منفى العجائز الأوروبيين في القاهرة: هل تخلت أوروبا عن كبارها؟
بقلم: فرحات جنيدي
في قلب القاهرة، تحديدًا في منطقة وسط البلد، تتكشف ظاهرة مؤلمة وتبعث على الدهشة. عدد لا بأس به من العجائز، رجالًا ونساءً، أصابتهم الشيخوخة وأثقلتهم الأمراض، يُسكنون في فنادق رخيصة من الدرجة الرابعة والخامسة. يتم دفع إيجار الغرفة مقدمًا لشهر أو شهرين، مع إعطاء مبلغ مالي بسيط لأحد العاملين في الفندق ليعتني بهم، بعد أن تركهم ذووهم وسافروا عائدين إلى بلدانهم.
أراقب هذه الظاهرة منذ أكثر من عام، على أمل أن تكون لهؤلاء العجائز فائدة هنا، ربما في العمل أو مشاركة خبراتهم. لكنني فوجئت بأن أهلهم رفضوا تحمل المسؤولية تجاههم، فجاءوا بهم إلى هنا وتركوا لهم مصيرًا مجهولًا ورحلوا. يتم الصرف على هؤلاء العجائز من أموال الإعانة أو المعاش. إنها مأساة أن يتركك أهلك عندما تصاب بالشيخوخة أو المرض، ورغم ذلك اختاروا لهم المنفى.
فرحات جنيدي كاتب المقال
لا شك أن مصر جنة الأرض، لكنها منفى بالنسبة لهؤلاء العجائز الذين جاءوا من ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، هولندا، الدنمارك، السويد، سويسرا، أو أي دولة كانت. اختاروا لهم أن يعيشوا بقية أيامهم في منفى بعيد عن أوطانهم وأحبائهم.
الحياة الأوروبية الجافة، التي تبدو في ظاهرها مليئة بالرفاهية والتنظيم، تحمل في طياتها قلوبًا متحجرة، قلوبًا تخلى أصحابها عن روابط الإنسانية والمسؤولية تجاه ذويهم. هؤلاء العجائز كانوا يومًا ما شبابًا، قدموا مجهوداتهم، ربوا أجيالًا، وساهموا في بناء مجتمعاتهم. ولكن، ما إن حل عليهم شبح الشيخوخة، حتى تخلت عنهم تلك المجتمعات، وأبعدتهم إلى منفى القاهرة، بعيدًا عن كل ما هو مألوف ومحبة.
الوجوه الشاحبة والعيون الحزينة للعجائز في وسط البلد تروي قصصًا من الألم والشجن القاسي. هذه القصص تذكرنا بأهمية الروابط الأسرية وواجب الرعاية التي نحملها تجاه كبارنا. القاهرة، برغم طيبتها ودفئها، لم تستطع أن تكون لهم إلا ملجأً مؤقتًا، ومكانًا للنفي الهادئ.
يروي لي أحد هؤلاء العجائز، وهو ألماني الأصل، أنه عاش الحرب العالمية الثانية، وعاصر انقسام ألمانيا وفرحة اتحادها من جديد. يروي لي كيف عاش مآسي الهزيمة والدمار، وكيف كانت ألمانيا حطامًا، وكيف بنوها من جديد بعرقهم وجهودهم. الآن، وبعد كل هذا العطاء، يُترك ليعيش وحيدًا في أرض غريبة.
كم هو قاسٍ أن نرى تلك القلوب المتحجرة، التي لم تستطع تحمل مسؤولية العناية بأحبائها. كم هو مؤلم أن تكون الشيخوخة مرادفًا للنسيان والتخلي. في خضم هذا العالم المتسارع، يبقى هؤلاء العجائز حكاية منسية، يعانون في صمت، منتظرين لحظة الرحيل النهائي في منفى لم يختاروه بأنفسهم.
هذه الظاهرة ليست مجرد حدث عابر، بل هي مرآة تعكس تراجع القيم الإنسانية في بعض المجتمعات، وتعري قلوبًا قد نسيت معنى الحب والعطاء والرعاية. ربما تكون القاهرة قد منحتهم شيئًا من السلام، لكن الجرح العميق الذي خلفه النسيان والتخلي يظل حاضرًا، يروي للعالم قصة من قسوة الزمن وغدر البشر.
الألم الذي يكسو ملامح هذا الرجل الألماني يروي حكاية إنسانية مؤلمة. من عاش الدمار والفرحة، من بنى بلاده من جديد، ينتهي به المطاف وحيدًا، بعيدًا عن وطنه، بعيدًا عن كل من يعرفه. إن تركك لأقرب الناس لك في أوقات ضعفهم هو أعمق جرح يمكن أن تحمله في حياتك. هؤلاء العجائز لا يحتاجون إلى الفخامة، بل إلى الدفء، إلى لمسة حب، إلى كلمة طيبة، إلى رعاية إنسانية.
في هذا المنفى القاهري، يظل هؤلاء العجائز صامدين، لكن قلوبهم تحكي حكايات من الغربة، من القسوة، من الوحدة. الحكايات التي يجب أن توقظ فينا روح المسؤولية والإنسانية، لكي لا ننسى أبداً أولئك الذين أعطوا حياتهم في سبيل بناء مجتمعاتهم، ولم يجدوا في النهاية سوى النسيان والتخلي.