“بُكرا شي نهار” لياسمين حنّاوي.. رواية الحبّ في زمن الحرب (3 – 4)

أ.د. يوسف حطّيني | أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

 سادساً ـ شخصيّات خارج المدار.

تضيء ياسمين الحناوي شخصيات روايتها (بكرا شي نهار ـ أغنية مؤجلة)، من خلال تسميتها، ووصف ملامحها، ومواقفها، وأفعالها، وردود أفعالها، وتستثمر جميع الأساليب الممكنة في بنائها، غير أنها تقع في مشكلتين بنائيتين: تتعلق الأولى بعدم تمايز أسماء الشخصيات، وأما الثانية فتتعلق بمتابعة عدد من الشخصيات إلى لحظتها الأخيرة، على الرغم من كونها شخصيات ثانوية، وللتوضيح فإننا نشير إلى تقارب أسماء الشخصيات إلى حد مربك، فهناك سامي الذي يقترب من سالم في حروفه، وهناك رامي الذي يشبه سامي على المستوى الصرفي، وكلاهما منقوص، وهناك أيضاً زياد وإياد، إضافة إلى أنّ الأسماء نفسها غير فارقة، ولا تحمل أي رصيد دلالي، وهي تبلغ من الكثرة والشيوع حداً يحرمها من الاستقرار في الذهن (سارة وسلمى وأميرة). فإذا وجدنا تسويغاً لاسم معين نجد ذلك التسويغ مرتبطاً بشخصية اسمٍ آخر، لا بدلالته اللفظية، خلافاً لما نجد في أعمال الكتاب الكبار الذين يجعلون التسمية عتبة أولى من عتبات التشخيص الدلالي، على نحو ما نجد في تسويغ اسم زياد: “لقد اختار له والده هذا الاسم قبل قدومه إلى الدنيا بستة عشر عاماً، أي تحديداً في عام 1973 تيمناً بالمبدع زياد الرحباني”، ص114.

ولعلّ أفضل إفادة من التسمية جاءت، لا عن طريق اسم شخصية، بل اسم مدينة؛ إذ أفادت الروائية من تتبع الرصيد التاريخي لاسم اللاذقية، التي كانت تسمى، حسبما يشير سياق حواري، راميتا وأوغاريت وشمرا، ولاليش وجوليا. وهذا ما يقود السرد إلى المزج بين جوليا/ المدينة المقاوِمة، وجوليا/ المغنّية المقاوِمة في سياق واحد: “أي أننا ندافع اليوم عن جوليا، ونحفظها، ونرعاها ونصونها من غدر الزمان”، ص138.

وإذا كان اسم أميرة/ والدة السارد يخلو من رصيد الدلالة اللفظية؛ إذ إنها تقوم بما لا تقوم به الأميرات من أشغال البيت، فإنّ هذا الاسم شكّل حافزاً من حوافز الخوف؛ فثمة هلع هاجع في النفوس، من خبر منتظر، يتعلّق بوالد سامي المريض بالسرطان، وثمة اتصال متوقّع من أميرة قد يفجّر الحزن والدموع: “أصبح اسمكِ على موبايلي في الآونة الأخيرة مثيراً للهلع، ومرتبطاً بالأخبار غير السارة، فإما حالة وفاة أو حادث ما”، ص53.

أمّا المشكلة الثانية التي أشرنا إليها فتكمن في الإسهاب في متابعة شخصيات غير مؤهلة لتقوم بدور مهم في توجيه الحكاية، ونشير هنا بشكل خاص إلى والدة سالم، ووالده، إذ يتابع السرد تطور حياتهما ومشاكلهما، دون ضرورة بنائية، إلى أن تتوفى الوالدة على سرير المرض، ويتوفى الوالد الذي يحتل سريرها بعد وفاتها منتحراً، “معتقداً بأن موته هو حل للمشكلات المادية والنفسية والاجتماعية التي يعاني منها”، ص147. كما نشير إلى حسين (والد زينب وسلمى) الذي فصّل فيه السرد، بما يجدر بشخصية رئيسية، وأضاء ملامحه الجسدية والنفسية، واسترجع ماضيه، مشيراً إلى جشعه، وبخله على أهل بيته، ووحشيته في التعامل مع زوجته، وتابع حاضره، وصولاً إلى وفاته مقتولاً بسبع رصاصات؛ فهو يحرم ابنتيه من ظله، فلا تستمتعان بالطفولة: “حكموا عليك بالمجيء إلى هذه الدنيا القبيحة، بكل ما تعنيه الكلمات من معنى ليحرموك من أبسط حقوقك في ارتداء كنزة جديدة، او الاستماع إلى أغنية لطيفة أو تناول لقمة هنية”، ص62، ويعرّضهما لمختلف أشكال الإهانة والإذلال: “هل تعلم معنى أن تظل واقفاً على قدميك أربع ساعات متواصلة ووجهك مواجه للجدار (…) وأنت طفل لم تتجاوز العاشرة بعد، جسدك مخصص لتفريغ عقد الكبار”، ص62.

ولا ينبع هذا السلوك عنده من عجز أو فقر، فقد كان حسين ثرياً يمتلك مجموعة من السيارات الناقلة للمنتجات الزراعية، ولكنه أضاع كل شيء في اللهو، ولم يتوانَ في كل حالاته عن أن يمارس القسوة والوحشية على زوجته التي كان يطلبها إلى فراشه بطريقة فجّة، وعلى مسمع من ابنتيه الصغيرتين، “وما أن يقضي حاجته التي يخجل الحيوانات من تأديتها بهذا الشكل حتى يشعل سيجارة ويطردها من الغرفة؛ ليخلد إلى النوم، وتخرج المكسورة لإخراسهم خوفاً من عقابه”، ص162. وهو يطلب من ابنته زينب التي صارت موظفة نصف راتبها الشهري، بدلاً من أن يساعدها “من هيدا الشهر نص معاشك إلي، وإلا بتعرفي شو بيصير فيكي، وبحبيب القلب”، ص163، ويحاول ممارسة الخديعة لاسجلاب شفقة أسرته بكذبةِ أنه مصاب بالسرطان: “أنا لم آتي [كذا في الأصل] للحديث بأي أمر يتعلق بالماضي، بل قدمت لأبلغكم أني مريض بذاك المرض اللعين، وقد أكد لي الطبيب انتشاره، ولا بد أن أبدأ على الفور بجلسات العلاج الكيماوي، ولا أمتلك نقوداً، وتحت مسؤوليتي ثلاثة أطفال تركتهم أمهم وذهبت، لا وجّه الله الخير إليها”، ص89.

ومن الطبيعي أن ينتهي هذا الشخص مقتولاً من قبل عصابة تعمل على تحصيل الديون المترتبة عليه، غير أنّ غير الطبيعي أن تذكر الروائية كل هذه التفاصيل المتعلقة به، وبمن ذكرناهما قبل قليل، لتغلق جميع دوائر السرد التي فتحتها، دون أن تتيح للقارئ فرصةَ تخيّل المسار الطبيعي لمثل هؤلاء.

 

سابعاً ـ أسماء في دفتر العائلة:

ضمن النظام التراتبي للشخصيات يحتلّ سامي/ السارد الأساسي الفضاء الطباعي برمّته، ويقدّم الشخصيات من خلال مواقفها وأحاديثها وذكرياتها، كما يقدّم الأحداث من خلال مشاركته فيها، وقد قدّمه السرد شاباً صحافياً مثقفاً شغوفاً بالقراءة، “أقصى طموحاته أن يختم كل شهر خمسة كتب، ليوسع دائرته المعرفية”، ص15، وقد اكتسب من القراءة الشيء الكثير: “من الروايات اكتسبت العشق، ومن كتب التاريخ تعرفتُ إلى ما آل بسوريتنا على مرّ العصور، ومن الشعر غدوت رومانسياً غامضاً وصوفياً”، ص21.

وهو مدلل قليلاً، من غير إشارة إلى ذلك، في كنف أب متفانٍ، وأم ترى سعادتها في تعبها من أجل أبنائها، إضافة إلى كونه قويّ الشخصية يفرض سيطرته على من حوله: “أرفض أن يتفوق أحد عليّ، وأفرض الأغنيات التي أحبها، وأختار المكان الذي سنشرب فيه القهوة أنا وسالم”، ص19.غير أنه في المفترقات العاطفية التي تخاطب قلبه يعبّر عن حساسية مفرطة، فهو على الرغم من أنه لا يعبّر عادةً عن حبه لأبيه، يعبّر عن ذلك الحب في سياق نادر، يثير استغراب الأب:

“ـ أحبك.

ـ أشكرك (قلتَها ضاحكاً).

ـ أحبك أبي. أتحدث بجدية، أحبك جداً.

ـ ماذا حلّ بعقلك؟”، ص64.

ويمكن أن نشير إلى مقتبس آخر، يسترجع فيه وليد سوء تصرفه مع والده، في شبه ندم، بينما يحاول الاتصال به للاطمئنان عليه: “في الوقت الذي أمضيت فيه الدقائق الثلاث الأخيرة، وأنا أحاول الاتصال بك دون أن ترد علي، كنت أسترجع جميع المرات التي اتصلت بي ولم أجب”، ص196.وهو، إذ يعبّر عن حبه لأبيه، يعبّر أيضاً عن حبه لسورية، حتى في اللحظات الأكثر صعوبة في حياته، ولعلنا نذكر هنا إصراره على التطوّع للدفاع عن سورية، وإصراره على ذلك، على الرغم من معرفته حكاية مرض أبيه بالسرطان:

  • “أبوكن مريض ومن تلات سنين، وإنتو ما بتعرفو، ما حبّ ينغص عليكن حياتكن”، ص111.
  • “لم أقدم على ذلك إلا من أجلكم جميعاً”، ص111.

وقد عاشت هذه الشخصية تقلّبها بين حب السيطرة والطيبة، وبين الأثرة والإيثار، وتجسّد ذلك بشكل خاص في حبه سلمى، ثم أختها زينب، فقد أصبحت حياته، وفقاً للخفقة الأولى، بلا معنى إثر ابتعاد سلمى: “أصبحت حياتي دونها منزوعة الأوتار، ناقصة الهوى، جامدة الملامح، كان استيقاظي كل يوم نعمة، وأصبح نومي هو الحل الوحيد الذي ينغصه كابوس الاكتئاب”، ص77. أما الخفقة الثانية فقد رافقتها رعشة الجسد، بينما تاه سامي في تناقض لم تجد له الروائية تسويغاً حبكوياً مقنعاً. وها هو ذا سامي يعبّر عن شكل علاقته بزينب في المقتبس التالي: “لم أمارس الحب معها بدافع التعاطف على الإطلاق، ولا بسبب العشق بكل تأكيد، لكنني أنجرف مرات لتصرفات عفوية لا أحسب حسابها إلا متأـخراً”، ص64.

أمّا سارة/ أخت سامي السارد، فقد كانت منسجمة مع نفسها، ولم تعش ـ مثله ـ تناقضات غير مسوغة، إنها فتاة جميلة المظهر، تهتم بأناقة ثيابها، “قدمت بفستانها الأرجواني المكشوف الصدر، مزينة عنقها بذلك العقد الألماسي”، ص157، وهي من الداخل خيالية وشاعرية، وقادرة على التحكم بمشاعرها إلى حد بعيد، “تبدو كأنها أقوى أنثى في الوجود، وفي العمق الداخلي ضعيفة”، ص81، ويقول عنها سامي في معرض حديثه عن مرض أبيه: “أنا موقن بأنها كانت تغرق وسادتها بالدموع عليك لمجرد شكّها بمرضك، على عكسي تماماً أنا وأمي، فقد أنكرنا ذلك، ولم نكن نتوقع لوهلة أن وليد يمرض أو يموت”، ص81. غير أنها لم تستطع الاحتفاظ بذلك التوازن بين داخلها الضعيف وخارجها المتّزن عندما أخبر سامي العائلة أنه قرر الدفاع عن سورية بالسلاح، وعندما أخبرتهم أميرة، إثر ذلك، بحقيقة مرض وليد بالسرطان؛ إذ تعرضت سارة “لانهيار نفسي، وارتفاع مفاجئ في ضغط الدم، أدّى لسكتة دماغية مؤقتة، وما إن استيقظت منها حتى تعثرت قدرتها على الكلام”، ص113.

لقد جاءت مواقف سارة العملية متسقة مع رومانسيتها، تلك الرومانسية التي أحبت زياد من خلالها، وندمت “على تلك السنوات التي مرت من عمره دون أن يأخذ  رأسها مكانه على وسادته، وصوته طريقه على أذنيها، وابتسامتها سبيلها إلى قلبه الحزين بشدة على والده الضائع في غفلة من الزمن”، ص94.

وكانت سارة قد شحذت رومانسيتها بالعزلة، “فهي تحب المنزل كثيراً، وتحديداً غرفتها التي تعلّم نفسها فيها من خلال الكتب والفيديوهات، أو بالإنصات إلى العديد من المقاطع الموسيقية”، ص50، وهي “مجنونة موسيقى، ومدمنة لكافة الفنون الوترية. فارتأى والدي أن يرعى موهبتها؛ لتصبح أكثر احترافاً وإبداعاً”، ص15.

وفي كنف “وليد” و”أميرة” يعيش سامي وسارة، وينشأان متمردين “على الظلم والعنف والنفاق”، ص30، وقد قدّم السرد شخصية الأم نموذجية، بسيطة، ذات ردود أفعال متوقعة، “تتجنب أميرة الحديث عن تلك الصدفة التي جمعتها بذاك الشاب الطلائعي في درهة المشفى الوطني”، ص30، حيث أحبها من النظرة الأولى، ثم تزوجها، لتغدو من بعد أمّاً تقضي كثيراً من وقتها في المطبخ، حيث طبق الفتة الصباحي المقدس في حضرة فيروز، ص33، ووجبة العشاء الفاخرة المكونة من الخيار واللبنة والجبنة والطماطم والزيتون الأخضر والأسود، ص69.

أما الأب/ وليد فهو “أب بمواصفات صديق”، ص32، وهو عاشق للسينما والأخبار والذكريات: “أنت تشاهد في اليوم الواحد أربعة أفلام، ولا تفوّت نشرة للأخبار (…) إنّ ما يسعدك هو فتح حقيبة الذكريات”، ص29. ولعلّه كان يجد في الصور إعادة لإنتاج تلك الذكريات في الحاضر، فالصور عنده صندوق ذكريات: “”تصرّ على التقاط بعض الصور التذكارية بكاميرا (كانون) التي لا تفارقك، وتذهب لتحميض الفيلم عند المصور جمال، وتفاوضه على منحك ألبوماً فارغاً بشكل مجاني، كي تملؤه [كذا في الأصل] بذكريات إضافية، وتكتب خلف كل صورة التاريخ والمكان والمناسبة، وتضعها بعناية، وتأخذ وقتاً طويلاً في تأدية تلك المهمة، وترتب الألبومات فوق بعضها بانتظام في كراتين تضعها أسفل خزانتك”، ص 189.

وإذا كانت الصور تبعث في الحاضر سيرة الماضي، فقد أرادها وليد أن تبعث في المستقبل الذي لم يأت بعد، صورة الحاضر الذي سيغدو ماضياً بعد رحيله، ويتضح ذلك في السياق التالي: “دعوتك للجلوس فأبيت. ها أنت ذا تتسرح من المرض الخبيث وتنبذه بعيداً في اللحظة التي طلبت بها من المصور الفوتوغرافي أن يخلّدنا بين أربعة أضلاع بطاقة تذكارية”، ص146.

كما يتضح ذلك في الصورة الأخيرة التي التقطت لوليد مع العائلة الكبيرة، وكأن العائلة جميعها، بما فيها زياد وزينب وسلمى وسالم ونسرين أرادت أن تمنع اللحظة الحاضرة من الهرب، أو أن تثبتها، للاستعانة بها في المستقبل على عالم يخلو من وليد: “طلبنا من الممرض التقاط صورة تذكارية أقرب ما تكون للسينمائية: زياد يضم سارة من الخلف، وإلى جوارهما نسرين وسالم. أميرة تقبض على يدك المنتفخة جرّاء احتباس السوائل، وأنا أحاوط زينب وسلمى من الجهتين”، ص203.

(يتبع)…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى