
الأديبة العراقية نداء عادل | القاهرة
وأنا أراجع أحداث هذا العام، تعلّمت درسًا ليس بجديد ولكنه جاء هذه المرة شديد الوضوح، إذ أنَّ التنازلات التي قدمتها، وقبولي الوجود في المكان الخطأ، هما الحبل الذي التف حول رقبتي لاحقًا.
نعم؛ أعترف أني كنت أقبل أن أكون في غير مكاني مرات عدة، ولكن هذه المرة كانت قاسية وشديدة الثقل على روحي، واستنزفتني كثيرًا، بل وربما حطمت ما تبقى من روح كان يمكن أن أبذله لمن يستحق.
الجيد في الأمر أنني وللمرة الأولى أستطيع أن أقول إن هذا الوضع لا يلائم شخصيتي، وأنني مهما كلفني الأمر سأنتهي منه، حتى ولو كان على حساب أشياء أخرى كثيرة.
في الحقيقة إن الشخص الطيب لا يتحول لشخص مؤذ فجأة؛ لكن حين تضربه الحياة بصفعات لا تنتهي من الخذلان والخيبات، يتحول تدريجيًا، إذ أنه بعدما كان أول من يغفر ويسامح يصبح شخصا لا يقبل الأعذار أو يعطي فرص جديدة، وبعدما كان يدافع باستماتة عن أحبائه يصبح متقبلا للخذلان وللصدمات من أي شخص. تتغير نظرته في البقاء الأبدي فيصبح إيمانه بأن الجميع فترات تنتهي مع الوقت، وبعدما كان يثق في الجميع يتحول ليجيد حفظ أسراره وتفاصيله لنفسه. لا يعاتب أحدا، ولا يضع أمالاً على أحد. لا ينتظر أحدا، ويتوقع السيء والأسوأ من الجميع.
هذا العام خطوت خطوة إيجابية نحو نفسي، ومثلما أسقطتها أقمتها مرة أخرى، حتى ولو كان ألم العودة عظيم للغاية.
تركت لذاكرتي العبث في يومي هذا وضحكت كثيرًا. كم كنت طفلة ساذجة في محراب عشقي، وأنا أنتظره يعيد الخطى، يخرج من علبة الموت حاملاً رأسه على يديه؛ لكن حفنة تراب لم تزل بيننا عصية على التعرية.
أنتظر منذ زمن بعيد مفتاحًا يدور في بابي، وعلى عتبتي يترك الرأس المغلف، خطوة واحدة أهبط بها أدراجي، قبل أن يذوب الثلج، وأراه مرّة أخرى، كاملاً وحقيقيًا، ليعود لهذا الوجود معناه، وأعيد ما فاتني من حياة بغيابه.
قبل بضعة أعوام، اقتنيت كفني، نعم فعلت، لم أكترث يومها لنظرة الدهشة في عين البائع، إذ كنت ومازلت على اقتناع تام أنني لحظة إنفاقي ذاك المبلغ اشتريت حريتي، ووحدتي صارت اختيار، كما كانت غربتي الأخيرة قدر.
أطلقت لحنجرتي العنان بعدما اكتفت المقل من صرخاتها، سمعت من أعماقي صوتا هادرا يغني:
“فزعانة يا قلبي
أكبر بهالغربة
وما تعرفني بلادي
خدني على بلادي..”
ترى هل أعرف كيف أعود؟




