بقلم: محمد أسامة – الولايات المتحدة
إن الدارس لتاريخ السيرة النبوية سيجد ملامح عديدة من حياة النبي ﷺ تستحق الدراسة وسيدرك في نجاح دعوته وانتصار دينه أن النبي ﷺ لم يكن مجرد داعيا لله أو رجل دين فحسب ولكنَّه كان بجانب نبوَّته ودعوته شخصية قيادية ناجحة، وعبقرية سياسية نادرة، وقائدا قويا في الحرب والسلم، وأبًا رُوحيا ومعلِّمًا عظيمًا، أعطى البشرية والتاريخ الإنساني دروسًا في الدين والحكمة والأخلاق، وأعطى كذلك نموذجًا للقائد السياسي المحنَّك، والقائد العسكري الناجح، صاحب الرؤية الثاقبة والفكر السليم حال السياسة، وصاحب التخطيط والتدبير والدهاء والشجاعة وقت الحرب، بحيث لم يعرف التاريخ الإنساني في السِّلم ولا في الحرب قائدًا مثله في حنكته السياسية ومهارته الحربية وهي ملامح تستحق الحديث عنها والوقوف عليها.
فمن ملامح عبقريته ﷺ حينما صدع لأمر ربِّه وهم بالجهر بالدعوة، إذ قام واعتلى جبل الصفا وقال لقومه: أرأيتكم لو أخبرتكم أنَّ خيلا بالوادي تريد أن تُغير عليكم، أكنتم مصدِّقي؟ قالوا: نعم: ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا. فقال رسول الله ﷺ: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد. ورغم أن قومه كذَّبوه في النهاية لكنه قصد بذاك السؤال إثبات الحُجَّة عليهم في صدقه فكأنهم صدقوه ثم كذبوه في نفس اللحظة فوقع في نفوس قومه الحرج حينما أقاموا الحجة على أنفسهم.
وقد تجلَّت في صلح الحديبية موهبة النبي ﷺ وعبقريته السياسية وأثبت أنه ما لا يتحقق بالحروب أحيانًا قد يمكن تحقيقه بالاتفاقيات والمصالحات حينما لا ينجح طرف في التغلُّب على الآخر فكان مجرد خروجه للعمرة إحراجًا سياسيًا فادحًا لقريش التي حارت أتردُّه أم تأذن له وفي كلا الأمرين حرجٌ شديد..
وقد حقَّق النبي ﷺ بالفعل انجازات من وراء صلح الحديبية لم يحققها في حروبه حتى في غزوة بدر إذ تفرَّغ لقتال قبائل أخرى من الأعراب ولدعوة سائر الناس بعد تحييد قريش فدخل الناس في دين الله أفواجا وشعرت قريش بعدها بالاختناق والعزلة بعد ازدياد أعداد المسلمين داخل وخارج مكة وأسلمت بعض القبائل في محيط مكة ونتيجةً لكل هذا لمَّا خرج النبي فاتحًا مكة استسلمت قريش ولم تُبدِ مقاومة تذكر.
وفي قصة أنفال حنين حينما وجد الأنصار على النبي ﷺ لم يمنحهم منها شيئًا اتضحت موهبة النبي ﷺ القيادية والتربوية حينما خطب بالأنصار خطبة عظيمة وأقنعهم أن ما قام به من بذل الغنيمة لسواهم من العرب حديثي الإسلام كان تأليفًا لقلوبهم وإغرائهم لتثبيت إسلامهم وكان لا يزال رقيقًا وأن الأنصار قد ثبتوا في إسلامهم وصحَّ إيمانهم فلا حاجة لتأليف قلوبهم وقد أوكلهم إلى إيمانهم. لتتضح حكمة النبي ﷺ وبُعد نظره وهدفه وسياسته من تلك القسمة وما كان يقوم به من جهد لتأليف قلوب المسلمين الجدد.
وقد شهدت أخبار المغازي في السيرة النبوية عدة مواقف برزت فيها مهارة النبي القيادية وعبقريته الحربية والعسكرية الفذة من بينها مواقفه في الهجرة حيث كان من المفترض أن يتجه النبي ﷺ شمالا ناحية المدينة لكنه اتجه جنوبا عكس المدينة واختبأ في غار ثور وكان هذا تمويها فطنًا حيث جعل الكفار يبحثون عنه شمالا بدون جدوى.
ووفق الروايات كان النبي ﷺ حريصا على السِّرِّية والتمويه في خُطَّته الحربية وعملياته العسكرية فكان إذا خرج غازيًا أو بعث سريَّة أخفى عن عموم الناس وِجهتها ووارى بغيرها لأنه كان يعلم أن في المدينة جواسيس من المنافقين قد ينقلون الأخبار للأعداء فكان يكتم الأخبار ويخفي وجهته ويواري عن وجهته الحقيقية بأخرى حتى لا تصل الأنباء إلى العدو باستثناء غزوة تبوك التي أفصح النبي ﷺ عن وجهتها نظرًا لطول المسافة وبعد الشُّقَّة. ويدل تعقب النبي ﷺ قوافل قريش المتَّجهة من وإلى الشام أنه ﷺ استغل موقع المدينة الجغرافي الذي يُطل على طريق تلك القوافل مما شكل ازعاجًا لقريش وتهديدًا خطيرًا لم تتوقعه
وكانت معارك النبي ﷺ دفاعية إلا أنه ﷺ كان يؤمن بنظرية أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع فكان يبادر خصمه بالهجوم إذا سمع عن تدبير يستهدف المدينة أو انتهى إليه أن الأعداء يتآمرون ضده ويخطِّطون للهجوم عليه فيباغتهم ويبعث لهم في عقر دارهم. وتدل تلك السياسية وما كان ينتهي إلى النبي ﷺ من أخبار خصومه أن رسول الله ﷺ كان يمتلك جهازًا استخبارتيًا محكمًا وأنه حتمًا كان يرسل عيونه في مختلف الأنحاء لتحسُّس أخبار الأعراب
وفي غزوة بدر لما انتهى النبي ﷺ إلى موقع المعركة قام وعسكر عند أبعد بئر من آبار بدر حتى يمنع المشركين من الشرب فكان هذا تخطيطًا حربيًا ماهرًا أسهم في جلب النصر. وفي غزوة أحد لما اصطف المسلمون لقتال المشركين جعل النبي ﷺ ظهره جبل أحد وقام بوضع خمسين من الرماة على تل مشرف على المعركة وجعلهم على جانب الجيش حماية من التفاف جيش المشركين وكادت الخطة أن تنجح لولا أن ما فعله هؤلاء الرماة من عصيانهم لأمر النبي ﷺ واستعجالهم النزول مما أدى إلى الهزيمة
وفي غزوة حمراء الأسد التي أعقبت غزوة أحد صمَّم النبي ﷺ على إعادة جمع الجيش ولم شتاته رغم ما على أصحابه من جراحات. وخرج مسرعًا في إثر قريش رفضًا نتيجة الهزيمة فلمَّا علمت قريش بتتبع رسول الله ﷺ أمعنوا في الفرار وكانوا يفكِّرون في غزو المدينة ورغم أن تلك الغزوة لم تمح هزيمة أحد ولم يحدث بها قتال لكن كان لها دور كبير في غسل جانبٍ من الآثار السلبية ومشاعر الإحباط التي حلَّت بالمسلمين حينما رأوا قريش المنتصرة تفر من أمامهم
وفي غزوة الخندق أبدى النبي ﷺ مهارة عسكرية فذة حينما قام بحفر الخندق ليحمي المدينة آخذًا وهي خُطَّة لم تكن معروفة لدى عرب الجاهلية ولم يكتف النبي ﷺ بذلك بل لجأ إلى الخداع الحربي وإعمال الحيلة وإيقاع الخلاف بين خصومه إذ اتصل سرًّا ببعض حلفاء قريش من الأعراب وعرض عليهم ثلث ثمار المدينة مقابل أن ينصرفوا وكان قصد النبي ﷺ أن يوقع الشقاق ببين خصومه لولا أن أشار بعض الصحابة بعدم الفعل وأرادوا المقاومة فلجأ إلى حيلة أخرى حينما لجأ مستعينا بعيونه إلى إيقاع الخلاف بين قريش ويهود بني قريظة فكان كذلك وفشل الأحزاب وتراجعوا. وهو مشهد يدل بالفعل على أن موهبة النبي ﷺ في الحرب لم تقتصر على القتال فقط بل تشمل أحيانا أعمال الخطط والخداع الحربي واستعمال الحيل لإيقاع الخصوم بدلا من المواجهة المباشرة وحدها.
وفي الحديبية حينما قصد النبي ﷺ مكة من أجل العمرة حاولت قريش صدَّه وسيَّرت إليه خيلا بقيادة خالد بن الوليد لمواجهة النبي ﷺ وأراد خالد بن الوليد أن يباغت المسلمين في صلاتهم ولكن النبي ﷺ فطن إلى هذا فصلى صلاة الخوف وشدد الحراسة مفوِّتًا بذلك الفرصة على خالد مباغتة الجيش ثم التمس طريقا آخر إلى مكة حتى جاوز فرسان خالد فعاد خالد بن الوليد مع خيله دون أن يصيب من رسول الله ﷺ مأربًا وكانت تلك العبقرية الحربية سببا في إسلام خالد فيما يعد.
وفي فتح مكة استعمل النبي ﷺ عامل الرعب أو الإرهاب الحربي حيث أنه لما أسلم أبو سفيان أمر النبي ﷺ عمِّه العباس أن يذهب به إلى عالية في بطن الوادي حتى يشهد جيوش المسلمين ليلمس قوَّتها فيقع ذلك في نفسه. فلمَّا رأها أبو سفيان تلك الحشود الجرارة والأعداد الهائلة وقع في نفسه الرعب فذهب إلى مكة ونقل إليهم ما شاهده. وكان هذا تخطيطًا من النبي ﷺ حتى ينقل أبو سفيان ما شاهده ليقع الرعب في أهل مكة فتنهار معنويتهم فيسلمون بلا مقاومة وكان كذلك.
وفي غزوة حنين حينما كمنت له هوازن عند الوادي ووقع الجيش الإسلامي في الكمين المدبَّر له وبُوغت بالهجوم وأزمع معظم الجيش على الفرار نجد أن رسول الله ﷺ قد ثبت في الموقعة ثبات الأسد وتوجَّه ببغلته منفردًا في مواجهة العدو عكس طريق الفرار ولجأ النبي إلى عمه العباس فأمره بمناداة الناس وكان جهور الصوت فكان ثباته ﷺ كقائد للجيش وعدم فراراه وما أبدى من شجاعته من العوامل التي أدَّت إلى جمع شتات الجيش من جديد وإحراز النصر الكبير .
ولما حاصر النبي ﷺ الطائف وتمنَّعت عليه لمناعتها عمد إلى استعمال سلاح استراتيجي؛ هو (الرعب)؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أُعْطِيتُ خمسا، لم يُعْطَهُنَّ أحد من الأنبياء قبلي: نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر، وجُعِلَت لي الأرض مسجدا وطَهُورا، فأَيَّمَا رجل من أمتي أدركته الصلاة فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّت لي المغانم، ولم تحلَّ لأحد قبلي، وأُعْطِيتُ الشفاعة، وكان النبي يُبْعَثُ إلى قومه خاصة، وبُعِثتُ إلى الناس عامَة»[صحيح] – [متفق عليه]؛ أي أن الله – سبحانه تعالى – نصره، وأيده على أعدائه، بالرعب، الذي يحل بأعدائه، فيضعفهم ويفرق صفوفهم، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم على مسيرة شهر منهم، تأييداً من الله ونصراً لنبيه وخذلانا وهزيمة لأعداء دينه، ولا شك أنها إعانة كبيرة من الله تعالى؛ فلولا أن استغاث به أهل الطائف وسألوه الرحم فكف عنها وما لبث أن انسحب بالجيش من الحصار لما رأى من مناعتها ثم لجأ إلى وسيلة أخرى من أجل إخضاع الطائف حيث أسلمت عدة قبائل حولها فدفعهم النبي ﷺ إلى التضييق على الطائف حتى شعر أهلها بالاختناق والعزلة فأسلموا. وبهذا نجح النبي في إخضاعهم وحقق بالتدبير والتخطيط من غرضه ما لم يحقق أول الأمر بالمواجهة العسكرية ليثبت من جديد أن ليست كل الأهداق يمكن تحقيقها بالمواجهة العسكرية فحسب بل هناك ما يمكن تحقيقه بالحيل والتخطيط والمكر الحربي.
ولتلك الجوانب من عبقرية النبي ﷺ الحربية والسياسية حديث طويل لا تتسع له مقالة واحدة وهي كثيرة تمتلئ بهh كتب السير ,لا تخلو من الفائدة والعبرة.