العُبُورُ إلى مَدْينَ

الدكتور موسى رَحُوم عبَّاس |أديب سوري مقيم في الرياض  

قِصَّة قصيرة

لم أتعلَّم من بداوتي شيئا، فأنا لا آكل اللَّحمَ، ولا أحبُّ السَّمن. ولا أرى صديقي الفنَّان سِرْدار مُخطئا عندما وصفني بأنَّني أوَّلُ نباتيٍّ بدويٍّ. وكان حين يصطحبني لأي حدث فنِّي (معرض فردي أو جماعي، ندوة، إلخ) يبادرُ أيَّ أنثى تقابلنا ببطاقته التَّعريفية الثَّابتة لي، “هذا صديقي حمدان: نباتيٌّ بدويٌّ يعشق بيكاسو، وهو من قبيلته أيضًا.” يضحك كلُّ مَنْ في الصَّالة، ولا يكترثُ بشتائمي التي تطالُ جدَّه الكُردي الذي لا تفارق السِّيجارة فمه. هذه المرَّة كان يتصرَّف بطريقةٍ مُريبةٍ، لم يدْعُني للعشاء في مطعم ابن عمِّه ولا سيما أنَّه لا يدفعُ الحسابَ عادةً، وغالبا ما كانَ ابن عمه يقولُ: “توكلوا على الله، هذه ضيافة لُوْه!” فنضحكُ أنا وسردار، ونخرجُ مُسْرِعَيْنِ قبل أنْ يغيِّرَ صاحبُ المطعم رأيَهُ، ونبدأ بالشِّعر والنَّقد، وننتهي بالسَّبِّ والشَّتائمِ لكلِّ ما لا يرضينا، أو يحدُّ من حرِّيتنا.

هَمَسَ لي اليوم قائلا: “عليكَ أن تخرجَ من هذه المدينة بأقصى سرعةٍ! الجماعة يبحثون عنك في الجامعة والسَّكن وحتى المقهى الذي نتردَّد إليه. حاولت الردَّ أو الاستفسار أو … لكنه لم يترك لي فرصة، بقوله: “وهل أنتَ أقوى من الجهاز؟”

 الشَّاحنة ذاتُ الطَّابقين هي وسيلة النَّقل عندنا نحن البدو. الطَّابق السُّفلي للأغنام والماعز وأكياس العلف، أما العلويُّ فللركَّاب، صغارهم وكبارهم، والكرسيُّ المجاور للسَّائق للمرضى أو للوجهاء. أما أنا فقد دسَّني أهلُ الرأيِّ في الطَّابق السُّفلي بين الخراف بعد أن دثَّروني بِفَرْوَةٍ من جلودِ الخِرافِ، وقد قلبوها للتمويه. ثمَّ تأكدتُ من حسن تدبيرهم كلَّما توقفنا عند حاجزٍ للتدقيق في هُويات الرُّكاب، بينما يشيح العسكريُّ بنظره عن الطَّابق السُّفلي تماما. فليس من المعقول أن يدقِّق في هُويَّات الخراف والماعز! وبعده تنطلق السَّيارة وأنا بين قوائم البهائم تارةً، وأجد لنفسي فُسْحةً تارةً أخرى. لكنَّ الظمأ بدأ يشتدُّ بي، وهذا ما غَفَلَ عنه أهلُ الرأي في خطَّتهم لتهريبي. انتقلتُ حَبْوًا بين جيراني من الخراف والماعز، فوجدتُ خزَّانا حديديا مثبتا في زاوية السَّيارة. انتظرتُ حتى رفع خروفٌ رأسَهُ عن الخزَّان، فَكَرَعْتُ منه حتى أطفأتُ ظمئي، لكنِّي أخذتُ أيضًا نصيبي مما فيه من طينٍ راسبٍ في قعره. سرَّني أنَّ البهائمَ كفَّتْ عن الثُّغاء الذي استقبلتني به أوَّل المسير، كأنَّها كفَّت عن الاحتجاج على وجودي، فأرحتُ رأسي على أقربها إليَّ.

في الليلة السَّابقة على هروبي كنت أقرأ رواية غسَّان كنفاني «رجالٌ في الشَّمس»، وهأنذا، كلما استيقظت من سِنَةٍ من نومٍ، أصرخُ مثل أولئك الهاربين المتسلِّلين عبر الحدود الذي قتلهم الظَّمأ في الصَّهريج.

تحت جُنْحِ الظَّلام وصلنا إلى أرض مُمْرِعةٍ كُنَّا نسمِّيها مَدْيَن، ننتقل إليها سنويًا بعد انقضاء فصل الشِّتاء، لكنَّنا هذه السَّنة وصلناها قبل انقضائه. نزلَ مَنْ هُمْ في الطَّابق العلوي، ثم فتحوا لنا الباب الكبير الذي يُغْلَق للأعلى، فاندلقنا كبُقْعَةِ زيتٍ لَزِجٍ. وبينما كان العشبُ اليابسُ والشَّعير يُنْثَرُ أمام الخراف والماعز الجائع، أخذتُ مكاني بينها، فالتهمت كلَّ الشَّعير الذي استطعت الوصول إليه، وطفقتُ أنْطَحُ ذلك التَّيسَ الأقرعَ اللعين الذي يزاحمني على العَلَفِ!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى