ميكانيزمات الشغف والدافعية
د. أيمن يوسف- مصر
استشاري الأمراض العصبية والصحة النفسية، والتأهيل، واستشاري متلازمة الفيبروميالجيا ومتلازمة ال “إم إي”
ترتبط الأفكار والعوطف والمشاعر والتوجهات بعلاقة تبادلية مع الابعاد التشريحية للمخ بجميع اجزائه، يتأثرون به ويؤثرون فيه، يعيدون تشكيل وظائف المخ؛ ويتشكلون من طبيعة تلك الوظائف ومن كيفيتها ومن شدتها ومن ومستوى انضباطها وايقاعها، ولا ينفصل الشغف ايا كان نوعه او شدته عن هذا المبدأ “الوظيفي” لنشاط المخ ومراكزه وفصوصه وخلاياه، كونه يأتي في قمة هرم التوجهات والافكار والعواطف والسلوك، فالاحداث اليومية والآمال الخاصة والمخاطر المحيطة والتطلعات الفردية والجماعية والمشاهدات المتتالية والتجربة الانسانية- كلهم يشكلون الشغف في المخ البشري، فيما ينتجه المخ البشري ايضا ما بين اجزاء النواة السقفيةوجذع المخ واللوزه المخية ومناطق ما تحت المهاد والقشرة المخية،لتتشكل بذلك ظاهرة من اهم ظواهر السلوك الانساني والذي يتميز به عن باقي الكائنات الحية “الشغف”.
تبدأ رحلة الشغف من أعلى جذع المخ حيث تصدر الاشارة من تلقاء نفسها بحسب الحاجيات البيولوجية التي تضمن بقاء الانسان او تتشكل نتيجة احداث معنوية في النواة السقفية، وأيا كان الموحي لذلك فان النواة السقفية تتخذ منحى شديد النشاط يدركه الدماغ كقيمة للبقاء والاستمرار، ما ينتج عنه دفقات متتالية للدوبامين مرتبطة بمصدر الفكرة او الحالة اوالقضية محل الشغف،ومن ثم يتم ارسال دفقات الدوبامين الى اللوزة المخية حيث معيار التقييم العاطفي للتجارب والمشاهدات والذكريات والاحداث، فاللوزة هيكل النظام القاربي الذي يشارك في تحديد العواطف من جهة، ويشارك في تشكيل الدوافع من جهة اخرى، كما ان اللوزة هي من يحدد الاستجابة الذاتية للمحيط الانساني من افكار واحداث وظواهر عبر افرازات هرمونية تتشكل وترتبط بمصدر الشغف، وقد نخفض عن ما عدا ذلك، ولتلك المرحلة ضرورة حسية في تشكيل المشاعر نحو القضيةاو الفكرة مصدر الشغف؛ حيث تترتبط فكرة الشغف هنا بعلامات الترقب او الخوف او القلق او الاكتشاف، او ترتبط بالغضب او الاستثارة او المكافئة او المتعة، فتصبح قضية الشغف مصدر شعور الانسان ايا كان هذا الشعور ايجابيا او سلبيا، وتلتصق به الفكرة في الوعي الارادي واللا ارادي نتيجة “الحث الشعوري”، بل قد يمتد دور اللوزة الدماغية هنا اللى طغيان مصدر الشغف على الذاكرة الارتباطية والقريبة والبعيدة، كونها الحارس على مصدر الذكريات الذي يحدد اولويات الذاكرة ونمط عملها وترتيب عناصرها.
يستمر مرور الدوبامين المرتبط بالفكرة والشغف بهذا النحو في السيالة العصبية وينتقل إلى منطقة تحت المهاد “الهيبوثلامس”،حيث اوامر نبض القلب والضغط الدموي والتأهب والتعرق واتساع حدقة العين وسائر وظائف الجهاز العصبي اللا ارادي، هنا يرتبط مصدر الشغف بتهيئ خاص للجسد،وتزداد معدلات التفس والتأهب العضلي-العصبي وتزداد كميات الاوكسجين ومستويات التركيز والادراك والوعي والحدس، كما ان القشرة المخية هنا تستشعر “دفقة الدوبامين” -مسئول الشعور بالمكافئة/ السعادة- وارتباطه بفكرة او معنى او قضية ما، وتظل القشرة المخية تهب الشعور بالمكافئة والسعادة مع كل سلوك وتوجه او فكرة تتجه نحو مصدر الشغف.
قد يتميز الشغف ببعض مظاهر الرشادة والحكمة والعقلانية والوعي، علاوة على تكوين السلوك والدافع الحصيف نحو مصدر وفكرة الشغف، بعكس العاطفة او الشعور بالحب نحو قضية او فكرة ما، فالدوبامين والموصلات العصبية والنواة السقفية مصدر الشغف يشتركون في الدوائر العصبية للتركيز والحدس والاكتشاف والوعي وحفظ النفس، فيما ان الحب مصدره “النواة المتكئة”، والتي تمر اشارات دوائرها العصبية بنفس مسارات اشارات الدوائر العصبية للنواة السقفية ولكن عبر افراز “الانكافالين” لا الدوبامين، وهو ذو التأثير الافيوني، وكذا عبر افراز “الاناداميد” الذي يشبه في تأثيره تأثير الماريجوانا، ولذا نلحظ انه مع الحب يتخدر الوعي وتضيق الرؤية وتتعاظم الاعتمادية الشعورية وتنعدم النظرة النقدية ويغيب التقييم، فيما انه ومع الدوبامين “الشغف” يتعاظم ما هو عكس ذالك ليكون الشغف هو مصدر الحضارات البشرية وبؤرة الاكتشافات العلمية ونبع المنجز الفكري ومركز العاطفة الحية ودافع المرونة والتكيف واسبصار الحلول والقدرة على الفعل والتجاوز نحو المستقبل.