للتنمية الثقافية و الاجتماعية/ دار شعلة الإبداع/ القاهرة 2017م.
2- يراجع:م محمد القاضي/ ديوان: رام فجرًا/ دار ديوان العرب للنشر و التوزيع/ بورسعيد 2022م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى