حكايا من القرايا.. ” الغنّامة “
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
أصحاب الغنم، ورعيان شلايا الغنم، الله يساعدهم… تعب في النهار، وقلق في الليل… قال المتفائلون: ” الغنم غنيمة ” وهناك قول اختلف فيه هل هو حديث شريف أم حكمة ” تغنّموا ولو بشاة ” والمانوحة في الدار كانت من أهل الدار، فهي التي ترفد البيت بمونته من الحليب واللبن والجبن واللبنة… وكان المتشائمون أصحاب الغنم الذين يستعدون لاستقبال أغنامهم من مراعيها… كانوا يقولون ” كلوا قبل ما تروّح أمّيات الهموم” أي كلوا قبل أن تصل الأغنام من مراعيها إلى البيت… لأنه عندما تصل، سيحمل الرعاة أخبارها، العقفا تبرزعت وماتت، والقرنا رشّحت، والصبحا التي تحلب مغطاساً صباحاً، وبقلولة مساءً… نسينا تكييس درّتها، فيبدو أنها أصيبت بعين، فلا هي أكلت ولا شربت… والكبش قفز عن حبلة عالية قفزة رعناء فكسرت رجله… هموم فعلاً، تسد نفس سامعها، فلا تعود له شهية للأكل… والناس من بعيد لا يحسون بمصائبها، فلا يرون إلا صفوفاً منها، تركض نحو مذاودها، ومشاربها، وهم يترنمون على موسيقا ثغائها…
قالوا له: الدنيا موجهة على مطر، وغيمها أسود، واطّلع عليها صبّحت مقوّسة (ظهر قوس قزح)… لم يقتنع أبو الرشيد، وقهقه في سره وفي علنه، واتهمهم بأنهم كسالى لا يريدون أن يعملوا ذاك اليوم ليقضوا يومهم متحلّقين حول كوانين النار يلعبون الصينية والسيجة والمنقلة… وصاح ” طول عمرهم الختيارية يقولون ” إن قوّست صبحية احمل عصاة الرعيّة” وحمل عصا الرعية وشبّابة، ودلواً فيه الخبز المدهّن بالزيت والجبن وأزرار البندورة، وصرة من الشاي، وأخرى من السكر… سيشرب من الظحاظيح، وسيغلي الشاي قرب ظحظاح السمكة (شكل الظحظاح كالسمكة) وهناك يخبىء إبريق الشاي المشحبر… وقاد صفوف أغنامه التي غطّت الشارع… سماراً وبياضاً.
الله يسامحك يا ابو الرشيد… لم تسمع النصيحة المجانية، وقد كانت النصيحة بجمل… سرحت وكأنك تعاندهم، وها هي قِرَب السماء تشقع فوق رأسك، وعلى أغنامك… يقول في نفسه، ويتابع: الله يسامحك ولم تقتنع برعي أغنامك في خلايل البلدة القريبة، بل أبعدت بها في الهياش البعيدة… ” إلقى عن راسك يا عنيد، تا أشوف تياستك شو بدها تجيب” ملابسه انتقعت بالماء، والبالطو الذي يلبسه أصبح كالمزاريب، والغنم بردت وهي تشرّ ماءً… الله يستر من هاليوم…
مشت الأغنام، وهو يحثها على السرعة، إلا الجدعة، وقفت وحدها، انتبه لها، وأمطار السماء فوقها وفوقه… كل شيء ولا الجدعة… عندي إياها بعشر غنمات… انطلق نحوها، ويا هول ما رأى… الجدعة تولد… وهذا وقته؟ سبحانك ربي… ساعدها في الولادة: سخلة… سخلة… سخل… ما شاء الله سخلتان وسخل تحت المطر… ترك كل شيء في يديه، وترك أغنامه سائبة، غطّى سخوله بالبالطو، وكوفيته، وانطلق بها مسرعاً إلى مغارة ” أبو جنيب ” ركض أكثر من عشر دقائق… أوصل سخوله، ورجع إلى أغنامه وأغراضه… بين لمعان البرق وقصف الرعود… من قال ” إن قوست صبحية احمل عصاة الرعية” ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله… بدأ عدد من الغنم يكح… و(يناخط) والأغنام كلها بردانة…
من حسن حظه كان في المغارة بعض الحطب الجاف… أشعل ناراً يدفي به سخوله حديثة العهد بالحياة… وبعض أغنامه المرتجفة… فكر: ما العمل؟ دار على واجهات المغارة، علّه يقرأ حلّاً… أيقضي نهاره هنا؟ أيموت قسم من أغنامه؟ السخول؟ أيموت هو من الهم والغم؟ ويا ما أقرب فرج الله… سمع دبيباً… دهسة دابة… وكأن أبا إبراهيم سقط عليه من السماء… ربط فرسه أمام المغارة… ضحك الضيف طويلاً… وسلم على (أبو الرشيد) وجلس على حجر، وأصبح يسبح الله ويهلّل…
بعد نصف ساعة، وأبو الرشيد مهموم، قال أبو إبراهيم: دعنا نعود… مش رح يوقف المطر… دعنا نتوكل على الله ونمشي… أنا أحمل سخلاً، وأنت اثنين… وهبطت السكينة على ( أبو الرشيد)، عندما قفز أبو إبراهيم على ظهر فرسه، وحمل السخل، وتبعه أبو الرشيد… ولحقتهما الأغنام… بأجراسها… وبعض ثغائها… وصلا… حمدا الله على السلامة… استقبلهما الأقارب… وأدخلت الأغنام مساكنها… وخلع أبو رشيد ملابسه المبلولة… وأوقدوا له كانون نار… ونام الرجل… نام… نام…