قراءة في قصيدة: “أقبل الصدى” للشاعر العراقي عصمت شاهين دوسكي

سيميائية العنوان داخل فضاء النص

بقلم: إنعام كمونة

لا جدلية لإثبات أهمية العنوان للنص لأنه أول عتبات النص, وجزء لا يتجزأ من بقية عتبات النص, وعن رؤى جيرار جنيت يصف العنوان (مجموعة من العلاقات اللسانية التي يمكن أن توضع على رأس النص لتحدده, وتدل على محتواه لإغراء الجمهور المقصود بقراءته), تعريفوبنية العنوان لحظة استفزازية لذهنية القارئ أو الباحث أو المستقرئ.
العنوان كأول أداة تعريفية تستحضر ذهن القارئ لدلالة النص,منها نخترق موضوع النص ونفهم مضمونه ونقدر قيمة الفكرة, إن كان أدبيا أو علميا فننحو لاستنتاجه, وتذوقه كمرحلة أولى نستمر أو لا, نستفيد أو لا, كعنصر مهم للتواصل مع النص.
والعنوان ليس رأسا لجسد النص ولا كينونة منعزلة عن كيان النص بل روحا لجسد النص, وإيقونة دلالية الإيحاء منه تبدأ فلسفة الجمال الدلالي والتأويلي ومضمون الرؤى وفلسفة الشاعر , فهو بموازاة رسالة النص ومختزل الخطاب.
كما أن العنوان عتبة استهلالية مختزلة موضوع النص,منه نستشرف مضمون النص ونقتص منه شغف المتابعة والتأثر به ,فالعنوان نص موازي لكيان النص وضمن هيكلته ,ومن إشكالية العنوان ندرك منها قوة البنية,جمالية التعبير, تقنية اللغة وفنية التشكيل, وبالتالي أسلوب الشاعر وفلسفته الضمنية.
 العنوان
ومضة شعرية مكثفة البنية , برؤية إيروسية لحالة شعورية تنم عن سيمائية رومانسية الصورة انزياحية التركيب الدلالي,متمازجة التشكيل بين ظاهرة طبيعة الوجود باستعارة رمزية “الصدى” وحسية فطرية بالفعل “أقبل” بجمال التعبير , نستنطقها بما توحي من طقوس تراسل لاستدعاء الآخر بضمير أنيوي الذات, ليعبر عن لحظة مرتهنة بانطولوجيا حميمية المشاعر, ومتعالقة بمرجعيات دلالية متنوعة سننحو لذكرها لاحقا …
يبدو من استهلال العنوان “أقبل الصدى”, بنية بفعل حسي ,” أُقبل ” دال على طوبوغرافية المشاعر بحرية شغف وموسيقى تجدد , وبما أن الصدى ظاهرة طبيعية ناتجة عن ترددات صوتية فيزيائية التكوين , بذبذبات موجية متداخلة أحيانا أو متنافرة أحيانا أُخر ضمن حدود محيط الصوت, وبانعكاس ارتدادي على المسامع ,تتجلى من سيمائية رمزيته طاقة كامنة بعدة أبعاد دلالية , وفيض من انفعالات عميقة مختلفة متباينة المشاعر , نستبصرها كمفاعل موضوعي لردود فعل عن معاناة نفسية ,عاطفية,وجدانية ,اجتماعية, عن أثر تجارب الذات أو الآخر بذهنية المتأثر.
وما لرمز “الصدى” من معنى غائر الدلالة بتعبير مجازي مختزل الصورة عن عمق مسافة التردد, واستغراق وقت الارتداد بانعكاسه الزمني, يشي لدلالة زمكانية واسعة التعدد ,منذ زمن حدوثه “زمن ماضي” وفترة تدفقه المتردد “زمن الحاضر” ,فدلالة توغلة في الزمان والمكان عبر انتقاله في الهواء هو استراق لأعماق الحواس, مما يحيلنا لدلالة إستعارية عن حسية متأرجحة التواصل لطوبوغرافية الأحاسيس بين التذكر والنسيان…
كما نلاحظ مقدرة الشاعر بتقنية التشفير اللفظي برؤى تخييل كما يبدو من التشكيل الجمالي بأنسنة رمز “الصدى”, وذلك خلق إيقاع داخلي غائر بانسنة معنوية للصدى بمتخيله الشعري, فعبر عن متضادات ثنائية التكوين غائرة تستدعي القارئ للتنقيب عنها, وفرز مقاربتها الرئيوية بين الأنا والآخر, ومن عدة عناصر حسية شعرية الصور ممتزجة بين طبيعة الحواس وظاهرة طبيعية , فصهر ظاهرة علمية في بودقة الأدب بأسلوب لغة فنية , توحي للمستقرئ بسيميائية روح الحياة تهيمن بتمازج حيوي بين طبيعتين مختلفتين تستدرجنا لاستعارة تضاد غائر بين “المرئي واللا مرئي”, “الحسي والملموس”,” الممكن والمستحيل”, “الحقيقة والخيال” ,” الحلم والواقع” ,وتبقى عوالم أُخر يستنبتها القارئ بدلائل شغفه المعرفي.
كذلك نقتنص من دواخل رمزية ” الصدى ” سمة التراكم التراسبي من القلق النفسي الموحي رؤيويا بالغربة المتواترة بين زمن وآخر, واختلاف الأماكن برحلة موحشة, نستدل منه دلالة “الحضور والغياب” ,فننحو لنمط مقاربة فاعلة الدهشة بين مادية الحواس للفعل “أُقَبِل” , ومعنوية الرمز “صدى” بعد تجسيده رؤيويا كيانا محسوسا لإشباع رغبات الذات تجاه المجتمع , ,فالبسه سمة الإنسانية.. العاطفة .. الوجدان.. الإحساس, نستشفه تشبيه استعاري مخفي خلف رمز الصدى بأنيوية خيالية ,إحالة تأويلية الدلالة عن مرحلة سوسيولوجيا الشعور بافتقاد الآخر.
وفي نزهة توقف لمكاشفة شعورية, بحثا عن شعرية المعنى في غور العنوان نتساءل, كيف للشاعر أن يُقَبَل الصدى..؟ سؤال يوقد فكر القارئ فيستدعي شغف اطلاعه للغوص في ما اختزن مفهومه الرؤيوي عن سيمائية التشكيل وجمال التعبير ,وليفك شفرة القصد ويفتت صيغة المعنى, يدلف غور الدلالات وسبر أبعادها النائية , ليجمع سمات التضاد من بصيرة الرؤى …
وما لثيمة الصدى من جوهرية دلالية لعنصر الهواء ,وأهميته لإدامة الحياة وخدمة البشر, يتضمن دلائل تشبيه متعددة لا تنتهي بما تهبه طبيعة الظاهرة في الوجود, فيتحتم علينا استنطاق دلالاتها من الصراعات البشرية بتغاير العلاقات الحياتية, والأحداث الاجتماعية ,بهاجس شخصي أو عام , فلكل حدث بداية ونهاية, وبقطبي تنافر أو تجاذب ,لذا تَدر منه دلالات تشبيه بظاهرة المد والجزر في زخم الحياة, تقيد أو تحرر كيفما يتأثر وجدان المشاعر للمستقرئ والقارئ, وتعتمده التصرفات الأنسانية بتدبر الأخلاق والمنطق والتصرفات والسلوك فتتغير من فكر لآخر.
ونستقرئ من مكنونات الصدى توتر لحظوي من الا وعي للشاعر مشحون بأنواع الشعور كأيقونة قلق على طرفي نقيض,” فرح وحزن “,”تعاسة ,سعادة”, “تمرد والتزام”, “كره حب” , “لهفة جفا” , “شغف إهمال”, “خوف وطمأنينة” , “تعب وراحة”, وكل ما يتبادر لذهن القارئ من تناقضات دلالية للمشاعر بزمنية الحدث .
النص
الشعر إحساس يراق على الورق من لحظات لاوعي تحاصر التأمل ,وخاصة حين يفيض وجع الروح وما تكتمه بذاتها خاص وعام ,يستشعره الشاعر عن حالة ما أو حدث بصيغة أو أخرى, وكما يقول د. عبد الرضا علي (الشعر رؤيا وليس من شروط على فاعليته). وتختلف الشاعرية من شخص لآخر وربما من نص لآخر لنفس الشاعر ضمن حدود التأثر والصدمة ودرجة الانفعال وللخيال تمرد يستحوذ صميم الفكرة ,لذا نرى اختلاف الرؤى لنفس الموضوع واختلاف الأسلوب لنفس الفكرة وبالتالي يدل على تنوع القراء والأذواق.
_ الشاعر عصمت الدوسكي يكتب بإحساس مرهف غير معقد وبعفوية مشاعر تلامس إحساس أي قارئ , يتأمل بقوة تأثر ويكتب باسترسال جارف وإنسانية بلسمية ,وبغير تكلف للموضوع,لا غموض أو إيهام للفكرة, وبتلك البساطة والعفوية تنساب لغة رقيقة شفيفة ليعبر عما يجول بخاطره وما يكتنفه تأمله الآني بذات متعطشة لمخاطبة إنسانية الآخر ,مما يأخذ القارئ لتداولية معرقة بالإنصات…
نستنبط من بؤرة العنوان فحوى دلالات مضمون النص وكيانه التأويلي من دلالة كل العتبات المكتضة بحسية إنسانية ومعاناة الألم من أثر الفراق, مترنما بايحاءهُ للفقد بمدلول رمزية العنوان بانتشاء الذات بشعورية العشق, فيتجلى ترابط سيمائية العنوان بكل حمولات النص لذا سأكتفي ببعض القطاف لأن العنوان اكتفاء ملهم بدلالات النص…
النص مقسم إلى ثلاث أجزاء نقطف منها بعض الأنساق لنستقرئ , ومنها الآتي:
نسيت إحساسي.. ولهفتي ..
نسيت حلمي.. ودمعتي ..
ولوعتي بذكراك ماضية..!!
نلاحظ عنفوان عاطفي من مبادرة الشاعر بالفعل “نسيت” , والدال على استمرارية الشعور بمعاناة البعد فمن تكرارهُ في عتبتين متتالية تؤكد دلالة النسيان الغير فاعلة ,فدلالة رمزية “ولهفتي” , “و دمعتي”, دلالة التوجع والبكاء بانقطاع عن ملذات الحياة, فنستبصر بما تشي دلالات تضاد استعاري غائر توحي بالتذكر الدائم من ” ولوعتي بذكراك ماضية..! “, إحالة تأويلية عن سايكولوجية انفعالية الشعور عما لا يلتفعه النسيان حين رسخ في عمق الذاكرة …
ولننحو لعتبات فيها كمية الوجع الإنساني والتأثر النفسي من الآتي …
كم سهرت ليالي.. أتخيل
كم جمعت آهات البعد.. أتأمل
نلاحظ المؤشر العاطفي لسايكولوجية ذات عاشق والمُعبر عنه مفردة ” كم ” وبتكرار يشي لنسبة التعدد ,فيبدو سيمائية دلالات توحي بكمية العذاب الموحش لانتظار الحبيب ,ومنها ما يدل على طول فترة المعاناة وما تشير لها دلالات الصور الحسية التالية مثل ,( سهرت الليالي , جمعت آهاتي , أتجرع كأس الهموم , هموم قاسية ..), فيها الألم العاطفي وأنيوية المشاعر بلغة بسيطة عفوية المناجاة تعكس سيميائية رمز الصدى بتردده الطبيعي تدل على فترة زمن غير معلومة …
_ يستحضر الشاعر جزء من حياة أو عمر تمضخت به سيرة الزمان والمكان في ذاكرة الشاعر فنقرأ من الآتي …
نغفو بلا أحلام
ونصحو على يقظة عارية
وظف الشاعر مفردات زمنية متغيرة هما ” نغفو, نصحو ” بنية فنية بتضاد زمني بسيطة التعبير غنية المعنى, نستنتج منها دلالات تشتت للحالة النفسية تتجلى منها دلالة سيمائية لافتقاد الحلم بالآخر , وما لرمز الحلم من أبعاد زمنية مختلفة والحلم هو حيز مجهول لتحقيق منى الذات بميتافيزيقية التصور المبهم وتأثيره على نفسية العاشق بخيالات يصعب تحقيقها في الواقع , ومن رمز الأحلام نستنتج دلالة تعاقب زمني وفترة لا وعي , ومن رمز اليقظة العارية فترة زمنية غير مستقرة , مرتبط بدلالات رمز الصدى في العنوان والتي يفرض وجود دلالاته في هذه العتبات بتماسك الإشارة …
_ ونقطف من بعض المناجاة للشاعر الآتي :
أنادي الليل بتنهيدات سرمدية
أقبل الصدى بمهجة سامية
تتسع مساحة المناجاة الذاتية بصيغة مناجاة ” أنادي الليل ” ورمزية الليل يوحي لدلالة الشعور بالوحدة إحالة للاشتياق الموجوع بافتقاد الحبيب ,ورمز الليل اختزال شعري لدلالة الفترة الزمنية والفضاء الرومانسي لتفعيل الذكريات ودلالات الإحباط بزفرات الخيبة الدائمة …
ومن عتبة أخرى” أقبل الصدى بمهجة سامية “, نلاحظ تكرار صيغة العنوان بتعبير مختلف وبنية صورة تدل على توبوغرافية الأجواء النفسية لمعاناة الشاعر بتأثير حسي بسمو وعنفوان ,” فالعنوان يفرض توارده في كيان النص ” , ويعيد ترتيبه ببنية حسية أُخرى مونولوجية الحوار, متمازجا بدلالات توحي بمقاربة المشاعر بشدة التأثر, واستمرار سمة العشق في أي تردد زمني …
ولنلتقط عتبتين متتاليتين لنستقرأ منها الآتي ..
أنا من اكتوى بنيران الفراق
أنا من شهق بجذوة البركان
_ نلاحظ مقاربة أنيوية بإيقاع صوتي تميزت باستهلال ” أنا ” , تعبير فلسفي الرؤى يوحي عن مرارة الفراق ومدى قساوة العشق بلواعج مونولوجية بأثرها النفسي , فأوجز عن الصراع المدمن بين القيد والتحرر المتشتت في أعماق الروح للمشاعر والأحاسيس , فرمز البركان دلالة شدة الاحتراق من لوعة الحب والأشواق , إحالة دلالية عن عمق المشاعر المتوهجة بهيام مستمر…
_ ويختم الشاعر نشيج الذات وحوارية النفس في الآتي …
نعم فالحب منهاج كل الدهور
ويظل صدى يرتل قصائدي النائية..!!
نلاحظ مشاعر الخيال العميقة لحظوية الانفعال بذاكرة الأنا الشاعرة من العتبة الآتية: “نعم فالحب منهاج كل الدهور ” دلالة تؤكد روحية الوجدان لذات الرؤى من الإجابة ب “نعم” , ونلاحظ اتساع فضاء المناجاة واستدعاء الآخر “الحبيببة” من دلالة يوتوبيا التعبير, ونستفيض من عمق المعنى دلالة تأويلية بصوفية الإيحاء لعشق بفطرة إنسانية بقلق عاطفي…
ومن تكرار الصدى في نسق الخاتمة كما في الآتي ” ويظل صدى يرتل قصائدي النائية..!! ” ,دلالة بفلسفة سيميائية الرؤى صوفية التعبير,بسياحة رومانسية تنطلق من تراكم عاطفي للفقد وغياب أرقه زمن الانتظار, ونستخلص من الفعل “يظل” دلالة التراسل الأنيوي المستمر بما تشير له ترابطه مع دلالات العنوان, تحيلنا لتأويل دلالي عن تطلعه لحلم أو أمنية بعيدة المنال يود استقبالها بارتداد زمن العشق وحضور الحبيب …
تميز تعبير الأنساق بالإفصاح عن مشهدية شعور إنساني, وبتعبير إنشائي بسيط عفوي اللغة فني الانسياب, غير مبالغ بتركيبته, لكن فيضه الدلالي بقيمته الحسية بما يوحي لركيزة جوهر الحياة بفعل عام, تستفرضه ارتباطات البشر, فعبر الشاعر بفلسفة رؤاه بما تستغرقه الذات بإرث فكري واعي لواقع الوجود الأزلي , والنظر للعلاقات برؤى التقديس.
_ ومن هيكلية النص نلاحظ حركة تواصل رمزية العنوان وهيمنته داخل فضاء النص بمنظومة رؤيوية متشابكة بأنساق النص , نستمد استقراءه بكونية الموضوع بين العنوان والنص لمناجاة وجدانية التوجع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى