الكاتب والصحفي عبد الستار البيضاني في حوار مع علي جبار عطية
عالم الثقافة | بغداد
على الكاتب أن يكتب نصه ويمضي
لا أجد تناقضاً بين الواقع والخيال في النص الروائي
وتفقد معانيها أيضاً لذلك انتعش السرد بجميع أنواعه
الكتابة بالنسبة لي قضية شخصية ووسيلة لجعل الحياة ممكنة
كتبت التحقيقات الصحفية بأسلوب سردي وظفت فيه فن القصة القصيرة
الشعر يزدهر في العصور الرومانسية أما حياتنا الآن فقد بدأت تفقد رومانسيتها
الفضيلة الكبرى للصحافة أنَّها جعلتني في خضم الحياة الثقافية والأدبية قراءةً وكتابةً ومعايشةً وعلاقاتٍ شخصيةً وسفراً
منذ أن عرفته منتصف تسعينيات القرن الماضي في القسم الثقافي لجريدة (العراق)وحتى آخر لقاء معه قبل نحو شهر لم يتخلَ الكاتب عبد الستار البيضاني عن بياضه ونبله وتواضعه ومبادئه حتى في أصعب المواقف فهو يدافع عن متبنياته مهما كان الثمن! تبهرني سلاسة جمله ووضوح أفكاره وصراحته!.. كان أول نهاره مخصصاً للعمل في مجلة (ألف باء)، وبعد الظهيرة يحل في جريدة (العراق) مما أتاح لي الفرصة أن ألتقيه في فترة الهدوء النسبي للعمل وجهاً لوجهٍ مع زميله في القسم الثقافي الكاتب والناقد والفنان التشكيلي عادل كامل (١٩٤٧ ـ ٢٠١٧) الذي كان مصراً على الدفاع بالفن والأدب عن الوجود الإنساني.
عبد الستار البيضاني وعادل كامل ثنائي فريد كنتُ محظوظاً بلقائهما كل أسبوع طوال السنوات العجاف بحكم عملي في جريدة (العراق).. حاورت البيضاني في خريف سنة ٢٠٠١ عندما كان الخريف خريفاً فيه لمسة برد، ونُشر حواري معه في صحيفة (العرب) اللندنية في يومٍ مثيرٍ شهد تفجير برجي التجارة العالميين في نيويورك ألا وهو يوم الثلاثاء الموافق ٢٠٠١/٩/١١م ! لكنَّ الحوار لم يتأثر بأجواء الهجوم،وكان له صداه عندي وعنده في الأقل!
بعد ثلاثة وعشرين عاماً ألتقيته في نهايات شهر نيسان/٢٠٢٤ بعد مسيرةٍ حافلةٍ بالإنجازات، وبعد أن خبر أسرار الصحافة، وخباياها من أدنى السلم إلى أعلاه، لكنَّه بقي مخلصاً للأدب فصار أنموذجاً لمن يجمع بين واقعية الصحفي وخيال الأديب فكانت أسئلة الحوار الجديد هذه قد وُلدت بعد الأصبوحة التي أقامتها دار الكتب والوثائق ببغداد يوم الاثنين الموافق ٢٠٢٤/٤/٢٩ بمحاضرةٍ للبيضاني عنوانها (من الحجر إلى اللوح الإلكتروني.. الكتاب كاتم أسرار الحياة)، وبضيافة المدير العام للدار المترجمة الأُستاذة إشراق عبد العادل.
ما إنْ بدأ البيضاني بالمحاضرة حتى استدرك العنوان وصححه بأنً الكتاب ليس كاتم أسرار الحياة بل هو حافظ أسرار الحياة عارضاً محنة الكاتب الأول قبل آلاف السنين الذي دون على الحجر فكيف له أن يستدرك الخطأ إذا أخطأ في المبنى أوالمعنى، وقد تحولت كلماته إلى حجر !
كان المدخل مغرياً للغاية وبعد المحاضرة توفر لي سبب آخر للحوار هو أنَّني لم تسنح لي فرصة سابقة للاحتفال معه وتهنئته بحصوله على جائزة الإبداع العراقي في دورتها السابعة لعام ٢٠٢٢عن روايته (دفوف رابعة العدوية) فكان استذكار هذا الحدث مناسبةً للحوار معه فضلاً عن أهميته كونه مدرجاً ضمن مشروع كتاب مُعد للطبع إنْ شاء الله عنوانه (وجوهٌ في ذاكرة الأرض /حوارات) .
تعالوا معنا نتعرف إلى الكاتب والصحفي عبد الستار البيضاني وجهاً لوجه في هذا الحوار الممتع..
متى عرفت بأنَّك كاتب؟
ـ ليس تواضعاً، إذا ما قلت حتى هذه اللحظة لم أعرف ولا أشعر بأنني (كاتب)، لسببٍ بسيطٍ، هو أنَّ الكتابة بالنسبة لي قضية شخصية ووسيلة لجعل الحياة ممكنة والانسجام معها، وقد يكون كل هذا نوعاً من الأوهام، لكنها الأوهام الجميلة ، ولم أفكر في يوم من الأيام أن أصبح كاتباً أو أبحث عن شهرة الكاتب ،لذلك تجدني قليل النشر، ولا أنشر كل ما أكتب.
ماذا أخذتْ منكَ الصحافة، وماذا أعطتك؟
– الصحافة هي مهنة ، ومن أهم المهن المجاورة للأدب ، وبهذا وفرت لي وسيلة عيش غير بعيدة عن الأدب، صحيح أنَّها تأخذ كثيراً من جرف الأدب من حيث الحضور والانتاج، لكنها أيضاً تضيف إليه، فضيلتها الكبرى أنَّها جعلتني في خضم الحياة الثقافية والأدبية قراءةً وكتابةً ومعايشةً وعلاقات شخصية وسفراً، وهذا كله صب في مصلحة الكتابة الأدبية، لقد أجبرتني وظيفة المحرر الأدبي في الصحافة على قراءة آلاف النصوص السردية والشعرية الموضوعة والمترجمة والمقالات النقدية في الأدب والسينما والمسرح والتشكيل ، قراءة بعين الفاحص المطلوب منه رأي لتقرير مصير النص ، وليس قراءة تلقي عابرة مثل قراءة الجريدة اليومية ، تخيل هذا معي وستدرك كم عملت الصحافة على تعزيز رصيدك الثقافي، ومسايرة تطورات وفعاليات الثقافة العالمية بشكل يومي ، وهنا يجب أن لا تنسى أنك صانع نص وليس متابعاً فقط ، وهذا كله يستغرقك ولا يترك وقتاً مناسباً للكتابة التي تحتاج إلى التأمل والتفرغ .
أنتَ من كتاب التحقيق المهمين، ولك تحقيقات متميزة عن مدن العراق فأينَ تجد قوتك، ولماذا غاب فرسان التحقيقات الاستقصائية في السنوات الأخيرة؟
ـ كتبتُ نحو ٥٥ تحقيقاً عن المدن العراقية حظيت باهتمام القراء والمعنيين ، وكان هذا ضمن مشروع خاص بي استثمرت وجودي في مجلة (ألف باء) لتنفيذه ،مع أنَّ فكرة كتابة تحقيقات عن المدن هي فكرة زميلنا الراحل سمير علي، وهو (توثيق المدينة العراقية نهاية القرن العشرين) بالصورة القلمية، حيث أنَّي نقلت صورة المشاهد البصرية للمدينة وأسرار عيشها من دون الاعتماد على أي مصدر تاريخي ـ عكس الكتابات الصحفية عن المدن التي تعتمد الوثائق التاريخية ، وقد كتبتها بأسلوب سردي وظفت فيه فن القصة القصيرة، واقترح عليَّ الكثير من الأساتذة في تسعينيات القرن الماضي جمعها في كتاب وطبعها في الخارج لأنَّها ستثير حنين الكثير من العراقيين الذين غادروا بلدهم تحت وطأة الحصار ، وقد اقتنعت بهذه الفكرة التي طرحتها علي الأستاذة أمل الشرقي في عمان، والشاعر الدكتور علي جعفر العلاق ، لكن للأسف بعض المحررين دخلوا على المشروع وأفسدوه وحولوه إلى مجرد تحقيقات عادية .
أنا مثلك يا صديقي أتساءل: أين هم كتاب التحقيقات؟ لماذا لم تفرز لنا سنوات ما بعد ٢٠٠٣ كتاب تحقيقات بارزين ؟!..
أعتقد أنَّ إجابة هذا السؤال تتضمن الكثير من الملاحظات التي جميعها تشير إلى خواء المشهد الصحفي، وشخصياً حاولت تشجيع كتابة التحقيقات في المؤسسات الصحفية التي أدرتها وكانت الصعوبة حتى في إيجاد محرر (ديسك تحقيقات)، وهذا مؤشر يثير القلق على مستقبل هذا الفن الصحفي المهم.
أين تضعُ نفسك بين كتاب جيل الثمانينيات:(ثامر معيوف ووارد بدر السالم وحميد المختار، وغيرهم) ولماذا توقف تصنيف (التجييل)؟
ـ الآخرون فقط يستطيعون وضعي في المكان الذي يعتقدون أنَّه مناسب لي، وهذا لا يعنيني أبداً لأنَّني أعتقد أنَّ على الكاتب أن يكتب نصه ويمضي . وبخصوص التجيي ، مع أنَّي أعتقد أنَّه فكرة تبناها (الستينيون) لتمييز أنفسهم عن جيل الرواد في القصة والشعر الذين وضعوا بصمات فنية واضحة جعلته يفارق ما قبله من نتاج ، ومع ذلك فأنا أعده ظاهرة صحية سواء كان حقيقةً أو وهماً ، لأنَّه يعبر عن بحث الأدباء عن التميز وتقديم الجديد ، كما أنَّه ساهم بإثراء حياتنا الثقافية بالجدل والاتفاق والاختلاف برغم قلة النتاج الإبداعي قياساً للحاضر ، الذي يشهد تدفقاً هائلاً للمطبوعات في القصة والرواية والشعر ، وندوات وفعاليات في منتديات ومنظمات أدبية وفنية تقدم لك أسبوعياً ندوات واحتفاءات بالنتاج الجديد، وهذا شيء جيد ، لكنه لم ينعكس على حيوية الحياة الثقافية مثلما كانت تفعلها البيانات ومقالات الجدل والاختلاف.
كتبتَ قصة وسيناريو وحوار الفلم الروائي العراقي الطويل (سر القوارير) فهل توصلت إلى سر القوارير؟
ـ بالرغم من أنَّني كتبتُ عدة أفلام تلفزيونية لقنوات عربية وعالمية ، إلا أنَّ فلم ( سر القوارير ) هو تجربتي الأولى في السينما الروائية ، كتبت له القصة والسيناريو والحوار ، أي أنَّ قصته خاصة للفلم، ولم تكن مأخوذةً من أعمالي المطبوعة ، وخططت له بعنايةٍ كبيرةٍ حيث يسير بخطين : الأول أحداث الفلم التي تبحث في سر قوة المرأة التي يمكن أن تقود المجتمع بحكمتها ، حكمة المرأة قوة لا تدانيها قوة أخرى ، لكن للأسف الذي خرجت به من هذه التجربة ، من الصعوبة أن تنشأ في بلادنا صناعة سينما، ليس لغياب الطاقات الفنية فقط وإنّما لفقدان الجدية والخلاص، لذلك أعلنت عن براءتي من الفلم أثناء التصوير ، ولا أريد أن أتحدث بالتفاصيل المؤلمة..
تُرجمت مجموعتك القصصية (مآتم تنكرية) إلى اللغة الإسبانية فهلا حدثتَ القارىء عن هذه التجربة؟
ـ لم يكن لديَّ علم بأنَّ المجموعة قد تُرجمت أو ستترجم الى اللغة الإسبانية ، وفوجئت بخبر ترجمتها في الصحف، وقد راسلت الصديق المبدع عبد الهادي سعدون الذي بعث لي نسخةً من الترجمة وشرح لي تفاصيلها والمساعدة التي قدمها للمترجم المستشرق الإسباني (أنياكي غوثيريت تيران) وصدرت عن دار نشر (هيرو) الإسبانية، ضمن سلسلة (فكثيون) التي تضمنت ترجمات لمجموعة من الروائيين العالميين، منهم ماركيز وجاك لندن، ومن العراق صدرت ضمنها رواية (كراسة كانون) للقاص محمد خضير، ومجموعتي القصصية (مآتم تنكرية)، وهي المجموعة القصصية الوحيدة في السلسلة وبقية الأعمال جميعها روايات، أما كيف وصلت إلى إسبانيا ،فقد كان ذلك قبل العام ٢٠٠٣ عندما أهدت الصديقة المترجمة إشراق عبدالعادل العبادي نسخةً من المجموعة إلى شخصية إسبانية مهتمة بالأدب العراقي كانت قد زارت العراق، ورافقتها السيدة إشراق كمترجمة ، وطلبت أن تزودها بعدد من الروايات العراقية ، وفعلاً تم لها هذا كما قابلت عدداً من الروائيين، لكني لم أقابلها لأنَّها كانت تطلب روائيين وليس قصاصين ، وحدثت بعدها مراسلات بيني وبين المترجم وصاحبة دار النشر من أجل الحصول على حقوق ، لكن دون جدوى.
ماذا يعني لك نيلك جائزة الإبداع العراقي في دورتها السابعة لعام ٢٠٢٣عن رواية (دفوف رابعة العدوية) وهل لك رواية أخرى تستحق الجائزة ، وهل شعرت بمسؤولية بعد الجائزة؟
ـ شيء جميل أن تكون هناك مسابقات وجوائز تساعد على شيوع مناخ ثقافي صحي سيكون له تأثير على الحركة الأدبية ، إذا ما تم ترصين اللجان والمؤسسات القائمة عليها ، لكنَّ الجائزة ليست هي المعيار الأهم لنجاح العمل ، والعمل الفائز ليس بالضرورة هو أفضل الأعمال ، وشخصياً لا أميل للمشاركة في الجوائز والمسابقات ، وهذه هي المرة الأولى في حياتي أقدم إلى الجائزة بعد أن تعرضت للإحراج من أحد الأصدقاء الذي أراد أن يشترك بروايتي ( لن يأتي الصباح هذه الليلة ) فسبقته وقدمت (دفوف رابعة العدوية ) التي فازت …بالتأكيد الفوز يعني مسؤولية إضافية ، كذلك الاهتمام الكبير الذي قوبلت به الرواية حملني مسؤولية ، لذلك أحجمت عن طبع رواية كتبتها سابقاً ، وأنجزت كتابتها النهائية لكني ترددت في طبعها كي لا أخذل من مدح ( دفوف رابعة العدوية ).
كيف تصف تجربتك مع كتابة السيناريو وهل تعدها ناجحة؟
ـ وصف هذه التجربة ليس من مهماتي ، لكن تعامل عدد من خيرة المخرجين مع نصوصي يؤكد أنَّها كانت ناجحة خاصة وأنَّ أغلبها أُنتجت من قبل شركات قطاع خاص لا تجامل ، فهي في منافسة مع القنوات والشركات الأخرى، وبعض السيناريوهات نشرت في مجلات مختصة كنصوص أدبية.
ما رأيك في تكليف بعض الأدباء بإعداد برامج تلفزيونية وهل يسهم ذلك إيجابياً في تحريك الواقع الثقافي؟
-هذا يخضع لاختيار المادة وطريقة إعدادها واختيار الموضوعات والضيوف، وقوة حضور وكاريزما المقدم ، التلفزيون عالم كبير مليء بالأسرار ، وسيكون شيءٌ جميلٌ لو نجح أديب في إعداد أو تقديم برنامج، لكن مشكلة البرامج الثقافية التي لاحظتها في برامج ما بعد ٢٠٠٣ أنَّ الأديب المكلف يفرض موقفه الشخصي من الأدباء الآخرين من دون أن يدرك أنَّ التلفزيون وسيلة إعلامية تخص ملايين المشاهدين لا تخصه هو وحده ، لذلك لم يلفت انتباهي أي برنامج ثقافي في التلفزيون، أستثني من ذلك البرنامج الثقافي الذي كانت تقدمه قناة الحرة عراق في سنواته الأولى.
لديك تجربة مع الفنان فيصل الياسري في برنامج وثائقي لحساب قناة الجزيرة عن عيد السنة الميلادية فلماذا لم تتكرر التجربة؟
ـ تجربتي الأهم مع المخرج فيصل الياسري في البرامج هو إعدادي وكتابتي الحلقة الريادية من برنامج ( عالمها)
لقناة ART مدة البرنامج ساعتان كتبت منه عدة حلقات أخرجها عدة مخرجين ، أما بالنسبة لقناة الجزيرة ، فأعتقد أنَّ حضرتك تقصد الفلم الوثائقي ( عيد أكيتو) الذي يتحدث عن أول احتفال بعيد رأس السنة في العالم ، وهو أكيتو في مدينة أور أخرجه الدكتور علي حنون ، وكان من أصعب الأفلام بالنسبة لي لشحة المعادل الموضوعي، لذلك ادخلت فيه مشاهد تمثيلية والحمد لله نجح الفلم وعُرض في قناة الجزيرة.
مر السرد بتطورات عديدة فكيف ترى مستقبل القصص والروايات الواقعية ومدى صمودها تجاه المدارس التي تدعو إلى الاستغراق في الخيال؟
ـ وجهة نظري الخاصة ، أنَّ كل الأدب واقعي حتى وإنْ اختلفت أشكاله ومضامينه، إذا ما تجاوزنا المقصود بالواقعية ، هو استنساخ الواقع بشخصياته ومكانه وبيئته ..وهذا ليس الشرط الوحيد لتحقق (الواقعية) في النص، حتى في بعض مفاهيم الواقعية لاتشترط استنساخ الواقع بقدر ما تبحث عن توفر (الصدق الفني) في النص.
الموجات والاتجاهات الفنية التي حاولت تحطيم الواقع وحتى الشكل الفني للرواية،والاستعانة بالخيال هي في حقيقتها انعكاس للواقع وإرهاصاته، وستدرك هذا جيداً عندما تبحث عن العوامل التي أنتجت هذا الأدب وهي عوامل واقعية ونفسية، ومثال على ذلك (السوريالية) التي كانت نتيجة لواقع جديد خلقته الحرب العالمية الأولى ومخلفاتها التي جعلت الإنسان لا يؤمن بالحياة ، هذا الفهم للواقعية تؤكده إجابة الروائي الفرنسي آلن روب غرييه على سؤالي له، وغرييه أحد رواد ( الموجة الجديدة ) التي أثرت في الرواية الفرنسية والعالمية، حيث سألته : (لماذا لجأت الى هذه الأشكال الفنية المعقدة في الرواية، هل هو تمرد على الروائيين الواقعيين مثل ستندال وبلزاك؟)، فأجابني : ( بالعكس هو وفاء لهما، لأنني أعتقد أنَّ ستندال وبلزاك اللذين قدما لنا أروع النماذج للرواية لو عاشا إلى الستينيات لكتبا الرواية كما كتبتها أنا لأنَّني، كتبت بهذا الشكل وفاءً لهما..لأنَّ الرواية تتطور وأنا أكملت ما بدآه)…هذا من جانب، من جانب آخر ، أنا لا أجد تناقضاً بين الواقع والخيال في النص الروائي ، ليس فقط في ما ذهب إليه ماركيز وأطلق عليه ( الواقعية السحرية) ، بل من تجربة شخصية، الواقع والخيال يحتاج كل منهما الآخر لاستكمال مستلزمات الشكل الفني وتوفير عناصر الإبداع .
يقال : إنَّ فن القصة له جذور عربية قديمة وهناك من يرى أنَّه فن غربي وافد مئة بالمئة فما رأيك؟
ـ أعتقد أنَّ هذه الأفكار سيقت بدوافع آيديولوجية، لأنَّ القصة هي فن قائم بذاته له مواصفاته الفنية واشتراطات كتاباته، وليس حكاية أو (حدوتة) فقط، وأعتقد أنَّ جميع الشعوب لها حكايات وأساطير خرافية ودينية ، ويمكن لأي شعب من هذه الشعوب يدعي أن تراثه المثيولوجي والحكائي هو أصل القصة، لأنَّ الحكاية ليست هي العنصر الوحيد في القصة، لذلك هي فن وافد فعلاً، فن وظف واستفاد من التاريخ وحكاياته على نطاق عالمي، كما فعل الكتاب العالميون الذين وظفوا التراث العربي والشرقي عموما ، مثل الأرجنتيني بورخيس في نصوصه (ابن رشد) و(مكتبة بابل)، أو الاستفادة من حكايات ألف ليلة وليلة.
يجري الترويج لفكرة أنَّ الرواية ستكون هي ديوان العرب بديلاً عن الشعر فماذا ترى؟
ـ هذه فكرة ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي التي تقول :(إنَّ العصر هو عصر الرواية)، وفي الوقت نفسه ظهرت فكرة مناقضة لها هي (أنَّ العصر هو عصر السرعة ولن يجد الإنسان متسع من الوقت لقراءة رواية) لذلك اعتقد المروجون لهذه الفكرة أنَّ العصر سيكون هو عصر (القصة القصيرة جداً )..لكن أن يكون العصر هو عصر الرواية هذه حقيقة يؤكدها الواقع ، لاحظ عدد الروايات الصادرة يومياً في البلاد العربية والعالم.. لاحظ أيضاً عدد الجوائز المخصصة للرواية وقارنها بالجوائز المخصصة للشعر، أعتقد أنَّ الشعر يزدهر في العصور الرومانسية ، أما حياتنا الآن فقد بدأت تفقد رومانسيتها ، وتفقد معانيها أيضاً، لذلك انتعش السرد بجميع أنواعه، حتى مصطلحات فنون السرد بدأت تنسحب على الأجناس والحقول الثقافية الأخرى، كلمة (سرديات) صارت تُطلق على السياسة والتاريخ والاجتماع وطرائق تفكير الإنسان ، وكذلك الأمر بالنسبة للقصة صرنا نسمع (قصة خبرية ) على الأخبار والتقارير.
طرح بعض الشعراء أنفسهم كتاب رواية فما مدى نجاحهم بذلك؟
-كتابة الرواية صارت ممارسة شائعة ، يكتبها الشعراء والنقاد والصحفيون والباحثون مثلما كان الجميع يحاول كتابة الشعر قبل عقود، وهذا دليل آخر على أنَّ العصر هو عصر الرواية، وهي ليست حكراً على أحد ، وكما يقال
( البقال يُعرف من بضاعته)، وليس هناك حكم مطلق على الجميع منهم مَنْ توفق ومنهم مَنْ وقع في حبائل استعراض المعلومات والثقافة ، فتحولت الرواية إلى نوع البحوث ، وهناك من وظف لغته الشعرية في صياغة حكاياته وقدم شيئاً مقبولاً ،وهذا الحال أيضاً ينطبق على الروائيين أنفسهم. وفي جميع الأحوال التاريخ القريب يقول لنا الشاعر يبقى شاعراً والروائي بصرف النظر عن جودة وأهمية نتاجه الثانوي ، أقصد الرواية بالنسبة للشاعر والشعر بالنسبة للروائي.
هل استفاد كتاب القصة في العراق من مناخ الحرية النسبية في طرح ما كان مسكوتاً عنه؟
ـ إذا كان قصد سؤالك هو المقارنة بين ماقبل ٢٠٠٣ وما بعدها بخصوص الحرية المتاحة فهذه قضية نسبية ، حصلنا على نوع من الحرية وفقدنا نوعاً آخر ، وأرجو أن لا أكون متطرفاً إذا ما فلت إنَّ غياب الحرية في السابق شكل نوعاً من التحدي في شحذ الأدوات والقابليات الفنية في طريقة الكتابة وبناء الشخصيات والترميز والأقنعة من أجل تمرير فكرة أو إدانة من دون أن يمسكك الرقيب بها، لذلك كان المستوى الفني للقصص أعلى مما هو عليه الآن ، خاصة وأنَّه كان أمامك رقيب واحد تعرفه وتعرف طريقة تفكيره وأهدافه ، أما الآن فأنك لا تعرف مَنْ هو الرقيب ، ومَنْ هو الذي يحاصر حريتك ويمكن أن يسفك دمك؟ ، وعلى العموم ، أنا بدأت أشمُ رائحة دكتاتورية بدأت تنمو الآن تحت بريق الحرية وستجتاح البلاد قريباً …وأرجو أن أكون مخطئاً !
******
عبد الستار البيضاني.. سيرة حافلة بالإنجازات
*من مواليد بغداد عام ١٩٥٨
*حاصل على بكالوريوس الإعلام من جامعة بغداد.
* بدأ الكتابة والنشر عام ١٩٧٧حيث صدرت له مجموعة مشتركة بعنوان (أصوات عالية) ١٩٨٣
* أصدر عدة مجموعات قصصية منها
(قلعة النساء) /١٩٩٠، و(الثنائيات) ١٩٩٣/ و(مآتم تنكرية) ٢٠٠٠ و(تحت خط الحب)/ ٢٠١١، ومن الروايات (عطش على ضفاف الدانوب) /٢٠٠١ و(لجوء عاطفي)/ ٢٠٠٤ و(لن يأتي الصباح هذه الليلة)/ ٢٠٢٢، وله كذلك (الزاوية والمنظورـ حوارات في القصة)/ ٢٠٠٢ و(المسلات) نصوص سردية ٢٠١٦.
*عمل في عددٍ من الصحف منها :
مجلة ألف باء (١٩٨٦ ــ ٢٠٠٣ ) محرراً و رئيس محرريين ورئيساً للقسم الثقافي فضلاً عن كتابة مئات التحقيقات و المقالات الصحفية منها كتابة تحقيقات عن (٥٥) مدينة عراقية، وهو من مؤسسي عدد من الصحف والوكالات منها جريدة (الصباح)/٢٠٠٣ وجريدة (الصباح الجديد)/٢٠٠٤، ووكالة أنباء
( أصوات العراق) المستقلة/٢٠٠٥.
*عمل رئيس تحرير و مسؤول الأخبار في قناة الحرية الفضائية /٢٠٠٨ .
*عمل محللاً سياسياً و إخبارياً للقسم العربي في الإذاعة السويدية .
* رأس تحرير سلسلة (سرد) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة.
*رأس تحرير عدد من الصحف والمجلات منها مجلة ( الأقلام )،
و( الشبكة العراقية) وجريدة (الصباح) و(مجلتي ) و (المزمار)،
*كتب قصة و سيناريو الفيلم الروائي السينمائي (سر القوارير) الذي أنتجته وزارة الثقافة في العام ٢٠١٣ .
*كتب عدة أفلام وبرامج وتقارير تلفزيونية لعدة قنوات تلفزيونية منها تلفزيون العراق ،وأبوظبي ،وقطر،والجزيرة، والـ (أي. آر. تي) من خلال شركة الديار للإنتاج التلفزيوني للفترة ١٩٩٩ -٢٠٠٢.
*فازت روايته (دفوف رابعة العدوية) بجائزة الإبداع العراقي في دورتها السابعة لسنة ٢٠٢٢.