– لبستُ جلبابَ يونس بحري وما خلعته حتى هذا اليوم
– أنا بطبيعتي رجلٌ موسوعيٌّ مذ بدأتُ مسيرتي المُشبعة بحركة التجريب
– كنتُ وحدي عدداً وترياً ضمن صفوف الملايين بين شفعٍ ووترٍ
– قدّمتُ في تجربتي في الكتابة أبهى مصداقية للشعار الماراثوني (الأعلى والأسرع والأقوى)
حين هاتفته جاءني صوته أليفاً قريباً من القلب مع أنَّ بيننا فارقاً زمنياً يتجاوز عقدين من السنين، ومسافة نحو أربع مئة كيلو متر حيث يقيم في الموصل،وأقيم في بغداد.. اتفقتُ مع الباحث والمؤرخ والأديب معن عبد القادر آل زكريا على هذا الحوار الذي يجيء بعد أربع سنوات على كتابه(يونس بحري.. أسطورة لن تتكرر) ٢٠١٩،وبعد مسيرة حافلة بالعطاء في البحث والتأليف أصدر فيها عدة كتب له تكشف عن موسوعيته منها:(اقتصاديات المالية العامة) مترجم عن الإنكليزية ١٩٨٥جامعة الموصل، و(موصليات بين المقامات والمقالات)٢٠٠١،ومجموعته القصصية الأولى (التحليق بحثاً عن أجنحة)٢٠٠١،و (آلية صنع القرار السياسي والستراتيجي)٢٠٠١، و(مديات تأثير العولمة في تراتبية نظام القانون الدولي للاقتصاد)- رسالة ماجستير، و(تسوية المنازعات الدولية) ٢٠٠٨ و(معطيات الموازين الدولية بين الستاتيك والدايناميك)/ ٢٠٠٨، و(تاريخ لواء الموصل في وثائق الصحافة العراقية ١٩٢٠ ـ ١٩٥٠)، و(ليلة سقوط الموصل وما بعدها) ٢٠١٨، و(الموصل.. المركز الأطراف) ٢٠٢٠، و(أيام من عمري ـ سيرة محكية)٢٠٢٣
هو غني عن التعريف لكن إجمالاً:
ولد في الموصل سنة ١٩٤٣، وأكمل فيها دراسته الأولية، والتحق بالمعهد العالي في الموصل، وحصل على شهادة دبلوم عال في المحاسبة عام ١٩٦٥، ثم حصل على شهادة بكالوريوس اقتصاد من كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة الموصل عام ١٩٧٤، ولديهِ شهادة دبلوم في الدراسات العليا في التنمية الاقتصادية من جامعة ويلز في المملكة المتحدة عام ١٩٧٩، وهو حاصل على شهادة البكالوريوس في الحقوق عام ٢٠٠٢، وعلى شهادة الماجستير في القانون الدولي العام في عام ٢٠٠٥، وحصل على دبلوم في اللغة الإنكليزية من مدرسة لندن للدراسات اللغوية عام ١٩٧٥ بدرجة A level. وهو حائز على مرتبة الشرف من المعهد الأمريكي لدراسة الشخصيات العالمية الثقافية سنة ١٩٩٨ وتمّ تجديدُهُ عام ٢٠٠٨ بصفته واحداً من أبرز (٥٠٠) شخصية عالمية قدمت خدمات لبلادها في مجالات الثقافة والنشر والمعرفة على مدى ٣٥ عاماً.. وغيرها الكثير.
سيجد القارىء الشغوف بالمعرفة ما يدهشه، وسيخرج برغم طول الحوار بحصيلة وفيرة من الآراء الجديرة بالعناية.. معكم معن عبد القادر آل زكريا في هذا الحوار الشائق.
الانغماس في خطيئة الكتابة
* نبدأ من كتابك (يونس بحري – أسطورة لن تتكرر).. فما الذي أغراك لاختيار هذه الشخصية الإشكالية دون غيرها ؟!
ـ قد أكون متفقاً معك سيدي في طرح مثل هذا السؤال المهم، ونحن ما زلنا في بداية المشوار ناهيك عن أنَّ السؤال يمثلُ العمود الفقري لكل حيثيات الموضوع اللاحقة. وقد يكون جائزاً أن تسأل: ما الذي أغواك ..؟! كون الغواية في نظري أقوى من الإغراء، هي السقوط في فخ الأحابيل والإنحباس بين تلافيف أنصبة شباك الصيد.
نعم، إنَّه لمن الطبيعي أن يكون سبب اختياري لهذه الشخصية (الإشكالية) لم يأتِ من فراغ ! عليه فما بين خطوة البداية التي قادت إلى مرحلة تالية من الإعجاب ثمَّ العشق، ومن بعدُ الانغماس في خطيئة الكتابة، والتعلق بأذيال خبايا الشخصية وخفاياها حتى أيقنتُ أنَّ الدرب لا يبدو سالكاً بل هناك وُعورة تبدو معالمها في بدايات الطريق تنتظرني فَعَليّ واجبٌ صعبٌ ومُعقد فالحذر كل الحذر…
البداية على وفق الشروط الذاتية والموضوعية تُشير الى صيف حزيران سنة ١٩٥٤م، من هنا كانت الشرارة الأولى التي أوقدت وأشعلت ثمَّ أنارت الطريق.
أتذكر أنَّي كنت قد نجحت في الإمتحان الوزاري للدراسة المتوسطة(الثالث) ذهاباً الى الصف الرابع العلمي، وجائزة النجاح كانت سفري صوب مقام شقيقتي التي تكبرني بعقدٍ من السنين, وزوجها الضابط (الرئيس= النقيب) في الفرقة الثانية في كركوك لأقضي العطلة الصيفية في ضيافتهم، وكان هذا الأمر على بساطته يطربني ويسعدني كيما أنعم بالأجواء اللطيفة طرفهم مع تغير المناخ والأجواء، وقتل الرتابة والتمتع بالحرية.
وكان لوقوع سينما (النجوم) الصيفي مقابل مسكن شقيقتي من طرف مقهى أحمد آغا في مركز المدينة القديمة عنصراً مُسلّياً بإيقاعاته اليومية المسائية فيجعلنا نتفرج من سطح الدار على شاشة السينما ونقضي أوقاتاً حلوة في فرجة مجانية، وقد صادف عرض الفيلم العربي الرائع(أيامنا الحلوة) من تمثيل عمر الشريف وفاتن حمامة، وفيلم هندي من أجمل الأفلام هو(صباغ الأحذية)، وفيلم عن مصارعة الثيران (جيتانو) أخذ مكانه في الشهرة العالمية في الإنتاج وطوال مدة العرض.
وفي باب الملاحظة المهمة ذات العلاقة هي صفة لازمة من طبائع الصبيان ومن هم في مثل عمري مُتمثلاً في حب الفضول، وسليقة حب الاستطلاع على خفايا كل ما هو ممنوع أو جديد حوالي الشاب. كنت استثمر فترة نوم جميع مَنْ في البيت في فترة القيلولة الظهرية في (سرداب) يقع تحت إيوان وغرفتين ليتدفق تلهفي نحو مجموعة من الحقائب الجلدية والحديدية وهي من خاصية الضابط زوج شقيقتي فكنت أفتح أبعاضها خلسةً لأجد أوراقاً ورسائل قديمة، ومجلات عسكرية بشكل كتب من مثل المجلة العسكرية، ومجلة الكلية العسكرية الملكية، ومجلة الركن، وجميعها من إصدارات وزارة الدفاع.
ومع مزيد من التنقيب في بُطون الحقائب وقع نظري بالصدفة على كتيب(هنا برلين حيّ العرب) شدني اليه أمران : الأول أحصيت من سلسلة هذا الكتيب ستة أجزاء، وثانيه أبهرتني فنية كتابة العناوين على الصفحة الأمامية، وباللون الأحمر مع رسم الصليب الألماني المعقوف شعار النازية الهتلرية في فترة أربعينيات القرن العشرين الماضي رفقة صور أخرى لعسكريين ألمان بمختلف الرتب العالية كما اكتشفت أنَّ (يونس بحري) هو صاحب تلكم المؤلفات الست والصادرة عن دار العلم للملايين في بيروت سنة ١٩٥٦ لأجد نفسي في نشوة عارمة، وأنا أسبح في بحرٍ من مصادر القراءة هبطت عليّ من أعنة السماء، ناهيك عن توفر الأجواء الهادئة والصالحة للقراءة، وهنا في بيت شقيقتي لا أحد يعترضني على كيفية قضاء الوقت بل كنت مُدلّلاً.
وصرت أتمتع بطول أيام الصيف أعيد الغوص بين صفحات الكتب كلما سنحت لي الفرص، وما أكثرُها لتتحول هذه العادة بتكرار ساعات الإندغام إلى لازمة فصار التوقيت مُمنهجاً والقراءة متأنية.
وممّا يُجمّلُ حواشي القصة، ونحن نتجاذب أطراف الحديث أنَّ شيئاً مُضافاً يجب عليّ ذكرهُ أنني كنت قد استمعت في أكثر من مناسبة إلى والدي، وهو يقص علينا في البيت أحاديث عن شخصية البحري وتأريخه العجيب كما كان يصفه فقد لازمه البحري يوم كان شاباً ملتحقاً بدار المعلمين الإبتدائية سنة ١٩٢١، ومديرها المُرّبي ساطع الحصري، وقبل أن يشاكس يونس ويحرّض الطلبة على الإضراب، ويفصل من الدار،وكان والدي يومها يدير جريدة وطنية أسبوعية اسمها (نداء الأمة) مع رفيق درب حياته الباحث الموصلي، والمؤرخ عبد المنعم اللامي، وكان يونس ابن صالح أغا ابن خلف الجبوري في تمام نشوة صبوته يقوم بتوزيع أعداد الجريدة على المشتركين وعناوينهم لديه، ويقضي مبيته في بيت الخالين (والدي عبد القادر، وعبد المنعم)كما كان يناديهما، ويقع البيت في مركز بغداد القديمة – باب الأغا مقابل سوق الصفافير، وفي بداية دخلة الزقاق/ الدربونة والتي كانت تعّج بعوائل كثيرة من ملة اليهود البغاددة وبعض البيوت(الكزلي) كانت معلومةً لرواد تعاطي الهوى.
وفي خطوة تالية ولاحقة فاصلُها الزمني(٥٢ سنة) كانت قد انقضت من سني عمري ومخزونها الحدثي يُناطح كباش الجبال الراسيات أو يكاد، استيقظت ذات صباح من سنة ١٩٩٥ المتلفعة بجلابيب الموت والمُكتظة بأنين الحصار الإقتصادي الظالم الذي طال الشعب العراقي بأغلبية سكانه المسحوقين لأكتشف أن (شيخ الجان) وأعوانه من (التابعات) يدعونني إلى الكتابة وبشكل آمر وجازم، ووعدوني بأن يلقنوني مفاتيح (علم الجان والمجنونٍ) , وبُرجُهُ غائص في لجّة الزمن، تتأفعى بين مغاليقه المُؤقتة إبهاماتٍ وأصابع مسحورة تنبش في أجساد بنات مؤودات ذرتها في دعج الليل كثبانٌ بللورية.
صحوتُ مذعوراً من ثقل ضربات كوابيس النوم لأجد القلم والقرطاس يتقافزان أمامي بأحابيل الجديان، والثعالب، وتتناثر بين جوانب غرفة نومي كل أحبار مطابع الدنيا على الحيطان كما على مخازن شرايين قلبي وأوردته على وفق أشكالٍ سريالية.
جاءني صوتٌ من بعيد: أنت يا هذا هاهنا فاصمد، ولا تكن هناك .. البس الجلباب على نحو التمام والتحم مع الأنام كن شخصك أنت نفسك، تنفس الصُعداء وابدأ كيما يتبعك اللاحقون …
الوقوع في الفخ المهندس السعيد
أجبتُ الداعي: سأكون في قلب المشهد فاشهد، وسأبدا البداية فلكل نهاية بداية لازمة لكن ليس من شرط البدايات أن تكون لها نهايات. عقلتُ وتوكلتُ.. أجريت مكالمة هاتفية مع صديقي وابن أخي (المغفور له الذي فارقنا قبل أشهر) المهندس المعمار سعود ابن الوجيه الموصلي الرائع المغفور له حسن ابن الوجيه خير الدين العمري وحدثته عن الذي عزمتُ عليه (الكتابة عن يونس بحري) فجاءني الجواب بعد سُويعات أنَّ لقاءً سيتم ترتيبه في دارتهم العامرة في حي نركال قرب آثار مدينة نينوى القديمة. وفي الساعة الثامنة من يوم خريفي من شهر تشرين الأول سنة ١٩٩٥ وصلت إلى الدار فوجدت من كان قد سبقني في الحضور هو المغفور له الصحفي الموصلي الأصيل، وصاحب المكتبة الفخمة التي لا تضاهيها مكتبة (عبد الباسط يونس) صاحب جريدة الهدف ومطابع الهدف، وقبلها جريدة المثال الموصلية وكنت في ستينيات القرن الماضي قد كتبت قصصاً ومقالات في كلتا الجريدتين.
فعلمتُ بحدسي الناعم أنني قد وقعتُ في فخٍ مُرتب ومُهندس وسعيد لتفيض بنا أمواج الحديث والنقاشات الجادة والحوارات الرائعة حتى ساعات الفجر الأول… قمتُ لأغادر ورأسي يكاد ينصحن من الطنين… الذي ما يزال، وحتى هذا الوقت من أيام عمري الخاليات يشعرني بذبذبات إيقاعاته والدُوار لكنَّه من نوع آخر هو الوسواس ..هو الإبداع أولاً وآخراً. هي المُحاولة الأزلية للإمساك بالزمن.. ابتدأت منذ ذلكم اليوم الخريفي الجنيات تتلاعب في ميداني. في الحقيقة هي جنيات شخصية يونس بحري الأسطورة التي لن تتكرر!.. لبستُ جلبابه وما خلعته حتى هذا اليوم .
غربلة الشهادات
* ما مدى مصداقية ما ذكر الكتّاب عنه؟وما هي منهجيتكم في غربلة الشهادات؟
ـ دعني أبرمج لك تقويمي لشخصية المبحوث في سيرته السائح العراقي يونس بحري، ما له وما عليه.. ذلك في أصله، وفصله يتوازع عبر محورين: الأول: الشيء الكثير الذي دبجّه البحري بقلمه الذرب ويراعه العذب، ويتمثل بمجموعة من الكتب التي أصدرها في حياته وهي مُسطّرة على الصفحتين ٧٣- ٧٤ من كتابي الموسوم( السائح العراقي يونس بحري- أسطورة لن تتكرر )الصادر عن دار درابين الكتب للنشر – بيروت – بغداد ٢٠١٩ ) وكما يأتي:
– أسرار ٢ مايس ١٩٤١ أو الحرب العراقية الإنكليزية، بغداد، ١٩٦٨
– تأريخ السودان، القاهرة، ١٩٣٧
– تونس، بيروت، ١٩٥٥
– ثورة ١٤ رمضان المبارك، بيروت، ١٩٦٣
– الجامعة الإسلامية،باريس، ١٩٤٨
– الجزائر، بيروت ١٩٥٦
– الحرب مع إسرائيل وحلفائها، بيروت, ١٩٥٦
– دماء في المغرب العربي، بيروت، ١٩٥٥
– سبعة أشهر في سجون بغداد، بيروت، ١٩٦٠
– صوت الشباب في سبيل فلسطين الدامية والبلاد العربية المُضامة،الموصل، ١٩٣٣
العراق اليوم، بيروت، ١٩٣٦
– العرب في أفريقيا، بيروت، بدون تأريخ
– العرب في المهجر، بيروت، ١٩٦٤
– ليالي باريس، باريس ١٩٦٥
– ليبيا، بيروت،١٩٥٦
– محاكمة المهداوي، بيروت، ١٩٦١
– المغرب، بيروت، ١٩٥٦
– هذه جمهورية موريتانيا الإسلامية، بيروت، ١٩٦١
– هنا برلين حيّ العرب(ستة أجزاء)،بيروت، ١٩٥٦
– هنا بغداد، بغداد، ١٩٣٨
– وحدة أم اتحاد ؟!
– ثلاث سنوات تخلق أقداراً جديدة (سوريا- العراق- اليمن – الجزائر – الجمهورية العربية المتحدة)، بيروت، ١٩٦٣
الثاني: الكّم الهائل الذي كتبه الآخرون عنه والشهادات المُتناقلة شفاهاً ،وتلك المُسجلّة بصوته والمقابلات الصحافية التي أجريت معه، ذلك الكّم جميعُهُ أدى إلى انبثاق مدرسة جديدة في التدوين العربي على نحوٍ عام والعراقي على نحوٍ خاص.
ضاعت فيها الحقيقة المجردة بين مُحب ومُبغض بسبب ضخامة حجم الموروث.. ودخلت إلى الساحة أعداد ألفية ممن لا تتوفر فيهم حرص الصحافي الجاد ولا المُدوّن الحاذق ولا المُؤرخ المُحايد فترى الشطط يتطاير هنا هنا وهناك حتى بات المدقق الحصيف والمنصف اللطيف من النقاد والمُحكمين والكتاب والصحافيين قد وجدوا أنفسهم في بحرٍ متلاطم من الأحاديث المختلقة فضلاً عن الحكايا المنسوبة فاقدة الأصل والإسناد، ناهيك عن القصص المريبة التي تقف وراءها أجهزة إعلامية مافيوية دولية تتحرى الارتزاق وترجو الإستفادة الدولارية . ومن تلكم المُكدسات نشأ الزوغان وجرى التحريف حتى وقتنا الحالي,إذ وصل الإنحياز والتشرذم والكذب والمبالغة إلى جرف وسائل التواصل الإجتماعي واليوتيوبات فصرنا نسمع حكايا فيها تصوير مبالغ فيه وفيها إخراج فيه حداثة كما فيه تكنولوجيا متطورة، كما فيها إنتاج وإنفاقات باهظة، ثم تخرج بنتيجة مكوكية مُحصلتها وفحواها قيلٌ في قال وبهتان في سخمان وكذب وافتراء وقلب للموازين والحقائق …والكل يدعي وصلاً بليلى و ليلى لا تدعي وصلاً بأحد !
وهنا عليّ أن أقف لهنيهة وقفة رجل يخشى الله، ويأنف أن يلعنه التأريخ كي أقول : إنَّ هناك فجوة متسعة فلنسمِها حلقة شبه ضائعة تقع في سلسلة زناجيل حياة البحري قد اكتشفها بعضهم، أو اختلقوها هم أنفسهم ، وقاموا على تبنيها ونشرها في كل الاتجاهات، وهي إنشاء الخارق المضاف واختلاق الأعاجيب غير المتحصلة حقيقة فقاموا بلصقها على وفق طريقة فن (اللصق – الكولاج) ليخرجوا بنتائج قد تضاهي ما هو واقع أصلاً وأزيد غايتهم إفراح جماهير المولد وإبهارهم، واللعب على عواطف الرائين والسميعة والمندهشين والمأخوذين عبر كل وسائل الإعلام المرئي والمقروء والمسموع .. ليصنعوا البطل فوق الأسطورة الذي لا يقهر ولن يلحق بعجاجه أحد .. مُستندين في ذلك إلى القول الشعبي الرائج ( أن خاثر لبن البحري) يتحمل ماءً أجاجاً كيما نحصل على شنينة دائمة و دسمة ولذيذة..! فزيدوا المرقة… وهذا الذي حصل ! أما وظيفتي أنا الباحث فقد انصبت منذ البداية على استحداث منهجية خاصة مفصلة على قياسات بطل روايتي وفق أنموذج تراتبية التعاقب الزمني وفي عُمقٍ خاص، وأقدم أمامك أنا الباحث شهادتي اليوم، ومفادها أنني قد انحزت إلى معسكر الرجل البحري منذ البداية بصفته موضوع مشروعي الخاص، ودافعت عنه وعن سياقات دورية حياته دفاعاً مُستميتاً تجاه كل التخرّصات وتصديت لكل من حاول أن يغمز من قناته، أو يقلل من شأنه أو يدخله غصباً وظلماً داخل دوائر العمالة والتجسس أو ذاك الفريق الذي أسبغ عليه صفات البهلوانية والرخص والدونية كلما دق الكوز بالجرة !
فالرجل قبل كل شيء إنسان له مشاربه ولديه اهتماماته، ويمتلك عقيدة خاصة به أعلنها في أكثر المحافل الدُولية خطورة ومجازفة، فلم تسنح له الفرصة للهدوء ولا للسكينة ولا للاستقرار، ولم يقم على تشكيل عائلة في بلاد المهجر، ومن بعدها عندما وضعت الحرب أوزارها فصارت الهجرة هذه المرة إلى بلاد فرنسا المحررة وبيروت العرب ودول الخليج العربي ومشيخاته والسعودية وأمرائها ، فكان صديقاً للجميع وحبيباً للقاصي والداني ونديماً للملوك ومُجالساً للشيوخ والأمراء.
حتى عاد إلى عاصمة بلده العراق ليقع بين جنبي كماشة الانقلاب التموزي الساخن فيعتقل، ويقدم الى محكمة المهداوي فيطلق سراحه من بعد سجنٍ جاوز الأشهر السبعة لينشر كتابه الأشهر ( سبعة أشهر في سجون بغداد) حكى فيه عن العسكر، وعن الوضع الإقتصادي والمعاشي والإجتماعي والسياسي في عراق ١٩٥٨ – ١٩٦٠ .
وفي جانبٍ آخر أقول: إنَّ ما وجدتُه في حياة البحري البواكر وما تلاها من أحداث جسام ووقائع جلل تشيب لها الغلمان وعلى مدى نصف قرنٍ من الزمان، ومن كثرتها وتعدد مصادرها وتشابك تعرجاتها ودوران مكوكاتها المغزلية، أقول: كدتُ في بعض الانعطافات الحرجة يرتبك عندي المنهج ويحدث اختلالاً في موازين عدولي الكتابية والبحثية الإستقصائية على حدٍ سواء.
كدت لبعض الوقت أحس أني سأنجرف غصباً ضمن تيارات تدوين غير منصفة، لكن أجراس الخطر الدقاقة، وظهور بوادر خطوط التشوه والانحراف الحُمر في مديات ملامح الأفق أعادتني الى درب الصحاح والحمد لله ..
والأكثر صدقاً واعترافاً في شرعتي، وأنا منهمك في بدء المسيرة أحمل مصباح ديوجين أتعشم صفاء مرآة هذا المشروع وأنفث خلجات روحي البحثية، قررت أن أبتعد عن تبني المنهج الأكاديمي البحت في معالجة قراءة حياة البحري الشخصية كوني لو فعلتُ لكلفني ذلك العظيم من الجهد، ولأدخلني الأمر في متاهات منعطفات صعبة قد تبخ في المشروع شللاً، وتعطل أواصر الحياة في سلالتها الخضراء وتهلك أنساغ التواصل الصاعدة، والهابطة في سيقان قرنفل المشروع وتؤدي به إلى نهاية غير سعيدة.
فاكتفيتُ من القليل أكثرُهُ ومن الكثير أقلُهُ لأرسم(التعادلية) لوحة صافية في الفن التشكيلي الذي أجيد السباحة في شطه،
وأجعله ديدن اهتمامي، ومساقات عمود توازني في التقصّي والبحث والكتابة مع علمي الوكيد أنَّ ملامح عُقد الشطط في تتبع آثار البحري لابدَّ وأن تتلامس فيها بعض مذاقات عذوبة الصعاب، ولها طعم الخوارق يتزابق ما بين ثناياها الحلو والحامض والمرّ.
ومن بعد تحقيق الانتصار، ونحن عند خط النهاية، علينا واجب الاعتراف أنَّ البحري المبحوث في سيرته كان يتمتع بكاريزما من نوع خاص جداً، ويمتلك شخصية إشكالية من الطراز الأول، صعبة واقتحامية وشجاعة ورائدة… لكنها في الوقت عينه.. مُدمرّة وهالكة… هي شخصية الصفر القيمية الجبرية الواقعة بين واحدين صحيحين، قريبة من المركز ولها أفلاك ونواة وأطراف. إلا أنَّ احتمال الاحتراق لقربها من المركز وكون برجها نارياً واردٌ بنسبٍ كبيرة .
شخصية إشكالية ونادرة
*هل يمكن عدّ شخصية يونس بحري موجودة في كل زمان ومكان مع اختلاف الظروف..؟ أو أنَّه من الصعب تكرار من مثل هذه الشخصية؟
ـ تعلمنا في دراستنا لعلم الإقتصاد في بريطانيا في أواخر سبعينيات القرن الماضي أنَّ (الندرة scarcity) هي سبب مهم لارتفاع أثمان بعض الحاجات الإقتصادية.. وهي مشكلة اقتصادية تتمثل في امتلاك البشر لرغبات وحاجات غير محدودة في عالم محدودة موارده ومحسوبة خيراته، ويكون الطلب الدائم على تلكم السلع في الأسواق قائماً مقابل(أي سعر) بل هي حالة نسبية وليست مطلقة.
وفي محاولة لتطبيق معنى الندرة(المعنى القاموسي) على مثال الشخصية الإشكالية (يونس بحري) محل حديثنا نجزم القول مرة أخرى بأنَّها شخصية إشكالية ونادرة. وفي حسابات إحصائية استقصائية مدخلها الأبهري (الموديل الرقمي) الذي بين أيدينا، فيقول بشأنه أساطين علماء الفلك وسحّارالنجوم قولاً نهائياً لا يقبل التأويل ولا التحوير إنَّ هذه الشخصية لا يمكن أن تتكرر في عوالمنا الحقيقية اللهم إلا في العالم (الافتراضي), كون المعادلة (الرمزية الدالية والرقمية) اللتين تدخلان في تراكيب غلاف الـ(دي إن أي) قد تنجم عنهما معادلة مركبة ومعقدة يختزلها المصطلح (سوناي) باللغة الإنكليزية. وقد يضاف متغير آخر مجهول إلى أطراف المعادلة يحاكي أعداد ذرات حزمة شمسية واحدة ذائبة في تربة الأرض لمدة واحد (زمن) على مليون (سرعة) سنة ضوئية تدور أيضاً حول محور فرعي من أفلاك البحري, فكل فلك له اسم وكل اسم له معدن بمغناطيسية عالية، والمعادن ثلاثة لا غير (هوائي وترابي وناري).
حكاية ساحرة وناعمة
التقيت في حلب سنة ٢٠١٨ بشخص لبناني الأصل، برازيلي الجنسية وينحدرمن الجيل الثالث من أسرة نزحت بأعداد أفرادها الخمسة الى (ريودي جانيرو) سنة ١٩١٠ وقبل اندلاع أوار نيران الحرب العالمية الأولى. ومن روابط الحكاية في أصلها أنَّ هناك أسرة موصلية كانت قد نزحت الى حلب سنة ٢٠٠٥ بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وابتداء تغلغل مجاميع التطرف الديني بين صفوف طبقات المجتمع السني في العراق.
فقرر رأس الأسرة قراراً نهائياً بالهجرة الى حلب والسكن فيها فابتاع داراً فسيحة في حي جميل من أحياء حلب وحصلت القسمة، وتزوج ابن الأسرة الموصلية البكر بفتاة من عائلة سورية حلبية، وهم من خيار تجار حلب الكبار.
وفي يوم من ايام سنة ٢٠١٧ أقامت الأسرة الحلبية الثرية حفلة عشاء بمناسبة زيارة الاقتصادي لبناني الأصل وبرازيلي الجنسية (من عائلة الغريزية ذات المذهب الدرزي) لمدينة حلب فهو أيضاً قد صاهر أسرة حلبية لها علاقة بالأسرة الحلبية مُصاهرة الأسرة الموصلية… وفي أثناء اللقاء وتكرره في أكثر من وليمة حكى الاقتصادي اللبناني دكتور (ألف. عين. أغريزي) لمُجالسيه من الجنسيات السورية واللبنانية حكى لهم القصة الآتية بكل تفاصيلها الناعمة والساحرة والمُفاجئة.
قال أغريزي:كنت مدعواً لحضور جلسات المؤتمر الاقتصادي العالمي السنوي في دافوس في شمال غرب الولايات المتحدة سنة ٢٠١٥ وعلى مدى أسبوع كامل. وفي إحدى الاستراحات الطويلة في منتصف أسبوع أعمال المؤتمر تعرفت برجلٍ أسباني من أصل مغربي ويتحدث العربية بطريقة مرضية قيل عنه أنَّه من أكبر رجال التنجيم وقراءة الأبراج في العصر الراهن، وفي قدرته الخارقة على تحليل اسم أي شخص بطريقة تفكيكية خاصة به وحده مع تمكنه من تنقيط بعض مواصفات الأسرار شديدة الخصوصية بالشخص المراد قراءة طالعه.. وقد لاقى نجمه شهرة واسعة من كثرة النجاحات التي حققها على وفق ما ذكرته الصحافة ودبجته وسائل الإعلام …
وقد تم تداول اسمه بين أوساط المدعوين في المؤتمر كما كان مثار فضول الكثير من القنوات الفضائية العالمية التي اهتمت به اهتماماً استثنائياً كذلك صار ضيفاً على كثير من مراسلي كبريات الصحف العالمية، وهم يتواجدون بغزارة بين أوساط الحضور. وقد دار الحديث مدارات شتى .. ولأنَّ من الصفات القوية والمميزة للنجم الفلكي الأسباني في تحليله العميق والناجح لعدد من أسماء المشاهير فقد صادف أن تواجد في الحارة التي أنا فيها شخص لم نتعرف على هويته في البدء وكان طوال وقت الحديث منصتاً ممتازاً ومنبهراً …ولم ينبس ببنت شفة . إلاّ أنَّ ملاحظة من عين أحد الجالسين قبالتي جلبت انتباهي بانشغال الرجل
(الألماني) في مكالمة معمقة ومهمة…وبعد أن ساد نوع من الهدوء لهنيهات رفع الرجل الألماني يده يطلب الحديث وبطريقة ملحة، ثمَّ اندلق في الكلام فرحاً وممثلاً بصوت عالٍ قائلاً، وبلغة المانية: سادتي الحضور لقد انتهيت تواً من مكالمة أصدقاء لبنانيين في بيروت تعرفت عليهم أثناء عملي في شركة (كات اللبنانية للمقاولات) وكانوا طوال سنوات شبابهم يعملون في مجلة الصياد اللبنانية(سياسية أدبية وفنية) ذات الشهرة الواسعة لصاحبها سعيد فريحة أحد أصدقاء البحري المقربين… وبصفتي أحد أفراد الأمة الألمانية الحية، فقد حكى لنا آباؤنا عن شخصية عراقية من أهل الموصل يدعى(يونس باري) هكذا يلفظ الاسم(بحري) على وفق اللهجة اللاتينية. وقد لعب المذكور أدواراً عالمية طوال فترة الحرب العالمية الثانية، وكان مقرباً من الفوهرر هتلر ثمَّ هو أفضل من خدم الأمة الالمانية والنظام الهتلري خدمة متناهية المقاصد حتى أنه عرّض حياته لكثير من المخاطر. وبعد انتهاء عمليات القتال وتوقفها على الساحة الأوروبية باندحار النازية، وفوز الحلفاء والروس، تمكن البحري من النفاذ بجلده، وغادر إلى فرنسا سنة ١٩٤٥، وقام بتأسيس جريدة العرب باللغة العربية، وهي أول جريدة عربية تصدر في باريس بعد الحرب، وفي مكالمتي مع أصدقائي اللبنانيين فقد قاموا بتزويدي بكثير من المعلومات المضافة عن السائح العراقي يونس بحري، وهنا عليّ أن أطلب من المنجم الفلكي إخبارنا جميعاً عن شخصية الموما إليه .
وبعد أنَّ قرأ ما مسجل في ورقة بيده، أجاب الفلكي: إعطوني ثلاث دقائق كي أصوغ المعادلة الخاصة بالبحري…ثمَّ أضاف مخاطباً: تعالوا دققوا في هذه المعادلة الرقمية والحرفية البسيطة وسترون إلى أين يقودنا الاستنتاج، وبشيء يسير خالٍ من التفاصيل المعقدة التي لو سرنا بين جنبات مداليلها ومُحاكاتها للنجوم لأمتد بنا الوقت حتى منتصف الليل.
يونس = ٤ أحرف
صالح = ٤ أحرف
سائح = ٤ أحرف
بحري = ٤ أحرف
عراقي = ٥ أحرف
لقد ترتبت لدينا مصفوفة لها علاقة وثقى بالأفلاك، وطوالعها وعلم الأرقام ومقلوباته. ولو حولنا المتساويات والمتخالفات في المعادلة إلى رسم تخطيطي. ووضعنا الاسم (عراقي) في المقدمة مع سهم مثل ما يرتصف قائد أسراب الطيور في السماء مع أفراد قبيلته ووضعنا (يونس) وراءه مع سهم ومن تحته (صالح) مع سهم. ولو وضعنا (سائح)مع سهم و(بحري) مع سهم دون موضع القائد وبارتصاف متواز. والآن علينا أن نقوم بجمع أربع مرات للأربعة ونضيف إليها العدد ٥ فسنحصل على العدد (٢١) وهذا الرقم من النوع الناري الذي (يحرق ويحترق). أما الأعداد الأربعة المتتاليات فكل عدد أربعة يمثل أربع ذرات تراب .
وأضاف الفلكي قائلاً : في تحليل لشخصية البحري (الأثيرية) يتبين لنا أنَّ نجمه قادم من فلك قريب من مركز النواة(المركز) ويبدو أنه قد ضجر من كثرة انتظار اللا منتظر فانفلق في دوران مغزلي حتى صار في عداد الأفلاك الأيونية البعيدة عن مركز النواة، ومن كثرة دورانه العبثي دخل في مرحلة الغليان والاحتراق ليذوب في مرحلة تالية في الفضاء الكوني اللازوردي، ومن بعد سينزل على الأرض بشكل أمطار حامضية … وهذه الرحلة امتدت قرابة نصف قرن من السنين..
بين الأنا والأناي
نعم، وكما قلت في جوابي على سؤالين سابقين.. أنني وعلى وفق التسلسل العقلاني المحكوم بعنصري الزمان والمكان (الزمكان) وبعديهما الثالث (المتحرك)، وأنا كنتُ في أول شبوبتي وصباي، مذ سمعتُ عن البحري، ومن ثمَّ قرأت للبحري، وبعدها بفراسخ قرأت عنه حتى دخلتُ في جلبابه، وتصومعتُ في صوفية(لاهوته) لأصل الى درجة الاتقاد ثمَّ الالتحام كي تتلبسني تابعة الكتابة ورحلة التدوين (الصعبتين والشاقتين) فأنجزتُ كتابي ذي الجزأين فأكون بذلك أول من دوّن سيرة حياة الرجل الأسطورة في وثيقة مخطوطة ومصورة ومسموعة فرصفته بين(الأنا والأناي) ليكون هو هو نفسُهُ يوم فاضت روحُهُ الى باريها جراء ضربة سكير مشرّد فغاب عن الوعي و إلى الأبد في أيلول من سنة ١٩٧٩ وهذه نهاية في غاية التراجيديا البشرية…
كنت أتمنى أن أكتب على قبر البحري هذين السطرين: (لكل حدثٍ ظل، ولكل ظلٍ حدث، فالحدث يقع بين ظلين، والظل يقع بين حدثين، ولكل أجل كتاب).
*من ضمن الآراء التي وردت في كتابكم عن يونس بحري أنه كان له دورٌ رئيس في إذاعة برلين، وفي جذب العرب نحو ألمانيا، واستعداء الإنكليز في الوقت عينه… فهل يمكن لشخص واحد أن يُحدث مثل هذا التغيير الكبير كقوة ناعمة ..؟!
ـ نعم، يمكن ويمكن ففي قراءة مُعمّقة لمحطات رئيسة للأحداث السياسية في العراق التي وقعت في ثلاثينيات القرن الماضي دعنا نقرأ بإيجاز ماذا وقع وكيف وقع سنجد :
توقيع معاهدة صداقة وتعاون بين المملكة المتحدة وإدارة الإنتداب البريطاني في العراق في الثلاثين من حزيران سنة ١٩٣٠ وسميت بالمعاهدة الأنكلوعراقية بالنظر لازدياد أهمية العراق من وجهة نظر المصالح البريطانية من بعد اكتشاف النفط سنة ١٩٢٧. وقد نصت في أهم بنودها على منح البريطانيين مساحات واسعة من الحقوق التجارية والعسكرية داخل البلاد من دون أي مقابل يحصل عليه العراق عدا وعود بتسليح الجيش وتقديم دورات تدريبية للضباط وكوادر الوزارات المهمة مع إرساليات علمية وبعثات دراسية.
وقد أعلنت بنود المعاهدة على الرأي العام العراقي والبريطاني في ١٨ تموز سنة ١٩٣٠ وكان عرّابها يوم ذاك السياسي نوري باشا السعيد رئيس الوزراء من بعد ما اعتذر عن الخوض في غمارها أو تحمل مسؤولية عقدها سياسيون آخرون كُثُر وقبلها الباشا وعلى مسؤوليته وحده وبكل آثامها وخطاياها على رأي قوى المُعارضة، وحجته في ذلك كعقيدة، وحتى اليوم الأخير من حياته أنَّ بريطانيا قوة عظمى مسيطرة على مقدرات الشعوب والأمم، ولولا سعيها الجاد، والحريص أثناء المؤتمرات التي انبثقت عنها معاهدة سايكس بيكو، ومعاهدة سان ريمو ما بعد الحرب العالمية الأولى مع حلفائها الآخرين، ووعودها للشريف الحسين بن علي بمنح العرب حق تقرير المصير، وتأسيس الدولة العربية الموحدة لما ظهرت دولة العراق إلى حيز الوجود . لقد كان يومذاك لنوري السعيد القدح المُعلى عند القصر الملكي، ولدى جلالة الملك فيصل الأول على نحوٍ خاص . كما كان جميع أركان الحكم في العراق مضغوطين لأجل عقد من مثل تلكم المعاهدة وفي ذلك الوقت، في الوقت الذي عارضتها القوى الوطنية معارضة شديدة. إلا أنَّ انعقادها غدا أمراً واقعاً في الوقت الذي كان فيه الملك فيصل شديد الإحراج ما بين مطالب للجماهير، ومطالب البريطانيين، ودائرة المندوب السامي البريطاني، ولكل طرف من الأطراف مآربه الخاصة القريبة والبعيدة، وسنرى كيف كان ذلك التأريخ من الأيام الصعبة والمفصلية في تداعيات أحداث لاحقة وغير سعيدة في تأريخ حكم العراق .
في ٣ تشرين الأول سنة ١٩٣٢ دخل العراق المنظمة العالمية لعصبة الأمم،وأصبح عضواً دائماً،وبذلك فقد حقق الفوز بالسبق الأول على البلدان العربية قاطبة في ذلك الانتماء (دولة كاملة الاستقلال الناجز)، ولها جميع الحقوق في المجتمع الدولي، وتولي السيادة على أرجاء البلاد ولها قراراتها ومسؤولياتها تجاه الدُول الأخرى ليلة ٧ / ٨ ايلول سنة ١٩٣٢ .
وبينما كان الملك فيصل الأول يتلقى العلاج في بيرن – سويسرا من مرض تصلب الشرايين الحاد والمزمن وتنصيب الأمير غازي ملكاً على البلاد نائباً عن والده وقعت حادثة إبادة الآشوريين(دقة التيارية) في سميل شمال دهوك على يد الجنرال بكر صدقي دون علم الملك إلا أنَّه ساعة علم بالأخبار غير السارة ترك علاجه، وعاد مُسرعاً إلى أرض الوطن يحاول أن يداوي جروحاً متقيحة كشفت وجهاً آخر للعراق أمام العالم كون القضية قد لاقت في وقتها استنكاراً دولياً شديداً، ومن لندن وعصبة الأمم على نحوٍ خاص. ومن بعد أن هدأت الأمور قليلاً عاد الملك ثانية الى سويسرا مُضطراً إلى استكمال العلاج ليعلن عن وفاته المفاجئة يوم ٨ أيلول سنة ١٩٣٣ وتولي الأمير غازي مقاليد الحكم مليكاً على البلاد.
في ٢٩ تشرين الأول سنة ١٩٣٦ وقع انقلاب بكر صدقي العسكري ومجيء حكومة يسارية الميول،وبمباركة من لدن الملك غازي كما تواترت بشأنه الأخبار، ومقتل الفريق جعفر العسكري (أبي الجيش العراقي) بحادثة غادرة و لئيمة، وتشتت السياسيين في المنافي، كل من نوري السعيد وياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني.
في يوم ٩ آب سنة ١٩٣٧ تم اغتيال بكر صدقي،وبرفقته قائد القوة الجوية محمد علي جواد في مطار الموصل، قام بتنفيذها ضباط قوميون عرب ثأراً من قادة الإنقلاب المتهمين بالإنفصالية والفاشستية على حسب زعمهم. إلا أنَّ مكوث بكر صدقي في السلطة قرابة عشرة أشهر لم يثبت للرأي العام العراقي أياً من التهم التي ألصقت به.
في ذلكم الوضع المُضطرب في جريان الأمور وتداعيات تسلسلات الأحداث والوقائع، فقد انقسم الوضع الاجتماعي والسياسي العراقي بين تيارين اثنين :أولهما تتزعمه كتلة نوري السعيد والقصر الملكي ومباركة السفارة البريطانية، والثاني تقوده أحزاب المُعارضة، وبعض ضباط الجيش وكتلة الأحزاب الديمقراطية والشيوعيين ويعاضده القائم بأعمال المفوضية الألمانية في بغداد(الدكتور فريتز غروبا). لقد كان مقر المفوضية الألمانية في بغداد في ذلك التأريخ خلية نحل تعمل ليل نهار في نشر الدعايات المُضادة للسياسة البريطانية والعمل بكل الجهد العلني والسري لتثوير قطاعات سياسية وصحافية وشعبية واستمالتها في الاتجاه المضاد لمشاريع الإنكليز، واستعداء قطاعات شعبية من الرعاع في اتجاه السخط والمعارضة والتسقيط. مع العلم أنَّ الوضع السياسي الدُولي كان بدوره سائراً في اتجاه التوتر والترقب وهو لم يفق بعد من آثار جروح الحرب العالمية الأولى بحيث غدت العاصمة التركية أنقرة مركزاً مهماً من مراكز تجمعات المخابرات الأميركية والبريطانية والروسية والألمانية في وضع دُولي شديد الحساسية والإستقطاب ، وهو يقف على فوهة بركان ينتظر حدثاً مفاجئاً .
وبقدر تعلق الأمر بالصحفي والإعلامي والناشط السياسي السائح العراقي يونس بحري فنجده قد استنفد كل ما في جعبته لأجل الالتحاق بالفصيل الثاني مُذ وظف كل طاقات جريدته (العُقاب) الصادرة في بغداد سنة ١٩٣٢ في إظهار صداقته وتعاونه مع القائم بالأعمال الألماني (الدكتور فريتزغروبا) فصارت معروفة للقاصي والداني بحيث كانت السفارة البريطانية المراقبة بحذر لجريان الأحداث حاقدة على يونس بحري وكل القطاعات المؤيدة لسياسة الألمان ودعاياتهم لتأتي القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون صباح يوم الرابع من نيسان سنة ١٩٣٩ عندما أعلن القصر الملكي خبر وفاة الملك غازي الأول بحادث اصطدام سيارته في منتصف الليلة المنصرمة بعمود الكهرباء وقصته الأشهر، وتم إعلان الحداد وتنكيس الأعلام، ليهدر الشارعان البغدادي والموصلي بسيول جارفة من الشعب الحزين والساخط على نوري السعيد ،والأمير عبد الإله، والسفارة البريطانية فتأتي الأخبار من الموصل معلنة مقتل القنصل البريطاني فيها على يد الجماهير الغاضبة على الإنكليز بتهمة اغتيال الملك الشاب غازي الأول وصار إلى تنصيب الأمير عبد الإله وصياً على عرش العراق بالإنابة عن ابن أخته الطفل فيصل الثاني فتأزمت الأمور في العراق إلى درجة كبيرة من الغليان في انتظار المجهول … في إنفجار متوقع في أية ساعة.
ضمن هذا الخضم المتلاطم من سرعان دوران الأحداث السيئة وغير السارة كان القائم بالأعمال الألماني (الدكتور غروبا) يخطط على وفق السرعة الخارقة لتهريب يونس بحري المتهم بتحريض متظاهري الموصل على قتل القنصل البريطاني فيها وتم نقله إلى الموصل بطائرة خاصة لنقل البريد ومنها إلى أنقرة، ومن هناك نشطت دوائر مخابراتية وجاسوسية لتنقل البحري سراً إلى ألمانيا فوصل برلين خلال ثلاثة أيام وفي اليوم السابع أعلن عن تشكيل إذاعة (هنا برلين حي العرب) ومقرها في أحد الأجنحة القريبة من قصر الرايخ الثالث مقر إقامة (الفوهرر الألماني أدولف هتلر).
من طرف آخر، وفي تلك الفترة عينها كان قد وصل إلى برلين الحاج أمين الحسيني مفتي الديار الفلسطينية، وحدوث انقلاب رشيد عالي الكيلاني في الثاني من شهر مايس سنة ١٩٤١ وبعد أن فشل انقلاب الفتنة المشؤوم، وهرب كثير من المُشاركين فيه إلى إيران وقليل منهم وصل إلى برلين، فتم إلقاء القبض على الباقين من الضباط ومحاكمتهم وإعدامهم، كان الكيلاني قد وصل بدوره إلى برلين بعد رحلة مهلكة فصارت برلين قبلة تجمعات الشخصيات المُناوئة لبريطانيا والمؤيدة للمحور الألماني لتبدأ عمليات البث الإعلامي تصدح من برلين فيصفق لها كل المسلمين العرب في أرجاء الوطن العربي.
مع هبوب رياح وقائع الحرب العالمية الثانية الحامي وطيسها، كل ذلك جعل برلين مقر وكر النسر الألماني الجارح محطة مهمة وخطيرة من محطات الاستقطاب الدُولي المناهضة للحلفاء باعتبارهم أعوان القضية العربية والداعين لإستقلال البلدان العربية على نحوٍ عام والقضية الفلسطينية على نحوٍ خاص ومُخلصّي العرب من كيد الاستعمار البريطاني المُسند من الصهيونية العالمية.
كان البحري مذيعاً ألمعياً وصوتاً جهورياً وطاقة كامنة، وأعجوبة متحركة وظاهرة نادرة في فن الإلقاء ومخاطبة الجماهير العربية والإسلامية على مستوى أثير عواطفها وميولها حتى أنه اقترح أن تفتتح الإذاعة الألمانية برامجها وقبل فترة البث الصباحي بتلاوة معطرة من آي الذكر الحكيم بأصوات قرّاء مصريين الأمر الذي شنف آذان طبقات واسعة من أبناء الشعب العربي للالتفاف حول تلك الإذاعة ومُقدم برامجها وخطيبها المُفوّه يونس بحري، والحصول على تأييد، وإسناد تلكم الجماهير للسياسة الألمانية تجاه العرب والقضية الفلسطينية وشمال أفريقيا.
نهاية تراجيدية
*بحسب بحثكم فإنَّ نهاية يونس بحري كانت تراجيدية كما كانت حياته حافلة بمغامرات فهل ترجح فرضية اغتياله أم أنَّ القضية جنائية بحتة ؟
ـ في عصر يوم من أيام شهر أيلول سنة ١٩٧٩ لاقى يونس بحري حتفه إثر شجار جرى بينه وبين سكير مشرّد من مدمني الكحول كان يلح على البحري وبإفراط أن يمنحه مالاً فكان البحري في بداية الأمر يتعاطف معه ويداري عوز ذلك السكير ولأشهر مضت. لكن الوضع في يوم الحادثة لم يكن كذلك فقد تصدى البحري للسكير بعنف وقسوة على غير عادته وطرده من أمام البار الذي كان البحري يجلس أمامه طوال أشهرٍ خمسة وقبل هذا التأريخ وبشهادة عمال ذلك البار(بار سرسنك) الواقع قبالة تمثال عبد المحسن السعدون في شارع السعدون وموقعه على ركن مع شارع ابي نؤاس الذين التقيتهم، وحكوا لي القصة من أولها إلى خاتمتها.
لقد بدأت ذخيرة يونس بحري من النقود تنضب تدريجياً منذ أن استلم راتباً شهرياً تقاعدياً من وزارة الإعلام قدره(١٠٤ دنانير) محسوباً بأثرٍ رجعي لمدة خمس سنوات فيكون مجموع المتراكم النقدي قرابة الستة آلاف دينار عراقي. وقد اطلعتُ على نسخة من الأمر الوزاري بنفسي ضمن أوراق السيد سعد الدين فاضل الموصلي الذي يعمل وكيلاً للإخراج الكمركي والساكن معه في الدار(النزل)، وتشاركهم السكن مجموعة من العوائل من أهل تلكيف، ويقع النزل بالقرب من نفق ساحة التحرير ودربونة طولانية تقع خلف جامع الأورفة لي في بغداد.
وجرّاء الملاسنة بين الطرفين قام السكير بركله بقدمه ركلة قوية على وجهه وهو جالس فارتد رأس البحري نحو الخلف بقوة وعنف بالجدار الذي خلفه فأصيب بفجٍ عميق في مؤخرة الرأس فسقط مغشياً عليه فاقد الوعي وهو في حالة ثمالة لا يعي من أمره شيئاً… ثمَّ تدخل المارة وطلبوا على عجل سيارة إسعاف نقلته إلى مستشفى الراهبات في كرادة مريم ليبقى في قاويشها حتى منتصف الليل ثم فارق الحياة . وأنا الباحث بدوري قد راجعت مستشفى الراهبات في أحد أيام صيف سنة ١٩٩٦ وحكيت للمسؤولين فيها عن مأربي في التفتيش عن ( طبلة المصاب البحري) فلم أعثر عليها .وقد أعلمني الشهود من عمال بار سرسنك أن ثلة من أمانة العاصمة(بغداد) قامت بنقله ودفنه في مقبرة الغزالي – جناح السبيل.
وفي مكالمة هاتفية على(الواتس آب) مع نجل البحري الفنان المسرحي سعدي يونس المقيم في باريس في الأول من شهر مايس من هذه السنة ٢٠٢٣ أعلمني أنه قام بترميم قبر والده وتجديد هيأته في واحدة من رحلاته التي قام بها الى بغداد بعد سقوط النظام في ٢٠٠٣
عليه فأنا لا أرجح فرضية الاغتيال لسببين : الأول أن الرجل البحري كان يوم فارق الحياة يبلغ من العمر عتيا، و الترجيح الثاني أن لا أحد من خصوم البحري أو من أنصاره أومجايليه قد بقي في قيد الحياة فجاء يطلب ثارا أو شيئاً من هذا القبيل.
السيرة الذاتية والسيرة الغيرية
*بودي معرفة نوعية الصُعوبات التي يُواجهُها كاتب السيرة الشخصية (الغيرية) مُقارنة بكاتب السيرة(الذاتية)؟
ـ لقد سألتني يا سيدي سؤالاً ينطبق على حالتي أيما إنطباق. فأنا الباحث المُتحدث قد كتبتُ سيرة غيري (البعيد) وكتبت عن(غيري) والديّ القريبين، ثمَّ جئتُ أكتبُ عن نفسي في سيرتي الذاتية(أيام من عمري- سيرة محكية) في جزأين – ٩٥٠ صفحة من الحجم الكبير، وفي كل الأحوال فقد يتطلبُ الأمر من الكاتب الباحث(كاتب السيرة) أن يكون مثل طائر نقّار الخشب وحفار نفط جيولوجي ومايكروسكوب في البيولوجي، ومُطلع على علم الوراثة، وخبير في علم النفس، ومنقب آثار من الطراز الأول، ثمَّ فوق كل هذا وذاك على الكاتب السيري، أو الروائي حتى أن يكون بدوياً صحراوياً يهتدي بحركة الأفلاك والنجوم وماهراً في تتبع الأثر، وساحراً في كشف اتجاهات القوافل في المسير من دون بوصلة ولا حُك.
فضلاً عن وجوب تمتع الكاتب بخصيصة الملحاح الوسواس الباحث في كل شيء والمتسائل عن كل شيء، ومن ضرورة الضرورات على الباحث أن يمتلك (بذرة) الصنعة و(نعمة) التولع، وعدم طلب الاستراحة بل المضي إلى أمام… عندها سيجد القرار في قعر صفاء نفسه .. والتفاخم في روع صنعته. وفي ما عدا ذلك فالكتابة الإعتيادية مُيسرّة كالعشب في البراري، كما الألفباء عند الملالي،وعليك أن تختار …
كنتُ كلما أدركني التعب أتمثلُ بقول الشاعر: لابدّ من صنعا وإن طال السفر …
هناك التماعة أخرى كثيراً ما تماثلت أمامي، وأنا أكتبُ في السيرتين. فعندما أكتبُ عن نفسي وعن أسرتي وأهلي، فأنا أنقب في تربة آثار (الداخل) بكل مساحاتها ومظنوناتها، وحين أكتب عن (الغير) فأنا أنقب في تربة آثار(الخارج). ولكل من السيرتين مداخلها الخفية، ولكل من الصنعتين أبوابها وأنفاقها ومفاتيحها ومغاليقها..
الكتابة الإبداعية صنعة خلصاء المُلوك والأباطرة لا يجيدها سوى الألمعين الذين أنعم الله عليهم بالموهبة والسليقة والتمكن من الإمساك بخيوط اللعبة، والاقتدار على تنفيذ العملية الجراحية من غير ألم، وإبهار القراء والمستمعين على وفق طريقة السحرة و البررة والحُواة.
سمات الشخصية الموصلية
*ما هو تأثير مدينة الموصل على شخصيتك..؟ وهل ترى أنَّ هناك سمات معينة للشخصية الموصلية..؟!
ـ في ملاحظة نابهة أقول لحضرتك، لو فتشنا في كل مدن العراق الكبيرة والتي هي مراكز المحافظات(المتصرفيات) لوجدنا أن لا اختلاف هناك في اللهجة(اللغة اليومية المحكية) ما بين(المركز- الحضر) و(الأطراف- الريف) في غوالب المُقارنة. وهذا الرصد في نظري له الأرجحية الأولى على ما عداه في فحص خصوصية التفاضل والتكامل التي سنحكي عنها عدا مدينتين اثنتين هما كل من بغداد عاصمة العراق والموصل عاصمة الشمال. فترى البون الشاسع ما بين السكان في البطاحين(الحضر والريف). من هذه النقطة وعلى نحوٍ دقيق تولدت الخصوصية من رحم الشك ليصير لزاماً علينا أن نتوقف عند كل محطة من محطات سير الحياة مع الإفراد الخاص كما عند الجمع العام نتحاور ونتحاسب في مَنْ أوجد من ..؟! فضلاً عن قدرة التحضر على الغلبة في توظيف النقد والتقويم بين كل صعبة وسهلة، والاعتناء الشديد في أسلوب العيش وفي طريقة التفكير والتدبير كما في طريقة الادخار وفي أسلوب الاستثمار سائرون بكل تؤدة وحساسية على وفق نظرية من لم يتحسب لأمره، ويكبح من خطوات جماحه فسنجده في غفلة من غفلات الأيام قد مسحت على رأسه يد الحياة الخشنة بأعفار عاديات الزمن وتركته ملوماً محسورا. فالنقد الذاتي والتحسب والصبر والتأني واستخدام المدخلات والمخرجات على وفق أفضل ما تكون المُعادلات هو النسغ الصاعد تجاه النسغ النازل هي التعادلية في أسمى معانيها هي الحالة التي تخلق الحالة التي تخلق التمايز وتدفع بالجمع إلى أمام لتتقدم المعاليم شامخة في وجه حسابات المجاهيل كمحصلات وتتراكم أرقام التنمية ومعدلاتها فيحصل النمو. فالإيمان العقلي بالعلم في ترتيب مصفوفات الحياة كدين و عقيدة ومذهب هو بمثابة كشف المستور أمام نطاسية الطبيب المُعالج واجبٌ شرعي وقانوني وعلمي.
فالخصوصية المقصودة بسؤالك هي التفتيش بإبرة عن أحوال الناس وطريقة تفكيرهم ومستويات تعليمهم وأطراز تجارتهم وزراعتهم وصناعتهم, هي التشرب بمقتبسات أعمدة الحكمة وقواعد الأسانيد وأساور القوة ومتانة الزند.
ونحن نُحدق بعيون الصقر في طبيعة أهل الموصل علينا أن نلتفت إلى ركائز ثلاث:
الأولى: الإنسان الموصلي بصفته العنصر الفاعل والمتحرك والمنتج وهو أثمن رأس مال
الثانية: الأرض بكل تفاصيلها وتضاريسها وجغرافيتها وخيراتها.
الثالثة: وهي الركيزة اللازمة لشد عُرى الركيزتين لينبري الإقتصاد بكل ما يعنيه من ديمومة الوجود و تواصل العيش في زراعة وصناعة وحرف و أعمال فضلاً عن كل الوسائل اللازمة للحصول على الدخل وتراكم رأس المال بما يؤدي إلى ادخار أو استثمار فانقسم تبعاً لذلك المجتمع الموصلي إلى: مُزارعين وتجار أراض وعقارات صناعيين ومُستثمرين وموظفين في دوائر الدولة و(معلمين) وضباط في الجيش وفي الشرطة رجال الدين وأعوانهم وطبقة وُسطى من أهل الحرف والمهن طبقة عاملة كادحة.
وانطلاقاً من هذا الفيض الإنتاجي المُرتب والذي يمثل خلاصة حركة الحياة الإقتصادية والنسق المُتعاقب والصحيح لدورة دماء المجتمع الموصلي بما تشكله السلسلة من حلقات متصلة من مكونات التفاخر والأنفة لتقف على رأس تلكم الخصيصة(لهجة أهل الموصل) وهي زبدة اللغة المحكية شديدة الإندغام واللغة العربية الفصيحة في جُل مفرداتها وموزونها المُتداول، والمتحرك في سياقات الحياة اليومية، والمحجوزة لأهل الموصل في بعض الداخل وعلى نحوٍ بات هي الحلقة الأكبر في سلسلة ارتصاف أهل الموصل حكائياً وتواصلاً ثقافياً ومعرفياً…
وقد انطبع في أذهان الآخرين عن الموصل أنَّهم أناس ميالون نحو العمل الجاد الموزون والمُقفى في غالب أعمالهم كما في دراساتهم ووظائفهم وطبائعهم ومسؤولياتهم في المهمات العامة كما في المهمات الخاصة ورغبتهم الجامحة في الانخراط في الجيش، وتقديم الخدمة العسكرية على ما عداها من المهن. كما هم في الوقت عينه يشكلون رأس النفيضة في سلك التعليم والتدريس بكل مراحله. نعم هذا الواقع الإفتراضي هو واقعي ومركز الواقعية، وله في تحليلنا أسباب وموجبات ..لا مجال للخوض في غمار تفصيلها في هذا المكان.
وبصفتي أحد أفراد أسرة أرستقراطية من المزارعين ومُلاك الأراضي فقد تأثرت تأثراً واضحاً وحاداً بخلاصة (الدي إن أي) الموروث عن جدّي الخامس المغفور له (الحاج زكريا التاجر ابن الحاج أحمد) منذ انتصب بطول قامته ليشكل أبرز أعمدة التجارة في الموصل في زمانه فضًلاً عن كونه محباً للعم والعلماء والأدب والأدباء وقد حتم وقرّر وقام ينفذ فكرة تأسيس أول مدرسة لطلاب العلم وتدريس الفقه وأصول الدين وتحفيظ القرآن الكريم في الموصل وعلى نفقته الخاصة سنة ١٧٨٦ للميلاد وقبل الثورة الفرنسية بثلاث سنين، واستن سُنة نظام الأقسام الداخلية للمعلمين والطلبة على حدٍ سواء. وما تزال المدرسة ولحد هذا اليوم قائمة بواجباتها و وظيفتها في الدرس والتدريس وتقع في (محلة شهرسوقي) في الموصل القديمة المحروسة.
في هذا الجو الموصلي القاسي والصعب والخانق بعضاً، المنبجس من بين خيوط ألياف الشمس في رابعة النهار، كنت وحدي عدداً وترياً ضمن صفوف الملايين بين شفعٍ ووترٍ فكتب عليّ أن أقبل نداء القدر في الارتصاف ضمن أطوال طوابير وسع الأفق وفي مديات تعاقب الأجيال أرى وأراقب وأحتسب و أتعلم، أعقل وأتوكل… ثم أكبر لأصير شمعة تذوب لتضيء… وهذا حسب الأقوياء.
*هل ترى أن انشغال الكاتب أو الفنان بالسياسة يأكل من جرف إبداعه ؟!
ً ـ في منطقة الشرق الأوسط والتي نحن جزء من خيوط نسيج بُردتها قد كُتب علينا أن نكون(دائماً أو غالباً) على وفق مديات التأريخ الحديث والمعاصر من ضمن الخاضعين لتسلط قوانين السياسة الحاكمة والآمرة والتي أفرزتها ختامات الحرب العالمية الأولى- وهي من غير جنس قوانين المروءة والإنسانية والعدالة والمُساواة وجعلت مصطلح العسكرة أشد غلبة من مشروع الحوكمة.
ولكوننا صرنا في دوائر صراعات لها أول وليس لها آخر لننام ونصبح ونحن مُمددون بالعرض على هوامش مُسطحات بلداننا نأكل لنعيش، ونتدحرج لنتواصل في حركة ديدانية كما كثير من سوانا في عوالم أخرى وعلى وفق التراتبية عينها كما في الظروف وفي المعاناة، وفي النضال كما في التماثل والتواصل لكننا اختلفنا عن أولئك الأقوام مذ كتب على شخوصنا من الكُتاب والفنانين، وكل المبدعين يتقلبون على جمر الغضى (وهم من سلالة طين مُغايرة) فصار عليهم أن يدفعوا أقيام فواتير هم لم يتبضعوا سلعها، ويتم الحكم عليهم بجرائر لم يرتكبوها مفصلة على وفق قوانين لم يسمعوا عنها عليه صار الثمن باهضاً وقاسياً وظالماً وجارحاً فخسرنا في عافيتنا ،و حرقنا من أعصابنا ،وقلصنا من رفاهيتنا وأخفضنا من نواتجنا النسبية و الكلية في صناعتنا كما في زراعتنا كما في أسلوب معيشتنا، وعبر كل المنمنمات الصغيرة المتشربة في بُخوش أسرارنا.
وأن أي باب من أبواب المقارنة بيننا وبين آخرين من أفراد عوالم متقدمة أو نامية و حتى (نايمة) لن يسمح لمقصلة السياسة فيه أن تبرز وتظهر وتنمو ولها ذلك التأثير الحاد على الرقاب كما هو موجود ومتواجد ومستفحل في دمٍ فاسد ينخبش في شرايين أعرافنا.. نعم هناك شواهد مليونية على أنَّ المبدع في كل أزمنة القهر لابدَّ عليه من أن يدفع ضريبة من صلب عافيته ونتاجه التي أكلت وستأكل من أحفاد جرفه ما تأكل وحسبي أنني عدد واحد ينحسب ضمن أعداد الطابور !
*لقد تخصصتَ في علم الإقتصاد لكن استهوتك فيما بعد الكتابة التأريخية، فهل أفادك التخصص الثاني في فهم حركة التأريخ ؟!
ـ نعم لقد أفادني ذلك كثيراً مع العلم أنّ أي تخصص إضافي في حدود المسكونات الإنسانية وعلومها وتفرعاتها لابدَّ أنَّ يكون مُؤثراً إيجابياً عند الرواد والألمعين في أزمنة الرخاء الإقتصادي والتصالح السياسي مع الذات ومع الآخر مع النظام ومع الحاكم كون فهم حركة التأريخ في موضعيها التكتيكي شبه الثابت والمتحرك الستراتيجي، والمتحول يجب أن تدّر ريعاً مضاعفاً لتحديث شروط النمو وتمتين قوانين الإنتماء، وأن نجعل للإقتصاد مكاناً مُؤثثاً في قمرة القيادة في الكابينة بشرط أن نتشرب دائماً من عبق ريح أسراب خلايانا المتحركة الضامنة للتجديد وأنساغها الصاعدة والنازلة على وفق حركة دايناميكية مستمرة.
*أين وجدتَ نفسكَ..في القصة، أو في المقالة، أو الترجمة، أو في كتابة التأريخ ؟!
ـ أنا بطبيعتي رجل موسوعي مذ بدأتُ مسيرتي المُشبعة بحركة التجريب ذلك كان في مضمونيه القريب والبعيد مناراً مضيئاً، ومصباحاً هادياً حقق لنفسي راحة وجدانية. لقد قدّمتُ في تجربتي في الكتابة أبهى مصداقية للشعار الماراثوني (الأعلى والأسرع والأقوى) حتى تم لي في الختمة، والحمد لله من تحقيق أمنيتي بكتابة سيرة حياتي لأكتشف أن كتابة التأريخ ليست عملاً سهلاً، بل يا لها من مهنة شاقة التي تضطر صاحب التجربة وفي كل خطوة من خطوات حياته الإبداعية إلى أن يكون هدفاً مقصوداً للصدام مع الآخر، وأنت تصرخ في وجهه الثاني: كيف تريدُني أن أموت لكي تحيا أنت وحدك ..؟
*أنتَ من جيل القراءة الثاني .. فهل ترى أنَّ التكنولوجيا قد سحبت البساط من تحت أقدام الكتاب ..؟
– كلا ثمَّ كلا، لم تتمكن التكنولوجيا من سحب البساط من تحت أقدام الكتاب ..! ولن تستطع حتى في مستقبلات منظورة بل سيبقى الكتاب والحرف والطباعة الورقية والقلم والقرطاس هم سادة الموقف وأركان أعمدة الحكمة السبعة. الكتاب التكنولوجي في نظري هو طفل أنابيب ليس له من رائحة الأبوين شيء بل هو مخمّر برائحة سوائل المختبر.. علينا أن نستشهد بكلمة رب العزة وهو يخاطب الرسول الكريم أن (اقرأ)، ولم يقل(تصفح). لكن يبقى للحقيقة أن تفرض نفسها في أنَّ التكنولوجيا قد أنارت دُروباً مليونية بالمقارنة مع سحبها (بساط الكتاب الألفية) بل سيبقى التقدم العلمي (يخدم)، ونحن الذين قمنا باختيار فعل (يخذل) المتراكم في الجوانب الأخرى (الزرقاء) من أفق القراءة!.. عليه، فنحن المستفيدون من فعل التكنولوجيا (ذي الوجهين) علينا دفع ضريبة هذه النعمة بعزل ( القمح الصافي) عن (سواد الجالب).
أمومة التصالح التخالفي
*هناك مقولة شائعة تقول: (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقي) ..! فأين تجد الفجوة الحضارية بين الشرق والغرب ؟
ـ التعادلية سمة من سمات توازن المنظومة الكونية تجدها في كل مكان من حياة الإنسان والطبيعة. فلابدَّ من وجود (شرق) ولابدَّ من وجود (غرب) طالما أنَّ الشمس تشرق، وأنَّ الشمس تغرب والأرض كروية ضمن توقيتات مُحددة ومجزومة. فلندع الطبيعة تمارس دورها في أمومة التصالح التخالفي الذي هو أثمن من التخالف التصالحي في كل الأحوال.أما تطور توارث المُستخدمات في التفكير والمعيشة والتماهي مع الإبداع عند الشعوب فهي حتماً من نتائج الجغرافيا، وما التأريخ سوى شاهد ومُبلغ، والتي بتراكمها التعاقبي (المُستخدمات وفيها اللغة) عمراً وتفنناً، فقد أنتجت لنا ما تسمى بالحضارة. فالحضارة هي مجموع نواتج أهلها وشعوبها(على الأرض)، وفي شتى الميادين، في اللون والشكل،في الإزميل كما في القلم والقرطاس والفولكلور واللغة، في النحت داخل الكهوف كما في تماثيل المعابد، في رقصات أغاني الأفراح كما في رقصات المآتم والأتراح… وهكذا… دواليك .
أسباب سقوط الموصل
*ما الذي خرجتَ به من محنة احتلال الموصل، وما وقع من عدوان على الرموز الحضارية والثقافية والشواخص التأريخية وكيف ترى أسباب سقوط الموصل والخلفية والكوامن الباعثة على التصارع، وآلية تدوين تأريخ الحدث؟
ـ قبل استفحال أمر تنظيم داعش الإرهابي وتهديده الإعلامي المُبكّر باكتساح مناطق كانت في عرف المراقبين والمُحللين السياسيين تبدو ساخنة سواء في مركز مدينة الموصل أو في الأرياف المحيطة بها، عليه وجب علينا أن نعترف أن هناك كثيراً من الأمور الخلافية ذات الطابع الديني والإثني والطائفي كانت متواجدة – شئنا أم أبينا الإعتراف بذلك- في قلب التأريخ الماضيوي، ومحصورة بين الضلوع ومختبئة في بواطن القلوب في جُلّ مساحة سكان المُحافظة، وعدم تمكن العقل ولا الحكمة من تفعيل أدوار القواسم المشتركة في التعايش السلمي، لكنها وبفعل عوامل قديمة قدم التأريخ، وأخرى طارئة ومؤثرة سرعان ما وجدت لها أرضاً خصبة وحجة للظهور العلني ساعة اكتسحت فيها القوات الميليشياوية والذراع الضارب لتنظيم داعش الإرهابي الجوانب القشرية الهشة والرخوة للبنية التحتية لهيكلية المجتمع الموصلي، الأمر الذي أحدث ما يشبه الزلزال في هيكلية تراكيب المكونات السكانية، وفرض بسرعة البرق ما سمي بالسقوط العسكري والسياسي لمدينة الموصل- أرضاً وسكاناً – والبالغ عددهم قرابة الثلاثة ملايين نسمة- فضلاً عن سيطرة الغزاة على الهياكل التنظيمية والإدارية والسياسية ومواقع القوات العسكرية العراقية النظامية من عُددٍ وأسلحة وذخائر ووسائط نقل من سيارت ومدرعات ودبابات ومدفعية وراجمات صواريخ وطائرات عسكرية كانت جاثمة على أرض مطار الموصل، وأشياء أخرى يعجز الإنسان العادي وهو في مديات اندهاشه المُسطل من فعل الصدمة أن يتبين موقعه المُضمحل من الوجود ساعتئذٍ من هول الهجمة وتداعياتها في الإنكسار ثم السقوط.
من جرّاء ذلكم الحدث المُفجع وحتمية تداعياته الما بعدية جعل الهجرة والتهجير والنزوح أموراً في حكم الواقعية البحتة بسبب كثافة الهجمة وهيمنة الهلع في النفوس والغياب التام للسلطتين المحلية والمركزية عن الوجود، فصار الجميع من الأهلين في حالة انعدام وزن وخضوع للقدر ومشيئته حسب.
تعدُ محافظة نينوى وعاصمتها (مدينة الموصل) كما في أطرافها، وفي أعالي سفوح جبالها من أكبر المحافظات سُكاناً وأهمها أقليماً مُتحضراً ومركزاً مهماً من مراكز تجمع الأطياف والمكونات قلّ وجوده في أماكن أخرى من دولة العراق الحديثة. فالمُسلمون في الموصل يتواجدون منذ ألف وأربع مئة ألف سنة، وهم في غالبيتهم من أتباع المذهب السني، ومن القومية العربية مع الإعتراف بتواجد محسوب لأتباع المذهب الجعفري بين سكان القرى والقصبات لا ينكر.
وقد سبق المسلمين في التواجد على أرض الموصل وفوق بطاحها وفي أعالي سُفوح جبالها اليهود ثمَّ المسيحيون بحكم عامل التأريخ وعوامل أخرى. كما يعيش على أرض الموصل اليوم ومنذ أزمنة موغلة في القدم مجموعة من المُكونات والإثنيات والطوائف الأخرى ففيهم الكرد المسلمون والكرد المسيحيون السريان والكلدو آشوريين، فضلاً عن وجود قرى التركمان والشبك اليزيديين والكاكائيين والصابئة المندائيين بعشرات الآلاف من البشر.
ضمن هذا التعدد واسع الأطياف فقد يبدو التقاطع المُعقد في الإنتماء، وفي المصالح الإقتصادية، وفي الحقوق وفي العيش الآمن والتواجد الحُرّ وارداً في كل الأحوال، مع حتمية تداخل الهوية بشكل يصعُبُ فيه الأمر على أهل النيات السليمة من العمل والمُشاركة في إيجاد حُلول دائمة وفاعلة وصادقة ومُستدامة..!
إلا أنَّ الحكماء والعقلاء وأهل التجارب من العلماء يرون أنَّ الزمن وحده كفيل بحلحلة ذلك الأمر العصي في ظاهره – بما يرضي جميع أطراف المُكونات… بشرط فارض وقاصم مؤداه ولحمته ضرورة الإيمان بعقيدة أنَّ أية حلول تبرز خلاف الحل المرضي والواقعي والمُنصف والتصالحي وركائزه التعايش السلمي بقبول الآخر راضين لا مُكرهين فهناك الواقع الأسود الذي يكشر بأنيابه كلما دق الكوز بالجرّة يقول: إنً النتائج المدمرّة ستضع الجميع في مهب رياح الفتنة والإقتتال، و حينها سوف يتيه الجميع في فلوات صحارى المغالطات، ولسوف يسيطر الفكر الغوغائي على عقول أغلبية جماهير المكونات وقياداتهم وزعمائهم … وسيغدون( شاءوا أم أبوا) وبحكم هيمنة الواقع ، وقوة سطوته، منقسمين لامحال ما بين نازحين أو مهاجرين او في عداد المغيبين كما حصل لهم في العاشر من شهر حزيران سنة ٢٠١٤ م.
تدوين المذكرات
*ما الهدف العام لمشروع تدوين المذكرات ثم نشرها؟
ـ هناك هدف عام يقع في أعلى سلّم أولويات المشروع، ويكمن في مديات تأثير الذي ستحدثه المذكرات من بعد نشرها على المستويات الثلاثة (المحلية، والإقليمية والدُولية) وذلك بمجمله سيقع تحت بند جمع وقائع الحدث بكل أصوله وتفرعاته وتشابك أحداثه في ملفٍ واحدٍ يحكي قصة مدينة نالها من الاحتلال البشع بفعل غزو ميليشيات داعش الإرهابية ما نالها وطوال سنتين تقويميتين، فقمنا بالتصدي للوضع الشائك والمُعقد ونحن في ديار الهجرة وأخذنا على عاتقنا مهمة كتابة جريان سوأة الحدث ومديات تأثيراته والعناصر الداخلة على خط اشتغاله، هدفنا من ذلك تنبيه الرأي العام العالمي والصُراخ في آذان المجتمع الدُولي الرسمي والشعبي وإرسال الإنذار تلو الإنذار لكل من فاتهم متابعة وقائع أركان الحدث عبر أربعة أطراف المعمورة، كوننا قمنا بتوثيق مواقف كل الأطراف من دون استثناء على مستوى العراق فضلاً عن مستويات أركان المجتمع الدُولي والتحالف الدُولي، وهدفنا العام والأوسع من تدوين المذكرات في حينها ومن ثم العمل على نشرها وإلقاء محاضرات تعضيدية بشأنها، وفي أماكن متفرقة من العالم – حيثما تيسر ذلك- هو عزمنا الأكيد على الاتصال بالجاليات العراقية حول العالم أولاً التي ستقوم بدورها ناقلة للرسالة ومساعدة على تثوير القضية عبر الأجواء الأجنبية وفي أطراف كل المناصرين للقضية وتحقيق التواصل مع المنظمات الدُولية ومُؤسسات المجتمع الدُولي.
أما الهدف الخاص لمشروع تدوين المذكرات، ثمَّ نشرها فهو أنَّ تسجيل وقائع الحدث أي حدث من مثل هذا الذي قمنا على تسجيله هو توثيق للحالة بالساعة واليوم من تأريخ ٩ حزيران سنة ٢٠١٤وحتى ٩ حزيران من سنة ٢٠١٦ هذه الفترة الزمنية التي تشكل بمجموعها تأريخاً لاحقاً لوقائع سابقة تعني مدينة الموصل(أنموذجاً لكل مدن العالم المغدورة)، وقيامنا بتسجيل أحوال أهلها وهم يرزحون تحت نير عبودية العقائد المتطرفة والاحتلال الغاصب والظالم بكل تفاصيل يومياته الأمر الذي سيكون معيناً لا ينضُب لكل بُحاث التأريخ والمُدونين وطلاب الدراسات العليا وأرشيف المراكز البحثية في العالم عبر مختلف التخصصات في علوم التأريخ والإجتماع وعلوم السياسة ناهيك عن أنَّ هذه المذكرات المخطوطة التي إذا ما غدت (مُدونات مطبوعة) فإنها ستكون معيناً زاخراً مملوءاً بتفاصيل الحدث الدراماتيكي وتفرعات معلوماته الدقيقة، وهي مصفوفة فوق كل رفوف مكتبات العالم وجامعاته ومراكز أبحاثه..
وللعلم فإنَّ هذا التدوين الذي قمنا به لم يسبقنا إليه أحد ولم يفطن له غيرنا من قبل سواء من ناحية شدة خصوصية أهميته المستقبلية الوسيطة والبعيدة على عقول كل الأجيال التي لم تكن قد عاشت الحدث بل سمعت به أو عنه حسب فهم سيكونون على وجه الحتم تواقين للإنصات إلى مدونات تفاصيل حدوثه والإستفادة من تلكم المُدونات على وفق كلٌ لحاجته، ومُبتغاه
