يتطاولون في البنيان (١)
رضا راشد | باحث في اللغة والأدب – الأزهر الشريف
إن الناظر لحال أمتنا اليوم ليجد أنها فقدت رشدها، واستبدلت به سفها وحمقا في أشياء عديدة، حتى بات الجسد المسلم يئن من كثرة الأمراض والعلل؛ مما يوجب علينا مواجهتها ولو بكلمة.
وإن ذلك السفه لكائنٌ في العديد من المظاهر، لعل أهمها ذلكم البذخ الذي ابتلي به الناس -أغنياؤهم وفقراؤهم- في تشييد بيوتهم بما هو فوق الطاقة، دونما حاجةٍ إلى ذلك إلا مجرد التفاخر.
وذلك أن لي جارًا ما عرفته مذ عرفته – قبل ثلاث سنوات – إلا وهو يجهز شقة ابنه الموشك أن يتزوج. يغيب أسابيع أو شهورا، ثم تفاجأ قد استحضر صناعا لتجهيز الشقة، وكأنه في غيابه ثم في حضوره بالصناع والعمال، كلما ادخر قدرا من المال جاء فدفنه في هذا البيت: تبليطا لأرض، أودهانا لحائط، أو تزيينا لباب أو شباك.
وهذا- أعني المبالغة في تأثيث البيوت تطاولا وتفاخرا – أمر مذموم شرعا وعقلا وفطرة..أيًّا مَّا كان المتفاخر بالبناء: غنيا أو فقيرا .
ألم تر إلى نبي الله هود عليه السلام كيف أنكر على قومه عاد مبالغتهم في بناء بيوتهم لغير ما فائدة إلا التفاخر بها والتباهي فقال:《أتبنون بكل ريع آية تعبثون ○ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون 》فهذا الاستفهام الإنكاري التوبيخي الصادر من هود عليه السلام (وهو بمعنى لا ينبغي لكم أن تفعلوا هذا)، دليل على استقباح الشرع لهذا الأمر المنكر الموبخ عليه وكراهته له.
وتأمل تجد عجبا، فإن نبي الله هودا عليه السلام مع إقراره بمهارتهم في فن البناء والتشييد إقرارا دل عليه قوله《آية》فإنه عد ذلك منهم عبثا. والعابث : اللاعب بما لا يعنيه.
ولئن كان لعاد عذرها في تفاخرها ببنيانها وتفاخرها بقصورها؛ من أنها كانت قوية《فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة، ومن أن الله عز وجل قال فيهم:《التي لم يخلق مثلها في البلاد》فما بال الفقراء المدقعين يتطاولون في بنيانهم تفاخرا وتنافسا وتباهيا؛ اعتمادا على أموال اكتسبوها بشق الأنفس أو على ديون ترهق كواهلهم سنين عديدة فتراهم يتلمسون الدين من حيوب الناس فيكتسون به هما وحزنا ومذلة ونفاقا بهذه الديون ! إذ الدَّيْنُ -كما قيل- هم بالليل، مذلة بالنهار ،وإن الرجل – كما قال صلى الله عليه وسلم- إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف..فلم يكتف بالهم والمذلة حتى ارتدى بدينه ثوب نفاق .فيفوت بذلك غرضهم من التفاخر بالبناء إذ يعرون بهذا الهم وهذه تلمذلة وقد اتخذوا البيوت لتسترهم.
وإنهم بذلك السفه والحمق إنما يجعلون من بيوتهم قبورا لأموالهم، وكان الأحرى بهم جعلها أوعية لهذه الأموال تحفظها للأجيال اللاحقة إن لم تثمرها لهم وتنميها.
كان التطاول في البنيان تفاخرا وتباهيا ولا يزال مذموما شرعا وعقلا، قديما وحديثا. ولئن كان هذا مذموما من الغني -من أنه أضاع ماله في غير ما فائدة- فإنه والله لأشد ذما من الفقير؛ ولهذا يتردى الأمر حتى يصبح من علامات الساعة التى وإن تنوعت وتعددت فمحورها فساد الزمان.
فقد سأل جبريل عليه السلام – في ضمن ما سأله – عن أمارات الساعة، فقال: “أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان”. وقد فسر العلماء التطاول بالتطاول الحقيقي مرادا به الارتفاع في البنيان، أو بالتطاول المجازي مرادا به فخامة التشييد والمبالغة في التأثيث.
أفلا يدري هؤلاء المبالغون في تشييد بنيان بيوتهم -برغم صعوبة الحصول على المال- أنهم بذلك يضيعون أجمل سنوات عمرهم؛ سعيا وراء أمل خادع وسراب موهوم في تجهيز بيوتهم، حتى إذا أتيح لهم سكنى البيت أخيرا -بعد أن أضاعوا زهرة عمرهم- أفاقوا على الحقيقة المرة؛ وهي أنهم لم يبق لهم من العمر فرصة للتلذذ بما شيدوا.
ولئن سألتهم ليقولن: إنما نبني بيت “العمر”، ونؤثث أثاث “العمر” ! فهل تدري أيها المسكين كم تبقى من عمرك الذي تنفق هذه الأموال الطائلة إحالة عليه واستنادا إليه؟ أليس جائزا ألا يكون بقي لك من عمرك إلا بضعة أنفاس لا تستغرق سوى ثواني معدودات؟
رويدا رويدا أيها الناس
فإنكم لا تبنون قصورا فيها تخلدون، بل والله إنكم لمفارقوها: آجلا أو عاجلا؛ فكونوا على تعمير قبوركم بالعمل الصالح أحرص منكم على تعمير قصوركم بزائف الزينة، واعلموا أنه كم من بيوت بنيت ولم تسكن، وكم من قصور شيدت ولم يبت فيها ليلة واحدة، وهذا مما تكرر حتى تقرر فبلغ حد التواتر المعنوي فأنى يشك فيه؟!
أُخْبِرْت أن رجلا أودع سني عمله الطويلة في إحدى دول الخليج مستشارا قانونيا بما دَرَّ عليه الأموال الطائلة، أودع كل ذلك في تشييد بيت على أحدث الطرز المعمارية أنئذٍ ..حتى إذا اكتمل البنيان، وبلغ حد التمام، وأوتي في بيته هذا من كل زينة أعلاها ومن كل حلية أجملها وأحلاها، وآن موعد السكن، كان للأقدار كلمتها وكان سيف المنية أسبق إليه من كل أمانيه بسكنى العمارة،حيث أصيب بجلطة دماغية في اليوم الذي كان يتأهب فيه للانتقال إلى البيت المشيد..فهل نرعوي وننزجر أو لا نزال نتمادى في غفلتنا .
فيا أيها المتباهون:
هل أوحي إليكم أن الموت على غيركم قد كتب، وأن الحق على غيركم قد وجب، وأن الذين تشيعون من الأموات سَفْرٌ عما قليلٍ إليكم راجعون تبوءونهم أجداثهم وتسكنون بيوتهم كأنكم مخلدون بعدهم؟
فإن كان الجواب: لا، فما بالكم تشيدون للخلود؟!