فلسفة التأمل الصامت

د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري

يبدأ يومهم بالاستيقاظ في الساعة الثالثة والنصف صباحاً على صوت جرس صغير يدقه راهب وهو يسير بسرعة بين الطرقات، فيهرع الجميع إلى قاعة العبادة فيجلسون جلسة التأمل على فُرُش متواضعة، وعليهم أن يركزوا تفكيرهم في “لا شيء”؛ إنما ينظر كل واحد منهم إلى داخله متأملاً. ويوجد في القاعة راهب يشرف على المجموعة، ويمسك بعصا طويلة وخفيفة ينزل بها على كتف الراهب المتعبد إذا أحس أن الأخير قد بدأ يفقد تركيزه في التأمل الداخلي، أو بناء على إشارة طلب المساعدة من المتعبد نفسه لو أحس بحاجته إلى التركيز بلمسة من العصا.

إنها عقيدة “الزن” والتي نشأت وترعرعت في اليابان كمذهب من مذاهب البوذية، وتستند على فلسفة التأمل والبساطة والالتصاق بالطبيعة والانضباط الصارم للنفس عن طريق ممارسة رياضة التأمل الصامت. ورهبان “الزن” يهدفون إلى البحث عن الحقيقة التي لا تدرك ولا تشرح بالكلمات، وإنما بالممارسة الجادة بحثاً عن التنوير وراحة النفس واستضاءة القلب.

ومن العادات الشائعة أن يتناول الرهبان الطعام ثلاث مرات يومياً وبكميات قليلة، وغالباً ما يكون طعامهم من الأرز المسلوق، ويأتي فقط كوسيلة يُقِمن بها أصلابهم تعينهم على العبادة؛ فلا يجوز الاستمتاع بمذاق الطعام. والعمل جزء من العبادة، وينحصر في النظافة والزراعة. كما يتوحدون في مظهر متشابه، يحلق فيه الجميع رؤوسهم تماماً، ويستمرون في العبادة والعمل والقراءة وإنشاد الكتب الدينية.

وينشر اليابانيون مذهب “الزن” من خلال تقديمه على أنه رياضة روحية تسمو بالنفس، ولا شأن لها بالأديان ولا تتعارض معها. وتلقى أفكار المذهب نجاحاً لدى كثير من المعجبين بالفكر الياباني، وخاصة أن ممارسة التأمل تتم في إطار بديع من عناصر الطبيعة نظراً لارتباط عقيدة “الزن” بالطبيعة والجمال، مما يدفع الرهبان إلى اختيار مواقع معابدهم بجوار الشلالات والبحيرات وأعالي الجبال؛ فينعمون بالطبيعة الخلابة رائعة الجمال.

ويلعب هذا المذهب مع غيره من المذاهب دوراً رئيساً في حياة الإنسان الياباني، حيث يتبع تعاليمها بصدق وينفذها بأمانة في حياته وعمله. ومن اللافت أن اليابانيين يستشعرون التوحد مع الطبيعة من قديم الأزل، ويحاولون التعايش معها بكوارثها كالزلازل والعواصف التي تتكرر كثيراً، كما أنهم يقبلون الحياة كما هي بحلوها ومُرّها، وذلك بمشاعر من السعادة والرضا. والحياة والموت عند الياباني مراحل من التطور الطبيعي، كما أنه لا يرى تصادماً بين الخير والشر، وإنما المهم هو اكتساب الإنسان لعنصري الطهارة والنقاء مع الإيمان بوجود قوى عظمى موجودة دائماً. إنها فلسفة حكمت حياة الشعب الياباني؛ فبعثت فيه مشاعر مختلطة من الاحترام والقداسة والغموض والانبهار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى