أدب

رؤية نقدية في مجموعة (ومن الحب) للكاتب العماني د. سعيد السيابي

ومن الحب.. ما أدهش وأمتع

بقلم: ريم أبوعيد
روائية وكاتبة وسيناريست وعضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر

دائما ما يتبادر إلى ذهني ذلك السؤال عندما أسمع مقول ومن الحب ما قتل.. أحقا يقتل الحب؟ إن الحب الحقيقي في رأيي الشخصي يمنح المحب عمرا فوق عمره، وأي مشاعر تقتل لا يمكن أن تكون حبا بأي حال من الأحوال. حين وقعت بين يدي المجموعة القصصية (ومن الحب) للكاتب العماني د. سعيد السيابي أعاد عنوانها إلى ذهني ذات السؤال مرة أخرى، ماذا تراه الحب فاعلا بالمحبين؟ هل صحيح أنه يقتلهم كما يشاع أم أنه عين الحياة لهم؟
قرأت المجموعة القصصية بشغف علني أجد إجابة شافية على ذلك السؤال الحائر، ووجدت أن الكاتب يؤكد على ذات الإجابة في القصة التي تحمل عنوان المجموعة بأن من الحب ما قتل معنويا ونفسيا.
وما زلت أتأمل كثيرا تلك المأساة الموجعة بأن بعض الناس يقتلون غيرهم قتلا ماديا ومعنويا تحت مسمى الحب والحب منهم ومن جرائمهم براء، وأعود وأتساءل نفس السؤال كيف للحب أن يقتل؟
قبل أن أشرع في قراءة المجموعة القصصية استوقفني الغلاف كثيرا كوني من عاشقات القطط، ظننت أن المجموعة ربما تتضمن قصة عن تلك الحيوانات الأليفة الرائعة ولكن لدهشتي لم أجد أي قصة واحدة تشير إليها، فسألت الكاتب عن سبب اختياره للغلاف الذي يحمل صورة لقطة بالرغم من أن مجموعته القصصية خالية الوفاض من أي ذكر للقطط. أبهرتني الإجابة حين عرفت أن لوحة الغلاف رسمتها طفلة في الرابعة عشرة من العمر وهي الطفلة العمانية نوار الغداني، وأن الكاتب د. سعيد السيابي أراد دعم وتشجيع هذه الموهبة المتميزة بأن يجعل من لوحتها البديعة غلافا لمجموعته القصصية، الأمر الذي أعده لفتة إبداعية رائعة من فنان مبدع.
المجموعة القصصية تحتوي على تسعة وتسعين قصة قصيرة جدا تتناسب وإيقاع العصر اللاهث من فرط السرعة. جاء الإهداء مختلفا بعض الشيء عما نقرأه من إهداءات في الأعمال الأدبية، وجهه الكاتب لجميع من قضوا جراء إصابتهم بفيروس كرونا، لم يخصص الإهداء إلى بني وطنه فقط ولكنه عممه على جميع الراحلين بسبب ذلك الوباء الثقيل كما أطلق عليه في إهدائه.
بدأ الكاتب مجموعته القصصة بقصة (خريطة) التي وبالرغم من عدد سطورها المحدود جدا إلا أنها تحوي بين طياتها قيمة عظيمة جد، الأمر الذي يعد إبداعا في حد ذاته أن يستطيع الكاتب في بضعة سطور أن يقول ما تعجز عنه ألسنة الخطباء المفوهين والساسة المخضرمين في مختلف المناسبات التي يتحدثون فيها عن فلسطين الحبيب. يقول الكاتب في تلك القصة: “اتصل الجد بابنه مطلع الفجر، شاهد خريطة العالم مفروشة على أرضية غرفته، وطأها برجله، انتبه إلى أن فلسطين مقطوعة من الخريطة. أوضح له ابنه: حفيدك سهر الليل كله ليضع فلسطين في لوحة أعلى الجدار فوق رأسك.”
وعلى الرغم من أن هذه المجموعة القصصة صدرت في العام 2021، إلا أن قصة (خريطة) تعبر عن واقع حال مستمر إلى يومنا هذا، وربما جاءت هذه القصة أيضا ليس فقط لتعبر عن ذلك الواقع وإنما أيضا تحمل بين طياتها واقعا آخر ألا وهو أن هناك جيلا جديدا سيرفع راية المقاومة عالية حتى تعود فلسطين كاملة على خريطة العالم من جديد.
تضمنت المجموعة عدة قصص قصيرة عن وباء كرونا وما خلفه من ضحايا وأثره النفسي على ذوي الراحلين، استوقفتني بعض القصص تحديدا دون غيرها لما تحتويه من معان بين سطورها قابلة للعديد من التأويلات المدهشة.
(تكافؤ)
“صراع الفيلة يطحن الأرض تحت أقدامها. وحدها الأعشاب المسحوقة تعيش مأساة ذاك الوقت الأليم بلا ذنب.”
من التأويلات التي جاست بخاطري وأنا أقرأ هذه القصة القصيرة جدا، أن هؤلاء الفيلة يمكن أن يكونوا الأنظمة العالمية التي تسحق بصراعاتها شعوبا ودولا ليس لها أي ذنب في أطماعهم. أو ربما الأحزاب السياسية في دولة ما والذين يتصارعون على السلطة ويدهسون البسطاء تحت أقدامهم الغليظة، وقد يكونوا بعض الأزواج في حال طلاقهم حين يلجأون للانتقام من بعضهم البعض بشتى السبل دون الالتفات لما تحدثه تلك الأفعال من تأثيرات نفسية سلبية على أبنائهم. بضعة سطور قليلة جدا ولكنها حوت دلالات عميقة وكثيرة وهي عبقرية من الكاتب تحسب له.
(امرأة)
“في اليوم الأول من تخرجها مات أبوها، وفي اليوم الثاني من العام الثاني ماتت أمها، وفي اليوم الثالث ن العالم الثالث وكان في رمضان تقدم لخطبتها شاب، وأسرع في اليوم الرابع يأخذ رأيها وكان بالإيجاب، وفي اليوم الخامس تمت مراسم خطبتها بحضور الأهل. ولم تغب شمس اليوم السادس إلا والمليك يعقد نكاحها. وفي صباح اليوم السابع مات العريس في حادث دهس! وبما تبقى من دمع في قلبها نهضت تقف تطل من على شرفة كل ذلك النحس.”
توقفت كثيرا عند تلك القصة، قرأتها مرة وثانية وثالثة. أعدت قراءتها للمرة السابعة ربما لأتماهى مع السبعة أيام الجسام في حياة تلك المرأة التي لا أرى ما أصابها نحسا على الإطلاق فالموت حق “وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت” صدق الله العظيم. حاولت تأويل النص ولكنني أعترف بأنني لم أستطع أن أعثر على تأويلات ضمنية ربما لإحساسي بأن المرأة فيه تم غبنها غبنا بينا باعتبارها هنا نذير شؤوم على والديها وزوجها، وهو ما أراه تجنيا على حواء وبنات جنسها، ورغم انزعاجي من المعنى الظاهري للنص إلا أنه أثار في نفسي بعض التساؤلات؛ ماذا لو كانت القصة تدور عن رجل فقد أبويه في نفس تلك الأيام وماتت عروسه بعد عقد قرانه عليها بيوم واحد، هل كانت القصة ستثير في نفسي ذلك الانزعاج، والحقيقة أنني لم أستطع الإجابة بحيادية تامة الأمر الذي يعني أن النص وضعني أمام مرآة حالي كامرأة عند تقييمي لبعض الأمور والمواقف وهي عبقرية أخرى تحسب للكاتب. أما التساؤل الآخر الذي أثارته القصة في عقلي هو كيف ينظر كل منا للأحداث التي تجري له في حياته؟ هل نستطيع فهم حكمتها ومن ثم تجاوزها وتحويل إخفاقاتنا إلى نجاحات مستقبلية، أم أن بعضنا يقف أمام شرفة حظه العاثر كتلك المرأة ولا يفعل شيئا سوى البكاء ولا يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام. القصة تضعنا أمام واقع يعيشه كل منا في مرحلة من مراحل حياته، وتضعنا أيضا أمام خيارين إما أن نمكن خرافة النحس منا فيكون مصيرنا الفشل في كل ما نفعله أو إدراك أن كل ما يحدث لنا إنما هو لحكمة إلهية حتى وإن لم نعرفها في حينها فيجب علينا أن نتحلى باليقين بأنها هي الخير كل الخير فيما بعد.

(عناقيد)
“طالبة جامعية وقفت في ندوة فنية وقذفت بسؤال: ماذا قدمت الحياة للدراما؟! ضحك كل من في الصالة لغرابة السؤال عدا الفنان الضيف. كان رده: أخيرا خرج من يحاسب أعناق الصامتين على احتراقنا.”
استطاع الكاتب أن يقدم لنا من خلال هذه السطور القليلة معنى عميقا جدا وواقعيا أيضا، أن كل من يغرد خارج السرب يصبح منتقدا حتى وإن كان منطقيا ومتميزا، وهذا دأب مجتمعاتنا أن يرى المختلف عن عموم الناس بصورة مستهجنة دون التفكير في قيمة هذا الاختلاف وأهميته لتحريك المياه الراكدة في المجتمع من أجل التقدم البناء، فالسباحة ضد التيار وإن كانت غير مقبولة لدى العامة ولكنها دليلا على قويا على الحياة فالأسماك الميتة وحدها هي التي تسبح مع التيار.

(مزيفة)
“بعدما امتلأ وجهها بعمليات التجميل، تصرح بأنها ما زالت تحب الجمال الطبيعي!”
بضعة كلمات موجزة ولكنها تصف حال الكثير من البشر في كافة مجالات الحياة ومناحيها، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما ينتقدون، ويظهرون خلاف ما يبطنون، ويصدقون أكاذيبهم وكأنها عين اليقين إلى حد يجعل الذي يتعامل معهم يضرب كفا بكف من التعجب.

(هاتفه)
“هي لا تعشق رقم هاتفه مهما قالت فيه من القصائد، بل تهيم فيمن يحدثها من خلف ذلك الرقم. الدقائق معدودة لديها ولا يجمعها أو يبعثرها إلا رنين الهاتف. دقات قلبها تقول وهي تحمله بأنه المهاتف وإن لم يفصح لها بصوته بعد.”
الحقيقة لم أستطع تبيان منطقية هذه القصة تحديدا، أو ربما لم أستطع فهمها بشكل صحيح. وهذا ما يدفعني لطرح سؤال مهم على الكاتب كيف وهي تعرف رقم هاتفه وتعرف لمن يكون رقم الهاتف ألا تكون على دراية بمن يهاتفها قبل أن تجيب الاتصال؟ من البديهي أن تعرف من المتصل حتى قبل أن يفصح لها بصوته كونها تعرف لمن يكون رقم الهاتف الذي تعشقه.

(كلاب)
“حمل أحد كلاب العائلة الغنية جريدة المساء من أمام الباب وأسقطها في الزبالة. كان عنوانها الأول لهذا اليوم: موت سبعة فقراء في طابور الخبز! الكلاب استمرت في النباح فقدم لها المزيد من العظام ذلك اليوم!”
بالرغم مما تحمله هذه القصة من معنى ضمني يصف حال بعض البشر ممن لا يعيرون احتياج غيرهم أي اهتمام، وما تنطوي عليه من مفارقة بين حال بعض البؤساء من البشر الذين لا يجدون حتى كفاف يومهم وبعض الحيوانات التي تتربى في بيوت الأثريائ. إلا أنني أرى فيها تناقضا كبيرا في مفهوم الرحمة بوجه عام، فبضفتي محبة للحيوانات ومدافعة عن حقوقهم في الحياة وكوني من النشطاء في مجال الرفق والرحمة بالحيوان أستطيع أن أؤكد أن من يرحم الحيوان بالضرورة يرحم الإنسان أيضا، فالرحمة لا تتجزأ. والمفارقة الأخرى التي احتوتها القصة هي نوعية الطعام الذي قدمه الثري لكلابه وهي العظام التي يتعفف البشر عن أكلها، وكأن الكاتب أراد أن يؤكد لنا ضمنا في النهاية أن إطعام الكلاب ليس هو السبب في موت أولئك الفقراء جوعا فهم لن يأكلوا طعام الكلام على أي حال، ولكن قسوة البشر فيما بينهم هي لب المأساة وعمادها.

(ومن الحب)
“أحب طاووس شجرة صغيرة، رعاها بعنايته بأن حجب الشمس عنها لحرارتها. وعندما هبت الريح الحارة قرر أن يبني حولها سورا من التراب كي يحميها. ولما اتسخت قدماه بالوحل قرر قطع الماء عن المكان كي لا يتسخ ريشه. وجد الشجرة جافة في اليوم الثالث من محبته لها!”
القصة التي تحمل المجموعة كلها عنوانها، ومن الحب، وهو العنوان الذي عصف بذهني وجعلني أدور في دائرة الاحتمالات اللامحدودة. ومن الحب ما قتل، أم ما أحيا؟ أمن الحب ما بنى أو هدم؟ جميع المتناقضات تزاحمت في عقلي قبل أن أبدأ في قراءة هذه المجموعة القصصية. حتى قرأت هذه القصة التي تحمل عنوان المجموعة وجاءت الإجابة مؤكدة أن من الحب ما دمر وقتل وهدم، وقادتني هذه الإجابة التي طرحها الكاتب في قصته إلى سؤال آخر، هل العاطفة التي تفعل تلك الأفاعيل المؤذية يمكن أن تسمى حبا؟ هل هي حب من الأساس؟ في رأي الشخصي أنها أبعد ما يكون عن الحب، فالطاووس لم يحب سوى ذاته وإن ادعى كذبا حب الشجرة، فالمحب الصادق لا يبني الأسوار حول حبيبه، ولا يمنع عنه ضوء الشمس ولا الماء أي لا يحجب عنه سبل الحياة. الحب والأنانية لا يجتمعان في قلب واحد. والطاووس البشري ليس بإمكانه أن يحب وإنما كل ما يعنيه هو الامتلاك حتى وإن دمر الطرف الآخر وحكم عليه بموت محتوم في ظل ذلك الحب المزعوم.
وكم هي كثيرة طواويس البشر التي تمارس كل أشكال الأنانية مع شركائهم في الحياة دون الالتفات لاحتياجات هؤلاء الشركاء والتي تبقيهم على قيد الحياة التي يرغبونها. الأنانية تقتل كل شيء في علاقة الحب وتقتل الحب نفسه أيضا.

(تشهير)
“تم التشهير بالكاتبة التي تخيلت جسدا محسوسا لزير نساء. وتداول مقاطع مما نشرت في وسائل التواصل المحلية. اتهمت بالتحرر والخروج عن الأعراف. حاولت أن ترد بأنه واقع. زادت هجمة الرفض واتسعت لتشمل المدينة الفاضلة كلها. فارتعبت من الذين يعبدون غرائزهم الحيوانية فيها.”
بقدر ما احتوته هذه القصة من معان واقعية جدا إلا أنها موجعة جدا أيضا وكأنها تصف حال الكثيرات في مجتمعاتنا العربية، المجتمعات التي تتشدق بالفضيلة ليل نهار ولكنها لا تجد غضاضة في نهش لحوم بعض نسائها لا لشيء إلا أنهن لا يرتدين أقنعة الزيف في التعبير عن أنفسهن وعن آرائهن دون مواربة. كنت أتمنى أن تظل الكاتبة في تلك القصة متشبشة بموقفها وأن تهزم هي بقوتها وإرادتها تلك الغرائز الحيوانية لا أن ترتعب منها. وللحق أقول إن رعب الكاتبة في القصة أرعبني على حال الكثيرات ممن ينهزمن أمام أول مواجهة حقيقية مع الجمود الفكري المتفشي في مجتمعاتنا، وكأن فكر المرأة الحر في حد ذاته جريمة يجب أن تحاسب عليها وأن تتنصل منه حتى لا تصبح متهمة في أخلاقها وشرفها. ربما لو كنت أنا مكان هذه الكاتبة لما بررت ما أكتب أو أقول وما همتني السهام التي تصوب نحوي من أدعياء الفضيلة، ربما لو بإمكاني تغيير نهاسية قصة ليست بقلمي لكنت غيرت هذه النهاية وجعلت الكاتبة تصمد أمام ذلك الهجوم الوحشي وترعبهم هي بدلا من ارتعابها منهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى