على ضفاف النيل الكاتبة اللبنانية “مريم هرموش” تحتفل بالترجمة السويدية لروايتها “ذلك الغريب” وتنشر طبعتها الثانية

مجدي بكري | القاهرة

بجملة واحدة تمكن الكاتب والناقد مصطفى عبدالله من أن يستحوذ على اهتمام الحضور بمجرد أن استهل كلمته بقوله: “إذا لم يكن زميلي الأستاذ محمد حربي قد دعاني للحديث إليكم الآن لطلبت منه ذلك، رغم أنني سبق وأوضحت للكاتبة مريم هرموش، أثناء وضع برنامج هذه الندوة، أنني لن أتكلم وربما لن أتمكن من الحضور، ثم أردف قائلًا: كان هذا لأسباب صحية ألمت بي مؤخرًا، إلا أنني، قبل موعد بدء الندوة بنحو ساعتين فقط، عدلت عن قراري، وطلبت من زوجتي أن تستدعي لنا سيارة تتوجه بنا إلى هنا ليكون حضوري مناقشة هذه الرواية، التي بشَّرت بها، وأشرت إلى أصالة موهبة صاحبتها، نوعًا من تقدير هذا الجهد الذي تم بذله في الإعداد لهذه المناقشة.

 

سعادة السفير رضا الطايفي

ثم قال: أما سبب عدولي عن عدم الحديث، فيرجع إلى رغبتي في أن أضع إطارًا حول ما شهدناه اليوم، وأن أسجل الشكر لعميد الدبلوماسية المصرية السفير عبدالرؤوف الريدي رئيس مجلس إدارة مكتبات مصر العامة، وللسفير رضا الطايفي عضو مجلس الإدارة ومدير صندوق مكتبات مصر العامة، لاستضافة هذه الندوة الاستثنائية التي بذلت ضيفتنا الروائية مريم هرموش جهدًا لمسناه جميعًا لتضمن أن تعم الفائدة على المجتمع الثقافي بأفضل صورة، فلا تكون ككثير من ندوات مناقشة الكتب في القاهرة التي تعاني من غياب الجمهور المستهدف ووفرة المقاعد الخالية، فجمهور الندوات بات يفضل متابعتها على وسائل التواصل الاجتماعي دون أن يكلِّف نفسه معاناة النزول من البيت.

وأوضح مصطفى عبد الله أنه لم يكن يعرف مريم هرموش ولم يكن قد قرأ عملًا واحدًا لها إلى أن لفتته جملة قصيرة وجهها إليها السفير رضا الطايفي في احتفالية تكريمه بلجنة العلاقات الدولية باتحاد الكتاب عندما قال لها: “مبروك يا مريم.. روايتك الأخيرة أعجبتني جدًا”، ولأن رضا الطايفي لم تعرف عنه المجاملة، فقد بحثت عن “ذلك الغريب” وقرأتها فإذا بها بالفعل نصًا روائيًا يتحتم الالتفات إليه، لا سيما وأن كاتبته كان طموحها أكبر بكثير من أن تصنف في رف الكتابة النسوية وتُسَوَّق على هذا النحو، فقد أدركت بعد اختبار نصها بواسطة كثير من المتخصصين، أنها كاتبة يمكن أن تقف بين القامات الروائية الراسخة في العالم. وربما يكون هذا هو سبب تحمس الفنان التشكيلي أحمد الجنايني لتصميم غلاف روايتها الذي توقف أمامه كل من رآه، وتحمست لمناقشتها أسماء نحترمها مثل: كمال مغيث، وشريف الجيار وبسمة الصقار وهشام محمود الذي أدار أول مناقشة لهذه الرواية في أتيليه القاهرة في رحاب المعرض التشكيلي الذي يتراسل معها ويحمل العنوان ذاته، معرض الدكتورة هبة الغنيمي، فضلًا عن الدراستين البديعتين اللتين كتبت أولهما الناقدة نشوة أحمد ونشرت في مجلة “إبداع” المصرية”، والأخرى التي كتبتها الدكتورة سماح الوكيل وسنقرأها في العدد المقبل من جريدة “الأسبوع الثقافي” التي تصدر في العراق.

 

وأضاف مصطفى عبدالله أن هرموش إنسانة تعنى بأدق التفاصيل في حياتها تمامًا كما تهتم بالتفاصيل كافة في نصوصها، ومن هنا فقد سهرت على إعداد برنامج الندوة وكأنها تعد لاحتفالية رسمية، ومن هنا لم يفوتها أن تستقبل ضيوف ندوتها بالورود، ولم تجد حرجًا في أن توضح لكل متحدث أن أمامه ثلث ساعة فقط ليطرح كل ما عنده ليتيح وقتُا لعازفين رائعين: لجين طارق والمطرب اشرف علي، على آلتي  الكمان والعود ليتبادلا إمتاع المشاركين جميعًا بما يعزفانه من مقطوعات موسيقية عالمية أوأغنيات من الطرب الشرقي الأصيل.

والجدير بالذكر أن عازفة الكمان الصاعدة “لجين طارق”  هي ابنة أستاذ التاريخ ووكيل كلية الآداب جامعة عين شمس الدكتور طارق منصور الذي قد تحدث بدوره عن رواية هرموش متناولًا قضية الغربة في رواية “ذلك الغريب” مؤكدا أنها تبرز بجلاء في صفحات الرواية كلها، وكأن الكاتبة تجرعت آلامها في يوم من الأيام، فجاءت مشاعر الغربة على يديها صادقة تمامًا، وأجادت الحبكة الدرامية بحيث يرى القارئ مظاهر هذه الغربة المتنوعة داخل إطار هذا العمل الرفيع.

 وأضاف قائلا: “إن مظاهر الغربة في هذه الرواية، تتمثل في ما يمكن أن نسميه “غربة الوطن”، فمدحت البطل الثاني في الرواية، زوج أريج، نجح بجدارة في أن يجعل كل أفراد أسرته غرباء داخل الوطن؛ حتى قرر كل فرد منهم الانصراف عنه والفرار بنفسه إلى أرض أخرى عسى أن تكون أكثر حنانًا من أرض الوطن. لكن يكتشف أفراد تلك الأسرة أن الغربة كتبت عليهم جميعًا، فنادر هاجر إلى إيطاليا برغبته هربًا من جحيم أبيه مدحت، وتلبية لدعوة صديقته الإيطالية التي قرر الزواج منها، فهاجم الفيروس اللعين إيطاليا بشراسة، وكان عليه أن يكافح في أرض جديدة من أجل الحب والبقاء، ونجح في تحقيق هدفه، واكتملت سعادته حين شعر بقيمة وجوده كإنسان”.

وأردف: “أما الابنة نسرين فقد هجرت الوطن وتركت المنزل، الذي كان من المفترض أن يحتويها حتى بعد زواجها، إلا أنها لجأت إلى الهجرة مع زوجها إلى كندا أيضًا، على طريقة شقيقها نادر، عسى أن يجدا أرضا تحتويهما، وتأمن لهما مستقبلهما. وتأتي أصعب اللحظات هنا حين تنجح الكاتبة في تصوير لحظات الألم والحيرة وتمزق العواطف حين تقترب الابنة من ساعة الولادة ولا تجد سندًا لها إلا الله، وصوت الأم أريج المتمزق ألمًا عبر الهاتف”. 

وأكد الدكتور طارق منصور أن الاسم الذي أتت به الكاتبة -عن عمد- للطفلة التي أنجبتها نسرين “حنين”، يشي بما ترسَّخ بداخلهما، بل بداخل كل غريب، حنين كل منهما إلى الأخر، بل وحنين نسرين إلى الوطن، بعد أن تجرعت أولى آلام الغربة الحقيقية. وتدلل المؤلفة على هذا في متن كلامها حين تقول: “الحنين، ذلك الشعور الغامض بأن روحك في مكان لا يستطيع أن يبلغه جسدك” (ص 28).

أما المذنب هنا -كما يقول منصور- فهو ذلك الأب الغريب عن أبنائه وزوجته أريج، الذي شتتهم جميعًا في الأرض حتى يتفرغ لنزواته النسائية، التي كان يستمتع بها ليل نهار، ليتجرع مرارتها في نهاية الطريق. لم يكن مدحت سوى شخصية انتهازية، نجحت الكاتبة في أن تدفع القارئ وبسلاسة لكراهيتها منذ الوهلة الأولى، فما أتى به من أفعال لا يمكن أن يأتي بها إلاَّ إنسان شاذ عن ناموس الكون، تفنن في تصوير ضحاياه من الفتيات الباحثات عن عمل يليق بهن، ثم مضاجعتهن تحت ضغط الحاجة والصور الفاضحة، ثم استمراء مضاجعتهن رغم أنوفهن؛ في وقت هجر فيه زوجته طوعًا، مستمتعًا بعالمه المعتم.

وفي نهاية حديثه أكد الدكتور طارق منصور أن  الفصل الأخير للرواية، يشي بما للكاتبة من مهارة عازف أوركسترا إذ اختتمت روايتها بنهاية طبيعية ملائمة للخط الدرامي، تم التمهيد لها عبر الفصول الأخيرة منها، حيث سيتجرع مدحت هنا من ذات الكأس، كأس الغربة داخل الوطن، حين خلا البيت عليه، وأصيب بذلك الفيروس، رغم إجراءاته الوقائية الشديدة، ولم يجد إنسيًا يؤانسه، فخرج إلى الشارع ليجد كلبًا ضالاً يبحث عمن يأويه، بعد أن لفظ الأهالي حيواناتهم الأليفة، خوفًا من انتشار ذلك الفيروس اللعين، فأتى به إلى فيلَّته ليرافقه في تلك الغربة؛ ويتحدث إليه من حين لآخر، قائلا له ذات يوم: “لم يبق لي غيرك” (ص 166). وهكذا، صنع مدحت غربته بأفعاله الماجنة، وأنانيته المفرطة، وحياته البائسة. 

وأكد الناقد الدكتور شريف الجيار، الأستاذ بآداب بني سويف أن “ذلك الغريب”  تأتي عبر نسق سردي ما بعد حداثي، ولغة بصرية، ومشهدية سينمائية، وبنية روائية مفعمة بالبوح وتعدد الرواة، لتطرح واقعا مأساويا للمرأة في ظل هيمنة ذكورية تعاني من العقد الأبوية منذ الطفولة، فتتجلى الزوجة الفنانة التشكيلية أريج في واقع سوسيو نفسي مأزوم، لا تخرج من سطوته إلا بالحب لذلك الغريب الفنان الذي رحل، وتعرج بنا الرواية إلى الهزة الإنسانية التي أصابت الكوكب في ظل جائحة كورونا، لا سيما في أوروبا، ذلك الفيروس الذي وحد البشر لحماية أنفسهم من شبح الموت، وتنقلنا الرواية عبر رواتها المتعددين من مصر إلى كندا ثم إيطاليا، لتجسد عالمًا مأزومًا، وأنفس متشظية، لا مخرج لها في هذه الحياة إلا بالحب.

وعن تجربته مع روايات مريم هرموش قال الناقد الدكتور كمال مغيث: “قرأت لها من قبل رواية “أكبر من العشق” فوجدتها صاحبة لغة وأسلوب مميز، وكتابة جميلة ومتفردة وخاصة، تتجاوز فيها بطلاتها همهن النسوي الذاتي والمحلي ويسعين عبر دروب مختلفة  للبحث عن الذات الإنسانية المفقودة
وبعدما قرأت روايتها الأخيرة “ذلك الغريب” وجدتني أمام لغة عذبة  سيالة، رقيقة شجية، وبناء درامي خاص ومتميز يعتمد على تعدد الأصوات السردية، ما أفسح  المجال للأبطال كي يعبروا بأنفسهم عن مشاعرهم ويبرروا مواقفهم ويتحدثوا عما يختلج بداخلهم     
وتطرق مغيث إلى الحكاية التي تتناولها الرواية وتدور حول فتاة رومانسية حالمة، تمتلك أنوثة غامرة وحبا للحياة بلا حدود وأملا كبيرا في المستقبل، “أريج” التي شغفها “مدحت” حبا فتزوجته، لكى تكتشف بعد قليل بوضوح وجلاء كم هو أناني وانتهازي ومتسلق وفاسد ومنحط ولا يمكنه أن يقدم  لأحد شيئا حتى لابنه وابنته اللذان يسعيان للبحث عن الحياة والحب بعيدًا عنه وعن وطنهم نفسه، أما أريج فتنطوي على خيبة أملها وتسعى للبحث عن ذاتها في لوحاتها التي تمتلىء بنساء محلقات في الفراغ بلا رؤوس ولا ملامح، حتى تلتقى “ذلك الغريب” الدافئ المثقف الإنسان الذي يتمكن ببساطة وطبيعية ودون عناء ولا قصد من امتلاك روحها ورغم هذا لا تلتقيه إلا لماما ومع هذا فهو يباغتها بموته المفاجئ، وتدهشنا الرواية بذلك التساؤل الوجودي، هل يمكننا أن نعيش حياة كاملة هي العبث والكذب والخداع والاستلاب وغربة الروح، بينما يخبىء لنا القدر السعادة فيما يتبقى لنا من سنوات قليلة مع غريب لم نعرف له اسم؟!

وأشار مغيث إلى ما احتوته الرواية من معاناة مؤلمة لتلك الرومانسية الحالمة بين العمر الذي ضاع في الوهم  والأكاذيب وبين الأمل المتوهج الذي سرعان ما خبا وأنطفأ، إذ تترك البطلة البيت الذي وهبته ذوب عمرها وحياتها واهتمامها والزوج الذي لم يعد لديه إلا الشكوك والتوجس والعدوانية وفضائح جنسية بالغة الخسة، وتترك خلفها مذكرات تشرح معاناتها وتشير للأمل الذي بعثه ذلك الغريب، وإن كانت مذكرات مقطوعة بعض صفحاتها التي شغلتنا مريم هرموش بالتفكير في محتواها،  وتذهب أريج لتهب لذكرى ذلك الغريب الذي مات؛ ما بقى لها من حياة، بينما تردد جدران بيتها اسمها الذى يغيب: أريج أريج أريج.

الدكتورة بسمة الصقار وصفت رواية “ذلك الغريب” بأنها لوحة فنية ترسمها مريم هرموش وقالت: “إن هذه اللوحة تحملنا مع ظلال وخطوط كلماتها الساحرة إلى عالم الحب في زمن الكورونا، نحلق بين ثنايا صفحاتها في محاولة إصلاح أجنحة جبران خليل جبران المتكسرة كي تهيم أرواحنا في سماء الحب العذري الطاهر الذي يسمو مترفعا عن كل دنس”.
وواصلت: “في هذه الرواية  الرائعة أعادتنا المبدعة مريم هرموش في ثالث تجربة روائية لها إلى عالم الكتابة الرائقة والألفاظ والتراكيب التي تداعب الروح وتشغل الفكر،
ولم تعوِّل هرموش علي براعتها في نسج لغة خاصة بها ولكن تلك المهارة كانت بمثابة الإطار الذهبي الذي صاغت به تجربتها الإبداعية بحرفية، فكان الخط النفسي للرواية متسق مع بواعث وخلفيات الشخصيات المحورية بشكل يدفع القارئ إلى مواصلة القراءة دون شعور بانفصال نفسي عند الانتقال من مكان لمكان ومن راوي إلى آخر” .

وأردفت: “تمكنت الكاتبة من التفاصيل الدقيقة لمعطيات كل شخصية فكانت مفردات ( أريج ) الفنانة التشكيلية في الرواية هي مفردات فنان تشكيلي حقيقي حين يصف تأثيرات الألوان والظلال علي إظهار بواعث ومدلولات العمل الفني، كذلك عند وصف أماكن بعينها في بلدان عدة مثل كندا وإيطاليا ومصر وذكر تفاصيل مناطق بعينها فتتحول الكلمات إلى صورة حية أمام القارئ”.
وأشادت ببراعة التعبير المتباين عن الخوف الذي اعترى العالم منذ جائحة كورونا وانعكاساته المختلفة على شخصيات الرواية باختلاف معطياتهم ودوافعهم والذي تُرجم إلى طاقة عطاء عند أحدهم، وإلى اكتئاب عند الأخرى وإلى فزع من الموت عند الأخير.
وأكدت الصقار أن مريم هرموش قامت بطرح إشكالية الغربة بمختلف ظلالها وبمنتهي الألم دون عبارات وشعارات رنانة، إلى أن أوصلتنا إلى حقيقة أكثر ألماً وهي (أن غربة الروح  أكثر وجعًا من غربة المكان ) .
وأضافت قائلة: “إن ما لمس روحي في رواية ذلك الغريب هو ذلك الحوار الشاعري الراقي الذي أعادني دون محاولة مني إلى كلمات جبران خليل جبران، ويوسف السباعي ، ومحمد عبدالحليم عبد الله، إلى ذلك الزمن الذي كانت فيه القراءة تسمو بروحك وترتفع بمفرداتك وتنعكس علي تعبيرات وجهك،
أعادتني إلى تلك الأقوال المأثورة التي تؤخذ عن كبار الكتاب والفلاسفة كي نستشهد بها في عرض حواراتنا فنجد:
“الحنين؛ ذلك الشعور الغامض بأن روحك في مكان لا يستطيع أن يبلغه جسدك”
“ادخل إلى القلب المفتوح وليس الباب المفتوح”
“من حُرم من الشيء هو الأقدر علي منحه”
“الحب لا يمنح لأنه حق أصيل، وبالرغم من ذلك فهو عصي علي الكثير من الناس”
“يا من قتلتني بحبك مرتين، كيف تريدني أن أحقق حلمًا لم تعد فيه” مريم هرموش.
وانتهت الصقار إلى أن براعة هرموش في تلك الرواية تكمن في قدرتها البالغة على جعل كل قارئ يجد بين سطورها “غريبه الخاص”.
فيجد أن من لم يبتسم وجهه لحيوان أليف يداعبه!
ومن لم تنتشِ روحه لمعزوفة موسيقية!
ومن لم ينبض قلبه بالحب!
هو حقا… ذلك الغريب. 

الفنان التشكيلي والكاتب أحمد الجنايني راسم غلاف “ذلك الغريب”، بعد أن خاض تجربة خاصة مع سطورها دفعته لقراءة الأعمال السابقة للكاتبة وهذا ما أكده بقوله: “كان طبيعيًا أن أعيد قراءة مريم هرموش بعد أن أنهيت قراءتي لروايتها المدهشة (ذلك الغريب)؛ فلم تكن تلك الرواية بمعزل عن أسئلة كانت تدفعني للاقتراب من عالمها ليس لكتابة رؤية نقدية حول “ذلك الغريب” فقد سبق أن قمت بذلك وأُضيفت رؤيتي النقدية إلى الطبعة الثانية للرواية ولكن الدافع الحقيقي ربما كان محاولة للاقتراب أكثر من هذا العالم الذي صدرته لنا مريم هرموش عبر روايتيها “شيء مني” و”ذلك الغريب” وقبلهما كنت أقرأ “أكبر من العشق”

وأكمل: كان السؤال ملحًا ويمثل نافذة مهمة أطل منها على عالم ليس يشبه كثيرا ما قرأته سابقا من أدب الأظافر الطويلة التي خربشت صفحات وذاكرة ستينيات القرن الماضي حين كتبت غادة السمان وليلى بعلبكي وغيرهن عن تلك الأنثى التي تصرخ في وجه العالم لتعلن عن أنوثتها المتمردة وعالمها الذي تحاول أن تقهر به الواقع المجتمعي الذي خرجت منه وثارت عليه؛ فها هي غادة السمان تعلن في مجموعتها القصصية “عيناك قدري”، “ما أروع وما أسوأ أن تكون امرأة”.

وتساءل: كيف إذن كانت مريم هرموش وهي التي لم تخرج من عباءة الأظافر الطويلة تكتب رواياتها؟

أو تنزف إبداعاتها؟ هل كانت تحمل صندوقا سحريا خبأته في ذاكرتها، مليء بالمعلومات التي سوف تواجه بها أبطال روايتها فتهندس عبرها خطوط الدراما التي سوف تصعد بها مرتفعات الرواية؟ تماما كما فعلت في رواية (شيء مني) التي غامرت بصندوق معلومات خبأته في ذاكرتها كي تمارس دور الطبيبة النفسية وتحتمي ببقعة روشاخ النمساوي وتنزع عن ذاكرة مريضها، تلك الغلالات التي حجبت عنه ذاكرته وضيعتها، فاستحال المريض إلى محض رقم في دفتر المشفى.!!

أم أنها غامرت وهي تحمل فقط مفتاح روايتها وظلت كساحرة ترتدي أقنعة تخبئها وتستتر وراءها لتتعرف بنفسها على تفاصيل أحداث وتصاعد دراما لم تكن قد سطرت بنودها وأحداثها وعناوينها مسبقا، فأصبحت الرواية عندها محض سرد تكتشف هي ماهيته أثناء الحمل، ومخاض ولادة الجنين الإبداعي. 

وأكد الجنايني أن تلك المغامرة لا يقوى على الولوج فيها سوى من قبض على فلسفة الإبداع وأمسك بسرة الدراما التي تصنع نفسها وتتوالد عبر شهيق وزفير أنفاسها فتصبح مريم -بحد وصفه- وكأنها تقرأ نصا لم يكتب من قبل وتشاهد مسرحا (برختيا) تكون هي فيه محض عنصر من عناصر كثيرة تتحاور وتشتبك وتشتعل معها فلا ندري كيف يكون ومتي يسدل (بريخت) ستارا، سموه الحائط الرابع.؟!!

وقال: إن تلك الفلسفة الإبداعية هي التي نزفت عبرها مريم هرموش روايتها ذلك الغريب فكانت نزفا مغايرا، يستحق الوقوف على عتباته ليس فقط لكونها عبرت كما قال المسيح من الباب الضيق فاختارت المغامرة التي هي الأصعب لكتابة نص إبداعي مغامر ولكن لأنها بتلك الرواية “ذلك الغريب” أنجزت مع رواياتها السابقة، روايتها الأولى التي ستشكل بنية عالم أرى على جدرانه ثقبا ضيقًا – حتما – لابد أن تعبر منه مريم لتكتب رواية جديدة لعالم جديد يبشر بأساطير زمانية ومكانية تصيبنا بالدهشة.ع

عندها سوف تكون مريم هرموش قد أمسكت بسلم الإبداع الذي أتمناه……..!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى