د. يوسف زيدان: لو فاتك الميري اتمرّغ في ترابه

” لو فاتك الميرى اتمرغ في ترابه ” عبارة مشهورة يرددها الناس فى بلادنا، أو بالأحرى ظلوا يرددونها زمنا طويلا، حتى تضغضغ مؤخرا حال البلاد، وتمنى أغلب الناس الهجرة إلى الخارج، و هذا حديث ذو شجون.

في الزمن المصري المشار إليه دوماً بزمن الفراعنة (كلمة فرعون تتألف من مقطعين: فر، عو. وهي تعني حرفياً: البيت الكبير؛ فالملك هو الساكن في البيت الكبير ).

كانت مصر مطمعاً لأمم المجاورة؛ نظراً لأنها مزرعة القمح الكبرى في العالم القديم، ومن هنا حرص الأقوياء على استغلالها؛ فاحتلها الفرس مرتين، ودخلها اليونان وحكموها قروناً من الإسكندرية، ثم انتهى أمرها إلى أن صارت منطقة تابعة لروما، وبيزنطة من بعدها، يجلبون منها القمح إلى عاصمة الامبراطورية، ليتم توزيعه بعد ذلك على أنحاء الإمبراطورية، بحسب رغبة الأباطرة والحكام .

وكانت عملية نزع القمح من مصر (الجائعة) وإرساله إلى روما أو قسطنطينية، تعرف قديماً باسم عملية نقل الميرة. وهي على الأرجح كلمة فارسية قديمة، تعني القمح.

ولكي نتصور اهمية نقل الميرة يجب ان نعرف أنه خلال مئات السنين، لم تكن لمصر مكانة في المنطقة، إلا بحسب مايخرج منها من القمح (الميرة).

وإن المصريين كانوا في وعي حكام العالم الروماني، ليسوا أكثر من مزارعي قمح.. كانوا يزرعونه، ويحصدونه فيما يسمونه (جرون .. جمع جرن) فرعية، ثم ينقل إلى جرون مركزية، حتى تأتي المراكب فتأخذه إلى أيدي الأباطرة.

وكان المصري الذي لا يحصل على قمح يتقوت به، من قبل أن تنتقل (الميرة) إلى ماوراء البحر سيقضي عامه جائعاً، ومادامت جرون القمح قد خلت، فلا سبيل أمامه إلا التمرغ في تراب هذه الجرون، ولعله يقع على حبات قمح يلتقطها من التراب، على أمل أن تكفيه إلى العام المقبل.

وهي لن تكون كافية بالطبع ، ولكن ليس أمامه إلا التمرغ في التراب الباقي في موضع تلال القمح التي انتقلت إلى خارج البلاد. ولأن نقل القمح (الميرة) كان يتم تحت إشراف جنود الحامية الرومانية.

واقترن الجيش في أذهان المصريين بالميرة، وصار الذي يلبس الزي الرسمي للجيش يقال إنه يرتدي الميري.

وفي الخمسين سنة الأخيرة بعد الثروة المباركة أضاف الناس في بلادنا تعبير (الملكي) للإشارة اإلى الزي المدني، أو كل مايلبسه غير العسكريين، وصار زي الناس إما ( ميري أو ملكي).

وكأن (الميري) مشتق من الأمير؛ وهو ما أوحت به قرائن أخرى مثل تسميتنا المستشفى الذي ينشئه أحد الأمراء، بالمستشفى الأميري، التي تحولت تخفيفاً إلى الميري، مما قد يظن معه أن الذي يحب ان يتمرغ في ترابه هو خدمة الأمراء.. غير أن دلالة (الميري) أقوى ارتباطا بالقمح، وبما ذكرناه.

ولا يزال الناس في الشام (سوريا و لبنان) يسمون القمح إلى يومنا هذا ( الميري).

وكانت كنيسة الإسكندرية الكبيرة، مقر الكرازة المرقصية في العصر البيزنطي، المسئولة عن تسهيل انتقال القمح إلى العاصمة الإمبراطورية تعرف بعدة اسماء: الكنيسة الكبيرة، الكنيسة المرقسية، الكنيسة البطريركية، كنيسة القمحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى