أدب

التجربة الوجدانية في شعر سعيد الصقلاوي..انتباهات أولى

فقه النقد

د. علي متعب جاسم| العراق
قد لا يثير هذا العنوان فضولا قرائيا واضحا، القارئ الآن يمسكُ النصَ من سطحه اللغوي الجمالي وربما يعنيه المعنى وصياغته أكثر من النفاذ إلى عالمه الداخلي،ما تتماوج فيه من مواقفَ وتنعكسُ من تصوراتٍ وتتراسل من إشارات،لا سيما وإن مصطلح “الوجداني” لم يعدْ مثيرا للقارئ ،ولَربما تعالى الشاعر- أي شاعر عليه – بحكم ما توصلت إليه عوالم الكشف الشعري. كل هذا ممكن الحصول، لكن التساؤل الشاغل ينبني على ما مرّ من فكرة وهي ترتبط بوضوح كافٍ بشجرة النصوص التي تضمها مجموعة الشاعرسعيد الصقلاوي “صادحا كالمآذن” بدءا بما تؤشره هذه العنونة من إحالةٍ واضحةٍ إلى الإفصاح والتجلي الروحي وما تتضمنه من بعد متسامٍ تولّده دلالة” الصدح/ البوح” إذ يَظهر الأول قراءةً ليدلَّ على الثاني تأملًا.

إن النقطة الحسّاسة في التجربة الوجدانية هي العلاقة التي تنعقد بصفة خاصة بين عالمي النص (الخارجي والداخلي) أي ما يوازي الصدح/ والبوح. وإذا كان هذا التوصيف مما تشتركُ به شعرية القصيدة بشكلها الأوفق،فإن ما يهمّنا هنا هو نمط العلاقة بين الأثنين، ثمة روابط تمتدّ بشكل مختلف عن روابط العلاقة نفسها في التجارب الأخرى،ولعل الأبرز فيها هي الرابطة الزمانية والرابطة الحدسية وكلاهما يتسعان لفهم التجربة ويضيقان بالوقت نفسه في حال استثنائهما من القراءة. وربما تجدر الإشارة إلى أن النقد هو الذي ينمّي النص ولا يختزله بالشروحات والتقعيد وفقا لمقاييس فقه النقد التي تآكلت بفعل تمديدها أو تقليصها بحسب الحاجة فنحن نحتاج إلى صوت واضح يبدد تلك التصورات التي ترى إن النقد تمديد للمعنى أو تضخيم للظاهرة أومختبرا لفحص النظريات والمناهج، وأن نبحث في الأدب بطريقتين كبريين هما كيف نفكر بالنص وكيف يفكر النص بتعبير ماشيري.

إن قارئ الصقلاوي يحتاج إلى فهم أدوات الدخول إلى نصوصه، فليس الشكل الشعري وليست العلامات بإحالاتها الرمزية هي ما يؤثث نصوصه- وإن كنّا نفترض وجودها الشعري عند كل شاعر بتفاوت – وإنما الفنُّ الذي يحررنا من العادة الأدبية ليكون الحدس الجمالي من يرجعنا إلى طهارة الروح والحواس التي تجدد القوة الشعرية كما يقول روبنال.

في التجربة الوجدانية غالبا ما تظهر نزعة القلق والتساؤل حول المثال الأبدي الذي يمثّل طموحا يتنامى ليستقر ثيمةً على رأس كل النصوص حتى لَتبدو طريقا يصلُ بعضها ببعض وهو ما قد يوهم القارئ بوحدة التجربة لكنما الأصح أن ننظر إليها من حيث كليتها.وقد تنعكس التجربة الوجدانية على بنية الشعر الجمالية وهو ما أشار إليه عبد القادر القط في وقت مبكر وسبقه علي جواد الطاهر في التأصيل لهذه التجربة، فالشاعر هنا معني بعالمه لا بالآخر، إنه لا يقدّم مشروعا شعريا يقنع الآخر بجدته أو تجريبيّتهأو ثقافة نصه ، ثقافة النص مشغولة بالحفر داخل عالم تزدحم فيه الهواجس ويتلاقى فيه الإسرار بالبوح الظامئ، التجربة الوجدانية تفترض قارئا يتحسّس المعنى لا أن يراقب تشكلاته، والصورة التي يفترضها المعنى مضاءة بالحدس لا بالتشكيل.

لذلك فإن التركيز على “الزمانية والحدسية” وهما مترابطتان لاشك،يقودنا إلى هذه التجربة .وإذا كان الحس مدركا بفعل محموله المعنوي الذي يتنافذ مع زمن التجربة فان تجريده ينقل الزمن أو يجرده على الأقل من إدراكه الحسي ليضعه في خانة أو مكانة أخرى تتحقق من خلالها إدراكات أخرى، وهو ما يعني ضمنا إن التجربة تُدرك بفعل حسيتها الزمنية لا زمنيتها الحسية.

ذاك إن الذاكرة قد تتكرر ولكن الإحساس بها لا شك مختلف ” فبالإعادة يكتسب الفعل صلابة جديدة وتكتسب النتائج خصوبة غير معروفة كما يقول باشلار. وفقا لهذا ننظر إلى الرابطة الزمنية التيلا تستعيد ذاكرة الشعر الوجداني ولاتبقى رهينةَ التصور القار لها ،وإنما تستعدَ لخلق ذاكرتها الخاصة من خلال التنافذ بين العالمين الداخلي والخارجي كما أسلفنا.

أشرنا إلى إن الرابطة الزمانية دالة تُحكم العلاقة بين الداخل والخارج .ويبدو لنا إن نصوص المجموعة بشكل عام تحدد ذلك، فليس للقارئ أن يستجلي زمنية النصوص إلا من خلال كونها استدلالا على ما يترقّبه من لحظة غير مستقرة يغدو الزمان فيها نوعا من المكان الذي يحتويه وتغدو الذات جزءا غير مشخص.

هذا الإلماح يستدلُّ عليه القارئ من خارطة دلالات موزعة بشكل عشوائي في النصوص ،ونشير القارئ إلى معجم الضوء والعدم والتماهي وما تتفرع إليه من دلالات في خرائط النصوص اللغوية ،وإذا ذهبنا إلى خطوة أبعد سنلحظ أن ثمة معجما رديفا للزمن هو بانتباهات النص إلى اللحظة الزمنية غير المكتشفة وغير المتحققة ،أعني تحديدا إن دلالات الارتحال والأمنيات وغيرها شواخص لا تنبني إلا من خلال الزمن ؛ ماذا يعني ذلك؟ في قراءتنا لهذا التصوّر نرى إن العلاقة الزمانية تنفتح من الدوال الخارجية وكلما اتسع فضاء الإشارة إليها دلت على حركية ولا نظام مستقر في العالم الداخلي.
” هل كان علينا أن
نستوطن أحلاما أخرى”
“إن الآن ماض
وغدا للحلم امضى”.
لو وقفنا على هاتين الجملتين الشعريتين وهما من نصين مختلفين لَلاحظنا بدءا إن الركيزة الأساسية في كليهما ليست الفكرة وتحققها معنىً، وإنما بالعلاقة التي يوجدها النص بين انبثاقه من الداخل وانبنائه إلى الخارج،ففكرة استيطان الأحلام لا تتم إلا عبر استيلاد زمنٍ آخر.. العبور إلى زمن آخر،ولكن أي زمن يمكن أن يكون مدرَكا ومحسوسًا؟. هذه النقطة بالذات هي التي عبّرنا عنها بحسّية الزمن في استهلال كلامنا. والأمر يتاح في الجملة الثانية أيضا إذ إن “الآن” المدرَك حسيا ذبل ولم يعد يشكّل المعنى إلا بطريقة حسية لا تتناغم وطبيعة التجربة الوجدانية التي تجعل الحدس ضوءا كاشفا لها حيث “يحنو الزمان على الزمان” وحيث يتنافذ مع المكان..
” قالت وما هذا الزمان
ألا تراني ؟
قلت الزمان به مكاني
وأنا وبينهما
أخط مسيرتي وبياني “.
يمكننا – حين نريد توليدا مختصرا لبؤرة الرابطة الزمانية – أن نتحسس هذا التنافذ على التوصيف الآتي:
المكان ــــــ الداخلي
الزمان ـــــــ الخارجي
ثم يكون الخارجي داخليا والزمان مكانا في حركة مستمرة.
لا وجود لمكان من دون زمان وكذلك العكس وهو ما يضيء تجربة الوجدان عند الشاعر، وما يؤثثها ويغنيها هو الحدس أو بتوصيفنا ” الرابطة الحدسية “.
إن فكرة الحدس التي تبناها كروتشه والتي تضع الفن بوصفه طابعا ما قبل عقلي تمثل التحرر من أ ية تبعية إديولوجية ففعل الخلق يعبر عن نفسه مباشرة في كلية الأثر حيث الحدس والانفعال يسيطران سيطرة مطلقة بتعبير ماشيري. وسينتبه القارئ مع نصوص المجموعة إلى هذا النوع من التفكير الذي لا يستدلّ على نفسه إلا بكونه حسّا يترقّب نفسه،خاليا من ضغط فكرة أو تبني إديولوجيا،إنه يتمتع بقدر جيد من التعبير عن تصوراته وهي بالضرورة تصورات لا تخلو ولا تتعالى على محيطها المعرفي،الفرق الواضح إنها هنا تنفتح على عالم الداخل مؤشرة استدلالاته وأفكاره معتمدة الإحساس بالأشياء أكثر من تشخيصها، وهنا نعود للتذكير باللحظة الزمنية التي تتنافذ مع الرابطة الحدسية لتكوين رؤية متكاملة.
إن هذه السمة التي قد لا تفارق أية تجربة وجدانية تكمن أهميتها في تكرارها، التكرار الذي يولده إحساس متناه بالتجربة و”عودة مختلفة للشروط التكوينية للتجربة الحقيقية وفقالدولوز .
وقد تتولد لدينا إشارة نرى من الأهمية ذكرها هنا فحين تحدث الجرجاني عن المخيلة لم يعتن أو يُظهر- كما يذهب كثيرون-إلى رصد صور المعاني وتشكيلاتها، وإنما إلى رصد العلاقات التي تنتجها المعاني من بنية الاختلاف، ولذلك لا يتكرر المعنى لأن العلاقات لاتبدو إنها تتصل بنفس الوجه. وهذا ما يجعل فهم الرابطة الحدسية ركيزةً من ركائز فهم التجربة الوجدانية في هذه المجموعة.
لا يصبح الكل كلّا حين تدركهُ
لكنه بظلال الكل يلتحفُ
فالكلَ أوّله يلفي بآخرهِ
والكل أكملهُ ما فيه يأتلفُ
فإن نظرت إلى كلٍّ ستعرفه
بحسنه وكمال ليس يختلفُ
يمكن لهذه الأبيات على اقتصادها اللغوي وإشاراتها الواضحة أن تنفتح على تلخيص ما قدمنا له، وتشترك مع رؤى عكستها نصوص أخرى ربما سنشير إلى بعضها ، وسنلاحظ إن فكرة الاكتمال نابعة بالدرجة الأساس من تصور زمني. إن لحظة إدراك ممكنة تكتمل باكتمال الزمن وهذا يعني إن اللحظة التي تنفلت من الواقع باتجاه الماضي لم تعد موجودة. ثمة موت أو نسيان أبدي بمقابل لحظة تعاش لا لأنها حاضرة وإنما لأنها تومئ لحياة حاضرة ذهنيا.وإذا أعدنا الملاحظة فيها لنركز في جانب إنشاء “تكرار” تجربة العلاقة بالزمن تماهيا أو تعاليا وعبورا سنلاحظ إن ما تولده الألفاظ في كياناتها التعبيرية مرتبط بنقطة إحساس لحظي بالزمن المطلق. الماضي لا يساوي الحاضر ولا يكاد يكون مستقبلا إلا بالإدارك الحدسي الكلي. هذه المعادلة هي نقطة الإحساس بالكيان الوجودي للذات. ثمة: “حلم واحد يسكن في كل الأشياء” كما يقول في موضع آخر. ويبدو لي إن الإمساك بطبيعة هذا الحلم هو ما يمثل بشكل جوهري لحظة إدراك الرابطة الحدسية التي تمسك بجوهر التجربة الوجدانية عنده. ويمكن أن يعزز استنتاجنا بملاحقة تفرعات أخرى بنصوص مختلفة عنده.
في آخر انتباهة يمكن أن أشير إلى السيد القارئ أني حاولت أن أتجنب شرح النصوص انتصارا لفكرة تهيئة مدخل لقراءتها ، ولابد أن يكون في الحسبان أن تجربة الصقلاوي في هذه المجموعة -وهي آخر ما أصدر –إعادة اكتشاف للذات بعد أن رست على ساحل طويل من الخبرة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى