السيرة الغيرية في [صفحات من حياة نازك الملائكة]: للدكتورة حياة شرارة

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

  تعد السيرة الغيرية من أقدم أشكال التعبير الأدبي، والتي تسعى إلى إعادة تشكيل حياة الشاعرة ,والناقدة الكبيرة نازك الملائكة من خلال الكلمات عن طريق المنظور التاريخي ,أو الشخصي للمؤلفة، إذ تعتمد على جميع الأدلة المُتاحة؛ كالأدلة المحفوظة في الذاكرة، أو المكتوبة، أو الشفهية، فضلا عن المواد التصويرية, وهذا ما قامت به الدكتورة حياة شرارة وهي تروي لنا السيرة الغيرية للرائدة الكبيرة نازك الملائكة وكيفية الوصول إليها من خلال الأحداث, والعقبات التي كانت في طريقها قبل اللقاء المرتقب بينهما, فنراها تقول : وفجأة سمعت صوتها على الهاتف, وكدت لا اصدق نفسي وأردت التأكد سالت :- هل السيدة نازك تتكلم؟ – نعم. – اخبروني انك منطوية , ولا تحبين أن تكلمي احدا. – لماذا يتكلمون علي هكذا؟ أنا لست منطوية , وأحب الحياة والناس, أريد رقم هاتفك لأسجله عندي قبل أن أنسى وسأراك في موعد احدده لك [1]0و تشكل السيرة الغيرية سلسلة من الأحداث المكتوبة التي تتحدث عن حياة نازك على شكل سرد يعبر زمنياً من خلال مراحل حياتها، وتتميز بالعديد من الخصائص، أهمها تشبه السيرة الغيرية الرواية إلى حد كبير، إذ  تسرد أحداث الشاعرة بدءًا من الولادة، ثم تنتقل إلى الجزء الأوسط من حياتها، لتنتهي بأخر محطة من محطات نازك ,و تركز على التجارب ,والأحداث الرئيسة في حياتها، فهي عمل قصصي انتقائي لبعض جوانب حياة الناقدة الكبيرة نازك ولا تحتوي على التحريف ,أو المعلومات المغلوطة المتعلقة بحياتها, وتنقل لنا دكتورة حياة شرارة  قصة حياة نازك بالتفصيل الكامل,وهي تحتاج إلى وقت وجهد أكبر من كتابة السير الذاتية,و تتحدث عن شخصية حقيقية, وليست من وحي الخيال، حيث لا يمكن إدخال جوانب خيالية إليها[2], فنراها تقول: في أواخر الثلاثينات صارت نازك فتاة يافعة معتدلة الملامح . عيناها بنيتان غير واسعتين , ذات نظرة وادعة ومتأملة , وانف معتدل وجبهة عريضة ووجه بيضوي اسمر ,وشعر كستنائي وقامة متوسطة الطول غير ممتلئة البدن غير أنها تفيض بالعافية والصحة , كانت تقبل على الحياة إقبال المحب لها وتسعى بكل ما تملك من طاقة الاغتراف من كنوز الأدب والشعر وكل أنواع المعرفة وتصقل قدراتها على نظم الشعر وتجويده , كانت خجولا للغاية , يبدو الهدوء على مظرها الخارجي الذي قد يعتبره المرء ضربا من البرود, غير أنها كانت في واقع الحال رقيقة لدرجة قصوى , تخدش قلبها الحساس ابسط كلمة لدرجة تبكيها أحيانا , ذات مرة  عندما كانت طالبة في الثانوية تقدمت منها طالبة من زميلاتها في الصف وقالت لها دون أي سبب أنني أكرهك ذهلت نازك من هذا الحقد الذي لاتستحقه [3],استطاعت الكاتبة الدكتورة حياة شرارة  سرد الأحداث الماضية بصورة شعرية ,وشاعرية , وأعطتنا صورا فوتوغرافية  بأسلوبها المتميز على الكتابة ,والسرد, وكانت تمارس النقد الفني في كتابتها لسيرة نازك من خلال طرحها  الآراء ,ومناقشتها بصورة نقدية متميزة, يعرفها الناقد الحاذق ,والمتلقي المتذوق للنصوص السيرية المكتوبة, وتمتلك الكتابة السيرية سحرا خاصا يجعلها تنفرد بين أنواع السرود الأخرى بامتلاكها خاصيتي الذاتي ,والموضوعي بكفين متوازتين, الذاتي حين تتطابق هوية الكاتبة مع الساردة , والموضوعي حين تفترق أنا الكاتبة, وتحتجب خلفها الشخصية ,وتستتر بظلها لتبرز هوية الساردة واضحة الشخصية , والهوية الأولى الذاتية هي التي تميز السيرة الذاتية والسير بنحو عام , والمذكرات , عن الرواية طبقا لتقسيم تودوروف وتصنيفه [4], ويجمع المختصون على القول بصعوبة الاتفاق على حد جامع مانع لمفهوم السيرة الذاتية, نظرا لعدم القدرة على التمييز العلمي بين مصطلحات متعددة يقال عنها أنها تنتمي إلى عائلة واحدة , هي السيرة , أو أنها أجناس أدبية صغرى متفرعة من جنس أدبي كبير هو السيرة, مثل التجربة الذاتية أو الترجمة , والسيرة الذاتية , والذكريات, والمذكرات, واليوميات, والاعترافات, وغيرها الكثير من المصطلحات التي تشترك بكونها سردا لحياة شخص يرويها هو بنفسه- وربما يتبرع له آخر بروايتها نيابة عنه كما في السيرة الغيرية- معتمدا على ذاكرته في استرجاع أحداث وموضوعات ماضية [5], وعلى الرغم من جهود النقاد والعلماء للفصل بين هذه المصطلحات فصلا علميا دقيقا [6], إلا أننا ما زلنا بإزاء غموض والتباس في تحديد ملامح المصطلحات أنفة الذكر , هذا ما اخبرنا به الصديق عبد الكريم السعيدي, ومما زاد الأمر تعقيدا مسالة التداخل الاجناسي التي هي من صميم النقد الأدبي الحديث [7],و السيرة الغيرية  حياة شخص تم كتابتها بواسطة شخص آخر،وهي شكل من أشكال الأدب، والتي تعد عادةً غير خيالية، ويتمحور موضوعها حول حياة الشاعرة نازك الملائكة , وقد تناولت الكاتبة كل تفاصيل حياة نازك المخفية , فنراها تقول :ربما يخيل للمرء أن نازك كانت منغمرة كليا في الدراسة والشعر ولا تجد وقتا تعيش فيه حياة الناس اليومية المألوفة, فإن اتساع اهتماماتها الثقافية يستنزف كل ساعات يومها 0 الحقيقة إنها كانت تجمع بين الكتابة والعلم والحياة اليومية التي تجد فيها غبطة وراحة لنفسها , فتشارك في سفرات العائلة وتلك التي تقيمها المدرسة التي تدرس فيها وتذهب إلى السينما والحفلات وتزور مع إحسان ديزي الأمير وأختها وفاطمة الحسني وصديقاتها الأخريات [8],وكتابة السيرة  الغيرية فن أدبي تتكفّل فيه الكاتبة برواية أحداث حياة الشخصية التي تكتب عنها، ويجري التركيز فيها على المجال الذي تتميّز فيه شخصيتها الحيوية، كأن يكون المجال الفني ,أو الاجتماعي, أو  الأكاديمي ,كلّما كان ذلك ضرورياً وممكناً، وتسعى في ذلك لانتخاب حلقات معيّنة مركّزة من سيرة هذه الحياة، وحشدها بأسلوبية خاصّة تضمن له صناعة نص سردي متكامل ذي مضمون مقنع ومثير ومسلٍّ، وتحاول الكاتبة الإفادة من كلّ الآليات السردية لتطوير نصّها, ودعمها ما أمكن بأفضل الشروط الفنيّة،فنراها تقول : عادت نازك إلى حياة التدريس والعمل , وتعينت في 12 أيلول/ سبتمبر 1957 مدرسة معيدة في كلية التربية في بغداد التي كان يطلق عليها دار المعلمين العالية وتخرجت منها سنة 1944, سرها أن تعود إلى أروقتها وكانت تلقي نظرات على الغرف التي درست فيها وتبتسم لذكرياتها ولتحقيق أمنيتها في العودة إليها مدرسة بعد أن تركتها طالبة وكان يسرها رؤية الأساتذة الذين درسوها وكانوا يرحبون بها كزميلة جديدة في التدريس وأخذت تدرس النقد الأدبي والعروض في قسم اللغة العربية[9], وعلى  السيرة الغيرية ألاَّ تخلّ بالطابع العام حتى لا يخرج النص إلى فن سردي آخر، ولا يُشْتَرَطُ على الكاتبة الاعتماد على الضمير الأوّل المتكلّم، بل قد تتقنّع بضمائر أخرى تخفّف من حدّة  ضمير المتكلّم وانحيازه، بشرط أن يعرف المتلقي ذلك لكي تتحوّل إلى سيرة غيريّة، بحيث يظلّ الميثاق التعاقدي بين الكاتبة, والمتلقي قائماً ,وواضحاً، كما ترتكز الكاتبة على آلية السرد ألاسترجاعي  وتقوم بتفعيل عمل الذاكرة,وشحنها بطاقةِ استنهاض حرّة ,وساخنة للعمل في حقل السيرة الغيرية حتى تجسدها في كتابها المتميز,فنراها تقول :وقد حمل لها شهر حزيران/ يونيو 1992 خبر قيام جامعة البصرة بمنحها شهادة الدكتوراه الفخرية تقديرا منها لمكانتها الشعرية ولعملها في جامعة البصرة لبضع سنوات عند بداية تأسيسها في الستينات وقررت الجامعة أن تقدم لها شهادة الدكتوراه الفخرية في حفلة تخرج الطلبة لعام 1992 , غير أن نازك لم تستطع السفر إلى البصرة وحضور الاحتفال بسبب وضعها الصحي [10], وأخيرا نقول أن الكاتبة الدكتورة حياة شرارة رحمة الله عليها,  قد جسدت لنا أحداث الماضي بطريقة شيقة , معبرة عن مدى ثقافتها الواسعة , وقدرتها النقدية على استعمال التقنيات الحداثوية في الكتابة ,والتعبير, فضلا عن  أسلوبها  الأدبي, واختيارها الكلمات الرشيقة ,وقد روت لنا سيرة الشاعرة ,والناقدة ,والأستاذة الجامعية ,والمؤلفة الكبيرة نازك الملائكة رحمة الله عليها 0

المراجع:

[1] صفحات من حياة نازك الملائكة : د. حياة شرارة :10 .

[2] ينظر مقال هديل تيسير موقع الموضوع 2019 .

[3] صفحات من حياة نازك :95 .

[4] أصل الأجناس :تزفيتان تودوروف :118 .

[5] شعرية السرد في شعر احمد مطر : د. عبد الكريم السعيدي : 39 .

[6] عندما تتكلم الذات : 9 .

[7]تمظهرات التشكل السير ذاتي : 135 .

[8] صفحات من حياة نازك الملائكة :121 .

[9] صفحات من حياة نازك : 194 .

[10] م0ن : 261 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى