قراءة نقدية في قصة (إلهام) لـ(هدى حجاجي)
حميد العنبر الخويلدي | العراق
الاستجلاء والاستدعاء في نمطيات القصصي
القص فن جميل وعذب يشد النفوس، ويأخذ بها للبهجة والسعادة أو للاتعاظ والاستفادة من تجارب كتبها قلم الواقع والحياة بأحاسيس أبطالها وخليقتها المعنوية.. كذلك تُعتَمَدُ علما خاصا ناعما نافعا رشيقا. له أسلوبيةٌ اعتباريةٌ مترابطة مع الأشياء وفيها ..محفوظة في اللّدني ريثما يأتِ القاص المبدع وعلى قدر أهلياته العبقرية أو الوسطية.. ليكشف عنها أو يهتك حجب الغياب والامحاء ، ليسجل لها مشهدَ حضور باهر محدث..
فقصة يوسف بكل معانيها واعتباراتها الجمالية كانت في نظام حصر الأثر وتقانات الإخفاء مستترة وراء عَدَمٍ ضيّقٍ لايعرفها غير مَن خَبَرَها ومثّلها ونال نبأها..
حتى جاءت السنون وألسن الحق والعبرة اليقينية لتقدم هذا العالم الجميل في تماسّاته وتضامّه وتضايفه على بعضه صوراً وافرادأً ومؤدّيات..تقدّمُهُ على هيئة حداثات مستدامة باعثة للطاقة تدخل بكل التفاصيل صغيرها وكبيرها..ومَن منا لم تلاقيه ولو نبذةٌ جزئيةٌ من تخاطر القص اليوسفي..سواء كان الإيجاب المعتدل أو العبثي . وكل هذا حكم ضرورات وجود، اُعلِن بساعة صفر خاصة أن يتحرك اليوسفيون ويفعلون لوحتهم التاريخية ذات الصبغ الكونية وأن تخرج للوقت كما أخرجها القرآن الحكيم.
عن سد نقص حصل بالحياة. وإسداء عَوَض وحاجة؛ فالكون له عقلٌ وله مهاميز تبصّرٍ وبصيرةٍ. كثيرٌ من مشاهدٍ خرّجتها الطبيعةُ وفعلتها .. وجاء المبدع جمعها ولَمَّها لِمَمَاً فصارت وجودا يُحسَبُ له حسابه في النوعي وفي الجمالي إلى الآن.
(إلهام)… قصة مثّلت نفسَها من دون دراية اندفع بها بحركة بسيطة لأفراد ماكانوا كثارا أبدا إنما هو البطل وخيالاته وترميز ما له علاقة بالموضوع الواقعي عنده.. حينها كملت وتبلورت نضجت أصبحت قوةً مُخزّنةً في جسديات الوقت. وما أكثر المعاني والعلوم المحشودة في إباط وجيوب الحياة تنتظر من يكشف عنها حجبها حتى الآن .. فجاء الوقتُ وتحركت لحظاتٌ وقسماتُ ممكنٍ .. والغيب راصد عجيب نحن نؤمن أنَّ وراء الممكن المثالَ الجماليَّ المحبّبَ غائصٌ فينا وغائصون فيه..يُشعرُنا ونستشعر من خلاله. إنَّ أمرا تمَّ ، إنّ امرا في الصيرورة انغرست بذرته في وجه القمر أو في عسل تينة أو برتقالة..أين كنا قبل إن صرنا وتصيّرنا مؤكد هذا ناموس فعل وإجراء نظم في وحدة الحق والخلق.
بطل إلهام الإساسي في تشخيصنا وقبل كل بطل؛ وفي أي قصة قصيرةً وطويلةً كانت روايةً حتى الشعر والمسرح هو الفنان الذي هتك الستارة وفات دخل هناك اصطف في شهودية خالية من الصلب والمادي في الكتلة.
نعم تُهدَم الكتلُ ويتقابل هناك الجمال مع الجمال متعارفا متآلفا صورا ليس كصورنا المجسمة بعضه لبعضه فيزدهر المكان به. وبالأحرى هو ليس المكان المربع أو المثلث أو المخروطي..هو مكان ليس له من وصف وعبارة وحدود.
تتكاشف الشيئيات فيه بالحب وبالمؤانسة والخلق بالتكليف حسب الوظيفة والمشترك لإتمام صورة المنجز النصي.. منها أعني الرموزات، مَن يدخل كله في النص ويخلد فيعتبر النص آخرةً سعيدةً له.. حكمت عليه الحال أن يغادر مُكثَه واستقطانهُ إلى مُكثٍ جديد وهو متبنى النتاج الفني…
ياقامة الرشأ المهفهف ميلي
لضماي منك بموضوع التقبيل
هنا الاستدعاء والاستجلاء للرمز أحدثه المبدعُ لصنع البهاء بحداثة يراها رصدا …تمثّلت وبمغادرة حتمية للمكان..رشأٌ جميلٌ غادةٌ أُختُزِل منها سناءُ محاسنها.. قامتُها بصفة الهفهفة وبحركة ميلان الغنج وتعين عطشه هو الخاص به.. إلا أن تطفئه قبلة أو فمها بجماله… مبدع إلهام هو القاص أولا وكل قاصٍّ ذو فضل على الحياة..هاتك للسُّتُر مظهر للعُجُب.. والبيّنات المعرفية والعرفانية..إثراءً وعرضا..
( البحر يهدر أمامه يذهب هديره بصخب المصطافين داخل المياه وعلى الشاطيء تلتقي أمواجه وتتدافع زبدا أبيض ينسكب عند قدميه..تجتمع بقاياه وتعود يائسة..)
توصيف واستجلاء الممكن الفني من قبل النّاصِّ.. لصنع نقطة بدايته المعهودة للشروع.. لولا تلميح أظهره في جملة… (زبدا أبيض ينسكب عند قدميه..) هذا استجلاء للرمز في خط ومسطرة النص.. كان القاص دقيقا ينقل الصورة حد ارتعاشاتها معها ويجعلك المعايش لمناخ تلك المعاني..فرضا وطوعا.. وفي جملة أخرى… ( وفي فترة ليست بقصيرة وهو. يتخذ لنفسه هذا المكان القصي والهاديء نوعا ما… وحيد في هذا العالم وغريب معدم الأصدقاء الأوفياء فيما عدا قلمه وأوراقه…ويرسل بصره إلى أفق غائم ممتد بلا نهاية..)
هنا الراوي للقصة ركّزَ بكثافة رؤى عالية لخدمة غرضه وهو في أنماط حثاثة الفعل ليرفع من طور المقدمة القصصية؛ ولكن بناموس مبتكر نصطلحُ عليه بالاستجلاء يرادفه الاستدعاء التمثُّلي.
الاستجلاء من الجَلوَة أي نقلة الساكن إلى المتحرك النوعي. وهنا بداية الهتك الجدلي أو كشف السُّتُر للمعاني. فمن مكان رقادتها إلى مكان وفادتها..والوفادة استداعية الوظيفة المخبَّئة لتأخذ طاقة البطل حيّزها وزحزحاتها في الوجود.. طاقته إنه متغرب متوحد مع أناه حد المصافحة مع ما يراه ومعتقدُهُ غايتَه الناجحة.. طاقته أنه واع وذو قلم وأوراق وفكرة.. وهنا وقفة استدراكيه. من أنَّ بطلنا إما يقيني أو عبثي؛ فكان جامعا للسلوكين عبثيا في عزلته ونظرته ومشتهاه..
ويقينيا لمضمون ما يستطرد من أفكار وعلى مستوى خيالات أبيه وأمه الراحلين استذكارا وحنينا؛ واستذكار تلك التي تطل عليه من كوة بالسماء عندها تصفى روحه وتستجم مشاعره إذ يرى حلمه وآمال ماينوي..
ولو استدرجنا نسغ الكيفية وتماهي تنامي الفعل لوجدنا أن الصراع حدث في الذاكرة الذاتية للبطل وعلى هيئة تهاوييم مترابطة مع المحيط حوله في الخارج ومع تجليات الفكرة والنظرة في التبصر.
تراه ينفعل لا إراديا تراه يبرد كالحجارة ويشرد إلى ما شردت ذهنه وعيناه.. وعلى هذا وذاك ناور كل ضبابيات الموقف وحاور بالجدل حتى الطوباوي هموم عشقه المحسوسة والمتلاشية.. يحييها ويمحوها.. (وأقصى ما يحيره عند محاولة إعادة تركيب الصور فأخذ ملمحها الصحيح عدم قدرته على إدانتها إدانة كاملة يلتفت حوله ويظل يحدق في الوجوه اللامعة..يتطلع إلى العمارات السامقة.)….إلى نهاية مشهد التعبير الخيالي في الموضوع المبرم من قبله باعتباره الخامة المنصوصة في روح البطل..من جانب…ومن جانب آخر هو المبرم المقابل في روح الراوي المثير لكشف المعنى الناجز تحت غبار الوقت..
القصُّ منجزٌ سلفا والقاص يكشف بادواته عن الفحوى والمعنى لاحقا.. ورويدا يبدأ هدوءٌ انسراحيٌّ يطرح نفسَه.. بلورةً وتراكما حتى تتضح تقانةٌ اشبه بالمستريحة وأشبه بالدليل على أن الخلقَ النصي مسكَ أرادته وأخذ يدفع بإرادته الحداثية وهو في لحظة تصيّر كثيفة لازالت..
فلعل النص أي نص من قوة إرادة العناصر. تحويليا مَشَجيّاً إلى قوة إرادة نفسه.. وهذا لو سألنا متى…؟ نقول إنه تعالق الصورة التصعيدي في خط ذروتها العالي..هنا يصبح المخلوق تامّا وفعله كان استحوذ صورته وانفك عن غيره.. (طيور النورس تحلق فوقه في أسراب كثيرة تقودها المقدمة في خط مستقيم كانت تتحرك ..ثم تعرج مسارها ومضت تخترق كتلا من السحب متفرقة… حط النورس فوق صخرة قريبة إليه ظل يتابعه بناظريه بينما يدور برقبته يمنة ويسرة بدا له قلقا ومضطربا وهو يتحرك في المساحة الصخرية المنعزلة كعادة النوارس لاتستكين في مكان.. يعرف إنه سيبقى لبرهة ثم يطير مبتعدا .. وأطلق النورس صيحة عالية وانطلق نحو السماء منظما لرفاقه..) هنا حدث تخاطر نفساني استذكاري ربط به البطل استجلاء ماكان يصغي في حاله العميق ولتفاعل إحساسه ومن كان معه آنذاك. فلتكن هي نفسها /إلهام/ يصعد هو أولا ثم يمد يده ويجذبها يفيض وجهها بشرا وهي تتامل الأفق الناصع…ينشغل عنها إلى حيث… قارب ومجداف..على الرمل قربه.. حتى تمازجا واستاثرا مناخا كانا عاشاه وقطعاه زمانا ومكانا.. وكالمستذكر الفطن مباشرة وعن قريب بدأت القصة بأسلوبيتها تنفض وتكشف عن خاتمة وعظية نصحية محببة…وإلى نهاية المشهد حيث العرض الإنساني العاطفي بين محبين.