بحثا عن اللؤلؤ المفقود !
عبد الرزّاق الربيعي | مسقط
قبل أن تمحى حكايات البحر من ذاكرة الخليج، سارع الكويتي خالد الصدّيق عام1972م، إلى صناعة فيلم” بس يا بحر” الذي يعدّ الفيلم الروائي الأول في تاريخ السينما الكويتية، وبه قدّم صورة عن الصعوبات التي كان يواجهها البحارة عندما كانوا يخرجون في رحلات طويلة، للبحث عن اللؤلؤ في الكويت، أكبر مغاصات اللؤلؤ في العالم، من خلال حكاية غوّاص أصيب بإعاقة بيده خلال بحثه عن اللؤلؤ، وحالت تلك الإصابة دون مزاولة عمله في البحر، لذا ينصح ابنه بالبحث عن مصدر رزق آخر غير اللؤلؤ، لكنّ الابن لم يأخذ بنصيحة والده، فمضى يبحث عن اللؤلؤة التي ستجعله يقترن بحبيبته، ولكنّه بعد رحلة شاقّة طويلة فقد حياته، بعد أن عثر على اللؤلؤة الثمينة، في مشهد مؤثر، يقول بطله الفنان محمد المنصور أنّه جرى تصويره في زمن لم تكن آلات التصوير الحديثة تحت الماء قد ظهرت، فاستعانوا بحوض ماء كبير، فظفروا بلؤلؤة سينمائيّة خليجيّة، في فيلم بقي محفوظا في الذاكرة، قبل أن تتّجه الدراما التلفزيونيّة الخليجيّة لمعالجة المشكلات الاجتماعيّة التي ظهرت بعد الطفرة النفطيّة، مديرة ظهرها للبحر، وحكاياته، وغناء البحّارة الحزين:” توب توب يا بحر، وماتخاف من الله يابحر”!
وقد روى الشاعر البحريني علي عبدالله خليفة خلال استضافته في النادي الثقافي حكاية طريفة عن حماس ناشر ديوانه الأوّل ( أنين الصواري) الصادر عام1969 م ببيروت، اللبناني المغرم باللؤلؤ لطباعته على حساب الدار، بعد أن قرأه ووجد ذكر اللؤلؤ به وفيرا! مثلما هو الحال مع شعراء خليج قبل النفط، ولو تصفّحنا ديوان الشاعر بدر شاكر السياب(صدرت مؤخّرا طبعة جديدة منقّحة عن دار الرافدين وتكوين بمقدّمة لأدونيس، وتحقيق الشاعر علي محمود خضيّر ) لوجدنا نصوصا عن البحر كتبها أيّام زياراته للعلاج في الكويت، كانت مزيجا من الشعور، بالغربة، والحنين، وهذا الملمح يبدو واضحا في قصيدته التي كتبها عام 1953 “غريب على الخليج”:
“وعلى الرمال، على الخليج
جلس الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليج
ويهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج
أعلى من العبّاب يهدر رغوه ومن الضجيج”
وكنّا نحفظ بدرس اللغة العربية، في الصف التاسع، أيّام الدراسة الإعداديّة، وقصيدته الخالدة “أنشودة المطر” من النصوص المقرّرة علينا، كنموذج للشعر الحر، وفي ذلك العمر المبكّر، كان يستوقفني صوت السياب، وهو يصيح بالخليج:
” يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى
فيرجع الصدى
كأنّه النشيج
ياخليج
يا واهب المحار والردى”
وكنت أتساءل عن سرّ اختفاء مفردة “اللؤلؤ”، ولم أعثر على الجواب المقنع ، إلّا مؤخرا عندما قرأت منشورا للباحث حسان الحديثي، وفيه يروي حكاية، نقلا عن الشاعر سعدي يوسف، هي “في مقهى على شط العرب يلتقي سعدي يوسف ببدر شاكر السياب وكان قد قرأ له “أنشودة المطر” فيسأله سعدي : يا بدر، لمَ حذفت “اللؤلؤ”؟ فيجيبه: لأنّ الصدى لا يرجّع الا حروف اللين”، وبهذا الجواب عثرت على ضالّتي، ففي مفردة”اللؤلؤ” لا توجد حروف لين (الالف والواو والياء) التي تخرج بيسر، واللين أوضح في الصدى من الحروف الأخرى، لأنها صوتية.
لكنّ “اللؤلؤ” لم يختف من المقطع المذكور من قصيدة السياب فقط، بل حتّى من الخليج، الذي يعدّ بيئة خصبة للؤلؤ، ولم تشفع علاقته التاريخية بالمنطقة لاستمرارها، وهي قديمة، بل يرجّح بعض الباحثين أنّ الزهرة التي كان يبحث عنها جلجامش في ملحمته لم تكن سوى لؤلؤءة!
لقد تغيّرت الحياة في منطقة الخليج، والغواصون رحلوا، أمّا الأبناء، فقد عزفوا عن هذه المهنة الشاقّة، فواردات النفط وفّرت لهم ما يحتاجون إليه، ولوأعيد تصوير فيلم “بس يا بحر”وفق رؤية جديدة تنطلق من واقع خليج بعد النفط لوفّر الابن على والده النصيحة، وتجنّب خوض البحر، وأهواله، وإذا كان اكتشاف النفط صرف أنظار بحارة الخليج عن مهنة الغوص الشاقة، فاختفى تاريخ البحّارة تحت أمواج الخليج الهادرة، ومياهه الدافئة، ومع تراجع أسعار النفط، هل سيعود بحّارة الخليج مجدّدا للبحث عن اللؤلؤ، مثلما عاد الناس اليوم إلى الطبيعة، من حيث أنّ البحر من أبرز معالمها في منطقة الخليج ، وأغلى ما في البحر اللؤلؤ! ؟