حوار

نصيف الناصري.. تعددت ألعابه والسيرك واحد !

لقاء خاص على هامش مهرجان بابل

بقلم: عليّ جبّار عطيّة
قبل أن يطير إلى المنفى ــ حيث يقيم ويعمل في مدينة مالمو السويدية ــ التقيت قبل أيام الشاعر نصيف الناصري في شارع المتنبي ببغداد في يوم ربيعي غير اعتيادي محسوب على فصل الصيف لكنَّه مستقطعٌ منه !


هو جاء مشاركاً في مهرجان (بابل للثقافات والفنون العالمية)، وقد آثر أن يكون شارع الكتب والمكتبات آخر مكان يزوره قبل العودة إلى فردوسه البارد .
كان الصبح قد تنفس منذ ثلاث ساعات فكان اللقاء به حقيقياً أشبه بالحلم، أو هو لقاء حلم أشبه بالحقيقة أعادني إلى ذكرياتنا منتصف الثمانينيات في منتدى الأدباء الشباب بمنطقة الطالبية في رصافة بغداد.
في تلك السنوات كان الهتاف الأعلى هو (نحنُ الشباب لنا الغد)، ولكن أي غدٍ والبلد في قبضة الخوف وتحت سياط القمع، وهدير الحروب.
كان صعود شاعرٍ متمردٍ مثله يبحث عن خياط للموت وفضيلة للذئب إلى المنصة كسراً للرتابة، وبهجة من مباهج الدنيا النادرة !
يكفي أن تستمع إلى قصيدته الاحتجاجية الرافضة للسائد والمألوف، والأغراض التقليدية والإتيكيت المنمق حتى تكتشف أنَّه شاعرٌ معارضٌ مختلفٌ وغير قابل للتدجين، وأثبت في ما بعد صحة ذلك الفرض في تسعينيات القرن الماضي حين جسد مسامع كوميدية ساخرة من رموز النظام الدكتاتوري في إذاعة (المستقبل) التي كانت تديرها حركة الوفاق الوطني العراقي في عمان !
هو لا يستحيي أن يقدم نفسه أينما حل بأنَّه الزَبَّال الجميل، وغَسَّال أَكواب القهوة والصحون، ويجيد لف المحركات الكهربائية، وأنَّ لديه شهادة من أحد مراكز محو الأمية (مدرسة الجبل الأخضر) ( ١٩٧٥ ــ ١٩٧٦) تفيد بأنَّه (يقرأ ويكتب) وهي أكبر من كل الشهادات التي ستظهر بعد ذلك عن قرب وعن بعد !
هل يا ترى كان يسخر من أصحاب الشهادات العليا المزورين الذين يتكاثرون بيننا كما يتكاثر الذباب ؟
يقول: (كلّ ذبابة تُغيّرجلدها، وَتَلْبَس لبدة الأسَد، وتَغير على الزَمَن في قَيْلولَته بَين الخَمائل التي زيَّنها للمَهْجورين) وهو جليس شعراء كبار مثل عبد الوهاب البياتي، وسعدي يوسف، وحسب الشيخ جعفر الذي كان يقول له :(مزيداً من الشعر أيها الصعلوك الرائع) !
أصدر عام ١٩٨٦ ديوانه (جهشات)، وبعد عشر سنوات أصدر (أرض خضراء مثل أبواب السنة)/١٩٩٦ و(قبر في الذاكرة) /١٩٩٧ و(في ضوء السنبلة المعدة للقربان) /٢٠٠٧ و(الثلاثية الأولى) /٢٠٢١ وغيرها.
ومن هوان الدنيا على العراقيين أنَّ يتقاسم نصيف الناصري سنة ١٩٩٦مع الشاعر حسب الشيخ جعفر والفنان التشكيلي إياد صادق كوخ صفيح يقع في بستان بجبل ( اللويبدة) بعمّان ينتظر صاحبه استكمال التبرعات لإنشاء مسجد فوقه، وهو لا يصلح للسكن، ولا يقي من حر ولا برد مع ساكن مزعج للغاية لا يعيش إلا على الدماء هو حشرة تسمى (بق الفراش) !
والأدهى أنَّ لجوءه إلى هذا الكوخ كان بعد طرده من شقة مدفوعة الإيجار إثر وشاية بسبب تضييفه لشاعر قادم من بغداد هو حميد قاسم !
لم يكن لقائي غير المخطط له بنصيف الناصري شعرياً ــ فلا اختلاف على شاعريته ــ لكنَّ الشعر كان حاضراً بقوة الشاعر !
سألته أين وجد الحياة والعيش؟
قال: إنَّ الحياة هنا في العراق أما العيش فهناك في السويد، وإنَّه وقد تخطى الثانية والستين من العمر يُبعدُ أسْراب الجَراد عَن كهولَته، ومازال يعمل رئيساً للمنظفين، ويدفع في اليوم الخامس والعشرين من كل شهر ضريبة لمملكة السويد تبلغ ٦٠٠ دولار تمثل نحو ثلاثين بالمئة من راتبه الشهري الذي كلما زاد زادت معه الضريبة !
هو مطمئن لغده فسن التقاعد في السويد مرتفع إلى السابعة والستين،(سيرتفع إلى السبعين خلال السنوات القادمة)، والجميع مشمولون بالراتب التقاعدي، وهم لا يفرقون في ذلك بين مَنْ يقضي ساعة في الوظيفة، ومَنْ يخدم ثلاثين سنة فالمهم هو بلوغ السن التقاعدي !
وبعد هذا العمر الحافل بالمفارقات والحروب العبثية والحصارات، والتشرد
يتساءل في قصيدة له عنوانها (موعظة في مقبرة سويدية) : (هَل نعكّر مياه الحَياة الصافية بخشْيَتنا مِن المَوت؟)
يستذكر نصيف الناصري محطات حياته من ولادته في الناصرية ثمَّ انتقاله إلى شرقي بغداد، واضطراره للهجرة إلى عمان، وسكنه في كوخ الصفيح ثمَّ تفتح له الدنيا أذرعها في السويد، ويؤكد جملته المحكمة (تعدّدت الأَلعاب والسَيْرك واحد)، وحين سألته عن حسابه على مواقع التواصل قال : إنَّه أضاع هاتفه مؤخراً لكنَّه يبقى متمسكاً بصعلكته وسخريته اللذيذة، موقناً من زوال الملوك والأباطرة ورجال الأعمال مع بقاء عصا شارلي شابلن !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى