مذكرات ” الملك فاروق “.. تحية الوداع (5)
تنشرها: فريدة شعراوي | باحثة في التاريخ والمصريات
يكتب الملك فاروق: وقبل الموعد المحدد للمغادرة ارتديت بدلة البحرية الرسمية تعبيراً عن احترامي وتقديري لبحريتي المخلصة ثم استدعيت ضباط قصري المخلصين وطلبت منهم مصاحبة وصيفات الملكة بأسلحة نارية ترقباً لأي مضايقة أو إهانة للسيدات، ومن العجيب أن الجنود اعتبروا المخاطرة بما تبقى لهم من حياتهم العسكرية عن طريق تأدية هذا الواجب شرفا لهم.
فقد كانوا يعلمون تماما أن هذا العمل لن يقربهم من رؤسائهم الجدد فى الجيش، وذهبت زوجتي وأطفالي إلى السفينة ” المحروسة ” في الخامسة وخمس وأربعين دقيقة، ثم توجهت إلى رصيف الميناء حيث اصطف حرس القصر وحراسي السودانيون في وضع انتباه فتفقدت آخر قول شرف وقمت بتحية العلم ووقفت انتباه عند عزف النشيد الوطني.
وطبقا لنص كلمات نجيب فقد صنع الخدم المخلصون حائط مبكى يصم الآذان وشرق هذا الحائط أطلقت المدفعية إحدى وعشرين طلقة، وكان المشهد مؤثرا للغاية، فقد قضيت عشر دقائق أحاول فيها مواساة الخدم المخلصين، فهونت الأمر عليهم بكلمات المواساه والأمل فى اللقاء الآتى . ومازال هذا الأمل يراودنى بالفعل حتى الآن، وقد نشرت صحيفة “الديلي تلغراف” في صفحاتها الأولى صوراً لبحارة ” المحروسة” وهم يبكون وأنا أخطو على المعدية الصغيرة، ولكن الصحيفة مُنِعت من التداول في مصر وقام رقباء نجيب بطمس الصور باللون الأسود.
وفي تمام السادسة قمت بتحية علي ماهر والسفير الأميركي “كافري” وطبعت على خدهما قبلة الوداع، وطلبت من علي ماهر انتظار نجيب خمس دقائق أخرى وإخباره بأنني انصرفت طبقاً لتعليماته. وأثناء إبعاد المرساة ظهر لنش مسرع بداخله رجل صغير الحجم هو محمد نجيب ومعه ستة ضباط آخرون. فوقفت بالقرب من الممر لاستقبالهم، فتقدم نجيب وصافحني فقلت له: آسف لأنني لم أنتظرك فطبقاً لأوامرك كان لا بد أن أغادر البلاد الساعة السادسة فاحمرّ وجهه واضطرب قائلاً: أنا لست مسؤولاً عن الذي حدث! كنا نأمل خيراً بهذا الانقلاب، لكن الأمر خرج من أيدينا وتطورت تداعيات الموقف لأبعد مما كنا نتصور! . وهكذا دخل نجيب صفحات التاريخ بعد أن أصبح بين عشية وضحاها هو الشخصية الرئيسية فى مصر، ولايمكننى الآن الحكم على كلماته المرتجفة المتسرعة، ولكننى أنشرها لإجلاء الحقيقة، فهو رجل دفعه الآخرون بشدة والآن أصبحت أخشى على حياته . . انتهى كلام الملك فاروق.
ثارت الأزمة الكبرى بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر في مارس 1954، وهي الأزمة التي يرى البعض فيها صراعاً على السلطة فيما يرى آخرون أنها صراع بين توجه نحو الحكم المدني وآخر مصرّ على إبقاء العسكر في الحكم. وكان عنوان الأزمة مطالبة نجيب بإعادة الحياة البرلمانية والدستورية وإلغاء الأحكام العرفية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. وقد صدرت بالفعل قرارات بهذه الأمور في 25 مارس 1954، لكن تظاهرات مطالبة بإسقاط الديمقراطية، يعتبر البعض أنها مدبّرة، غيّرت مسار الأمور فأُلغيت القرارات السابقة بعد ثلاثة أيام، وخسر نجيب معركته.
وأتت محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية في 26 أكتوبر 1954، حينما أُطلقت عليه ثماني رصاصات، من دون أن تصيبه!! لترسم نهاية للصراع بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر. فقد تم على إثرها اتهام أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين بمحاولة اغتيال عبد الناصر، وحُكم بالإعدام على سبعة منهم، وخُفّض الحكم إلى المؤبد على المستشار حسن الهضيبي، مرشد الإخوان السابق.
بعد ذلك تم توجيه الاتهام لنجيب بالتخابر مع جماعة الإخوان المسلمين، وفي 14 نوفمبر 1954، أصدر مجلس قيادة الثورة قراراً بإعفائه من رئاسة الجمهورية، وتحديد إقامته بفيلا زينب الوكيل خارج القاهرة، وحرمانه من حقوقه السياسية مدة عشر سنوات.
ظل محمد نجيب قيد الإقامة الجبرية حتى عام 1971، ولم يتم وضع اسمه في كتب التاريخ المدرسية، إلا في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك الذي أسكنه في منزل تابع لرئاسة الجمهورية، ووضع اسمه في متحف مجلس قيادة الثورة. وعند وفاته في 28 أغسطس 1984، شُيع جسده في جنازة عسكرية.