لبنان وسوريا أولا وأخيرا
توفيق شومان | مفكر لبناني
تُزعج مقالاتي “القوميين الغلاة” حين أكتب عن التميز اللبناني وعمقه الحضاري الفينيقي، فيرمونني بالإنحراف نحو “اللبننة”، مع أن “اللبننة” هوية انتماء ذو فخر، وتُزعج مقالاتي “اللبنانويين الغلاة”، حين أكتب عن العروبة ، مع أن العروبة هوية اعتزاز وعظمة .
لهؤلاء وأولئك أقول كما قال شيخ المتصوفة (والعرفان) الأكبر ابن عربي:
نسبوني إلى إبن حزم وإني
لستُ ممن يقول قال إبن حزم .
وعلى ذلك، لا أقول بما يقوله الغلاة من هنا وهناك، ولعل استحضار ما يقوله علمان من لبنان، قد يكون مناسبا لصوغ خارطة طريق لـ “فكرة” أطرحها في هذه المقالة، وهي”فكرة” غير مقفلة وغير مطلقة، مطروحة للنقاش بهدف التأسيس لعلاقات مستقرة تأخذ بالاعتبار المصالح العليا بين لبنان وسوريا، والمصالح العملية بين اللبنانيين والسوريين.
العلمان هما كاظم الصلح والرئيس فؤاد شهاب .
يقول الأول في ثلاثينيات القرن العشرين: لا يمكن أن نذهب إلى الوحدة مع سوريا ونصف اللبنانيين يعارض ذلك، ولا يمكن أن نبقى تحت الحماية الفرنسية ونصف اللبنانيين يعارض ذلك .
ما الحل ؟ الحل بأن يتحول النصفان إلى واحد ، وهكذا كان .
وأما الرئيس فؤاد شهاب فيقول إن ” بعضهم ” يريد مني الإصطدام مع الرئيس جمال عبد الناصر ، وبمقدور عبد الناصر أن يحرك ” نصف البلد ” ، فماذا يبقى غير الخراب إذا تحرك نصف البلد ؟.
من خلال هذين القولين لإثنين من أبرز الأعلام اللبنانيين ، يمكن الإنطلاق نحو سؤال مصيري : كيف يمكن الحفاظ على لبنان وطنا واحدا مستقلا وفي الوقت نفسه كيف يمكن التأسيس لعلاقات طبيعية وعملية بين لبنان وسوريا ؟.
قبل الإجابة و الولوج في تفاصيل ” الفكرة ” ، من لزوميات القول إن أية قاعدة لبناء علاقات لبنانية ـ سورية سليمة ، أساسها وإطارها البحث عما يخدم الطرفين وما يعزز المصالح المشتركة بينهما .
بصراحة وبشفافية مؤلمتان لا بد من القول والاعتراف بأن أوضاع سوريا ولبنان الحالية، تشبه، بل تتطابق مع أوضاع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وإذ انتشلت خطة ” ماريشال ” القارة الأوروبية من حطامها، فإن لبنان يعول على ” ماريشاله ” الخاص المتمثل بصندوق النقد الدولي والمساعدات الخارجية ، وكذلك الحال مع سوريا ، حيث إعادة البناء والإعمار وإنهاض الإقتصاد مرتبطة بإحكام بالتدفقات المالية الخارجية والمساعدات والإستثمارات الآتية من بعيد.
هل يمكن أن ينجو لبنان إذا حصر خلاصه ب ” ماريشاله ” ؟
لا… هذا مستحيل
هل يمكن أن تنجو سوريا إذا اقتصر عماد انتشالها على “ماريشالها “؟ .
لا … هذا مستحيل مثل المستحيل اللبناني .
أين بقعة الضوء ؟ من هذه الحقائق والوقائع :
في التاريخ ، شكل مرفأ مدينة صيدا اللبنانية أول منافذ التصدير السوري إلى العالم خلال الحقبة الفينيقية ، وبعد مرفأ صيدا ، تحول مرفأ مدينة صور اللبنانية وعبر مئات السنين ، إلى المنفذ الأول لتصدير المنتوج السوري ، وعلى ما ينقل آباء التاريخ القديم والحديث ، من هيرودتس إلى وول ديورانت ، أن البحارة الصوريين كانوا ينقلون البضائع السورية والعراقية إلى مصر وبلاد الإغريق وأوروبا .
ولو تم تجاوز الحقبات التاريخية وصولا إلى الحقبة العثمانية، فإن مرفأ بيروت الذي لا يضاهي عمق مياهه وقدرته على استقبال البواخر الكبرى أي مرفأ آخر على السواحل السورية واللبنانية والفلسطينية ، راح يستقبل 300 باخرة سنويا منذ عام 1835، و 600 باخرة في عام 1838، وبات هذا المرفأ يشكل 11 في المائة من مجمل التجارة العثمانية في مطلع القرن العشرين ، ومثل هذه النسبة عرفها مرفأ سالونيك ومرفأ الإسكندرية ، على ما ورد ذكره في كتاب ” ثلاث مدن مشرقية ” لفيليب مانسيل ، الصادر عن سلسلة ” عالم المعرفة ” الكويتية في عام 2017.
ألا يخدم ما سبق قوله مصالح اللبنانيين ؟
على اللبنانيين أن يفكروا .
ماذا عن السوريين ؟
من دون الطرق على أبواب التاريخ ، وما كانت تتعرض له سوريا من غزوات وجودية ، من الشمال والشمال ـ الشرقي ( الحيثيون ـ الأشوريون ـ الكلدانيون ـ اليونان ـ الرومان ـ الصليبيون ـ السلاجقة ـ العثمانيون ، إلخ …) ، لم يحدث أن لبنان شكل ميدانا لتهديد جدي ووجودي لسوريا ، لا تاريخا ولا معاصرة ، إذا ما تم استثناء محاولات جنينية وغير ذي جدوى في الزمن السياسي المعاصر( 1958 ـ 1982ـ 2005) ، وكلها لم يكتمل عقدها وارتدت إلى الداخل اللبناني نزاعات وصراعات وحروبا .
في نصوص الحقائق والوقائع أيضا :
إن سوريا الحديثة ، أي منذ عهد الإستقلال ، لم تربطها مع الأردن علاقات سوية ، ولا مع العراق علاقات سليمة ، ولا مع تركيا علاقات قويمة ، والعلاقات الإستثنائية كانت دائما مع لبنان ، بصرف النظر عن صعود وهبوط مستوى هذه العلاقات بين حين وآخر ، وهذا يدل إلى الحقيقة السورية ـ اللبنانية الواحدة ، وهي حقيقة يضبطها التاريخ والجغرافيا ووحدة الحضارة ووحدة الجنس ووحدة أوزان الشعر الشعبي ووحدة الرقصات والموسيقى الشعبية وشبه وحدة اللهجة العامية ، حيث لا يستطيع عربي من العراق أو من مصر أو الخليج أو المغرب ، إلا بعد لأي أو انقطاع النفس ، أن يميز الفارق بين لهجة أهل دمشق ولهجة أهل بيروت .
ماذا يعني كل هذا ؟
هذا يعني أن لبنان وجه سوريا إلى البحر والعالم
وأن سوريا عمق لبنان إلى الشرق والشمال .
عودة إلى أوروبا:
في خلال سبعين سنة من التاريخ المعاصر ، تواجه الفرنسيون والألمان بحروب ضروس ، أولها في سنة 1870 حين غزا القائد الألماني بسمارك فرنسا وأوقع امبراطورها نابليون الثالث في الأسر ، وثانيها في الحرب العالمية الأولى سنة 1914 ، وثالثها في الحرب العالمية الثانية سنة 1939.
ما النتيجة ؟ خراب عام وملايين القتلى .
ما العبرة والدرس : الفرنسيون والألمان هم الآن أركان الإتحاد الأوروبي ، وفيما تخلى الفرنسيون عن الفرنك الفرنسي لصالح اليورو ، وهو المارك الألماني بإسم جديد، فإن الألمان يقولون على لسان المستشارة أنجيلا ميركل : الترسانة النووية الفرنسية مظلتنا الدفاعية والأمنية .
لم يحدث بين لبنان وسوريا مثلما حدث بين ألمانيا وفرنسا، ولكن الفرنسيين والألمان خرجوا من صنمية التاريخ وجعلوا منه وقفا على الماضي ، يدرسونه ليخرجوا منه.
أين مصلحة سوريا ولبنان ؟
مصلحة سوريا ولبنان في فضاء اقتصادي، فضاء بدولتين ونظامين ، وهذا يفترض إعادة استحضار واحدة من أهم الدراسات الإقتصادية التي عرفها لبنان (بالإذن من الرئيس حسان دياب) وهي دراسة لإحدى اهم الشركات الإستشارية العالمية في أربعينيات القرن العشرين ، وهي شركة ” ألكسندر جيب ” التي كلفتها الحكومة اللبنانية آنذاك بوضع دراسة حول مستقبل الإقتصاد اللبناني، وأصدرتها وزارة الإقتصاد اللبناني مطبوعة في عام 1948 (235 صفحة) وجاء فيها :
” إننا نشدد على وجهة نظرنا بأن رخاء لبنان الإقتصادي مرتبط ارتباطا محكما بالإزدهار الإقتصادي للدول المجاورة ، وبالأخص سوريا ، لقد كان من حظنا أن ندرس اقتصاديات البلدين ، فإرتحنا إلى اي مدى يعتمد أحدهما على الآخر ، ويكمل أحدهما الثاني ، ولذلك كان من الخطأ أن تقوم لكلا البلدين سياسة اقتصادية مختلفة ، بينما إذا اعتمدا سياسة اقتصادية موحدة ، مبنية على التطور المنسق لزراعتهما وصناعتهما وتجارتهما ، فمن المؤكد أن يساعدهما ذلك ، على وضع أساس لإزدهارهما الإقتصادي معا ” .
هذا كلام الإنكليز
ماذا يبقى ؟
يبقى أن العلاقات السياسية بين سوريا ولبنان بحاجة إلى تصويب يحفظ الشخصية اللبنانية من جهة ولا يكون لبنان من جهة ثانية مدخلا أو معبرا أو ممرا أو نافذة لتهديد أمن سوريا.
هل من ختام ؟ قبل الختام ثلاث شهادات :
ـ الأولى لأول رئيس وزراء لبناني هو رياض الصلح ، ففي البيان الوزاري لأول حكومة لبنانية بعد الإستقلال جاء : ” يقتضي تنظيم الإستقلال أن تعمد الحكومة إلى تسلم جميع صلاحياتها كحكومة دستورية شرعية لدولة مستقلة ، وهي على ذلك ، ستقوم بالإتفاق مع شقيقتها سوريا على إدارة ما نعرفه اليوم بالمصالح المشتركة ” .
ـ الثانية للرئيس كميل شمعون وردت في خطاب القسم عام 1952 وفيها : إن الشعب يطلب أن يسود التعاون والإخاء علاقات لبنان بالدول العربية وفي مقدمتها سوريا “.
ـ الثالثة لأحد أركان ” اتفاقية الطائف “ النائب والوزير البير منصور مقتبسة من كتابه ” موت جمهورية ” وفي الكتاب يقول : ” الإتفاق محاولة مزدوجة الأهداف ، الأول إنقاذ لبنان واستعادة الدولة والسيادة ، والثاني مصالحة نهائية بين لبنان ومحيطه العربي ولا سيما سوريا “.
هذا ما عندي وهذا ما لدي
ماذا عند الآخرين وماذا لديهم ؟.