أَزَمَنَةُ السُّكُونِ وَالْوَهْمِ.. قصة قصيرة

بقلم: د. حسام إلهامي | أكاديمي مصري 

hosamelhami@hotmail.com

أرفع بصري بترقب. قدمان تتدليان من جُثةٍ مُعلقةٍ لشخصٍ لا أذكر أني أعرفه، الجثة  تتحرك برتابة مقبضة تقترب من ثبات أبدي ينثر بالمكان رائحة الموت. 

أحاول أن أتذكر أي شئ يسبق تلك اللحظة فلا استطيع، كأن عقلي قد انمحى منه كل شئ. حاولت أن أفكر بعقلي أو فيه، فلم أجد إلا تجويفًا فارغًا!! أين ذهب ما كان فيه؟! ولمن هذه الجثة المعلقة؟! ما هذا المكان؟! ما أتى بي إلى هنا؟! أين أنا؟! ولأي وطن انتمي؟! بأي زمن أعيش؟! والأهم؛ من أكون؟! من أنا؟! 

تَلفتُ حولي. وجدتني في غرفة نوم متسعة ذات سقف عال تَتَدلى منه تلك الجثة فوق تلالٍ من فوضي. على أحد الجدران بقايا مرآة مهشمة. تأملت فيها هيئتي. تبينت بين شروخها أني كهل في منتصف الخمسين، ذو شعر مشعث يمتزج فيه السواد بالبياض. 

مرق بعقلي سريعًا وميضٌ شاحب انبثقت معه أشتات من ذكريات. رأيتني طفلًا في التاسعة من عمري، أواخر ستينيات القرن العشرين، بدولة ما تتحدث العربية. أبي يحملني فوق كتفيه وسط تظاهرة حاشدة. كتلٌ من أجساد بشرية هادرة سائرون مُسيرون منكسرون، يتوسلون لزعيم ألا يتنحى بعد هزيمة مؤلمة. أسأل أبي: لماذ نتوسل إليه؟! ألم نُهزم؟! لا يرد، فقط يعاود الصياح مع الجموع، وأظل أنا صامتًا متحيرًا. 

أي هذيان هذا؟! أين منطق يحكم انبثاق الأفكار في عقلي؟! أين أنا؟! هل أذهب أم أبقى بجوار تلك الجثة؟! ماذا لو كانت لأحدٍ من أهلي؟! ماذا لو كنت أنا من قتله؟!

وفجأة سمعت على الدرج خارج الشقة صوت أقدام لشخصين. فتحا باب الشقة في ترقب وارتياب، كانا رجل وإمرأة يحملان أشياء كثيرة لم أتبينها. شعرت بهما يقتربان من الغرفة. سارعت بالاختباء. فتحا باب الغرفة وألقيا نظرة سريعة مرتابة على الجثة. كانت المرأة أشد وجلًا وارتجافًا. لم أعرف ملامحهما أيضًا. خرجا وأغلقا الباب. توجها إلى موضعٍ آخر من الشقة. 

لم يعد لدي شك .. جريمة قتل ارتكباها. أيقنت أنهما لو اكتشفا وجودي فسيقتلاني. أخذت نفسًا عميقًا، هرولت معه ذكريات أخرى إلى رأسي. انقبض قلبي لمقدمها. رأيتني بمقتبل العمر في بدايات وآواسط الثمانينيات، الحياة هادئة كموج مرسوم على لوحة طفل برئ، انتصار محا الهزيمة. عاد التاريخ إلى رشده، تنسم الناس رائحة الوطن، تسلل فيهم كنسائم صافية لا تشوبها شائبة، ولكن شيئًا ما بعد ذلك ظل مفتقدًا في داخلي وفي الناس وفي الوطن. لم يعلم أحدٌ يقينًا ما هو، لكنه شئ جعل كل شئ حزينًا فارغًا عبثيًا.  

وفي هذا العقد داهمني شلل أطفال عطل ربع جسدي وتسعة أعشار روحي. وخلال بضعة أيام تغيرت هيئتي الجسدية، قدم منتصبة، وأخرى تتدلى في موات. تشنج دائم مكتوم تلبس عضلات جسدي وتجاويف روحي. خلت الحياة فجأة من الغاية والمعنى. وتساءلت: أي حياة سوف أعيش وأنا أرتدي هذا الجسد؟! 

أربعة عقود من عمري سأقضيها في انطواءٍ، وحزنٍ مكتوم، وحيدًا مكتئبًا، دونما اختلاط أو صداقات، أو صخب، أو طموح، أو نجاح أو فشل. سكون بلا حراك بين جنبات الحياة. نزهتي الوحيدة داخل نفسي منفردًا متحيرًا بأسئلة سطحية ألتهي بها عن حياة اشتاق إليها وافتقدها.      

تهشم جدار الصمت فانطفأت لوحة الذكريات المؤلمة التي تشكلت في عقلي. سمعت ضجيجًا آتيًا من الخارج، دخل الرجل والمرأة الغرفة ثانيةً بحوزتهما بعض الأشياء وضعاها على الأرض. علامات القلق والتوتر باديةً عليهما. نظرا لبعضهما، ثم نظرت المرأة إلى الجثة المعلقة في تجمدٍ ورعب وقفا بها على عتبة البكاء. غضب الرجل. جَذبها بعنفٍ إلى الخارج وأغلق الباب خلفه. سمعته ينهرها، ولكن لم يصل لمسامعي ما قالا.  

شغلني فوج جديد من الذكريات عما يحدث بين الرجل والمرأة. رأيتني واقفًا، أو سائرًا، بجسدٍ متهدل بالقرب من باب خشبي ضخم تكسوه طبقة آبنوسية لامعة، وظلال من رهبة. هو “باب الريس”، رئيس تحرير صحيفة تقع في بناء شاهق ممتد في المكان والزمان. 

انتزعتني من ذكرياتي يدٌ وضعت فوق أنفاسي، وأخرى قيدت حركتي تمامًا من الخلف، وسمعت صوتًا هامسًا من فمٍ ملاصق لأذني يردد:  

  • أشعر بالمتعةٍ وأنا أراك خائفًا، على وشك الموت، فاقدًا لذاكرتك، لا تفهم شيئًا مما يجري حولك. 

شدد قبضته على جسدي أكثر. شغلني عن الألم سؤال تردد داخلي: كيف عرف هذا الشخص أن ذاكرتي مفقودة؟! والأهم: من يكون؟!

خفف قبضته فوق فمي قليلًا فسألته: 

  • من أنت؟! ولِمَ تفعلُ بِي ذلك؟! وكيف عرفت أني لا أتذكر شيئًا؟!

أجاب:

  • أنا الوحيد في هذا الوجود الذي يعلم من أنت، ويَراك على حقيقتك. فلا تَتَعجل. عمَّا قليل ستعرف كل شئ.
  • من أنا؟! وما الذي يجري هنا؟!
  • سأقص لك كل شئ قبل أن يأتوا ويقتلوك، ويفعلوا بك ما كانوا ينوون فعله بتلك الجثة. 

أرخى قبضته، فبدأت أتنفس بإيقاع طبيعي، استدرت نحوه فوجدته شابًا في الثلاثينيات، ذا ملامح هادئة، غير أني لم أتعرف عليه. بدأ يتحدث: 

  • نعم، حُرِمت بعض أسباب الحياة، الشكل والهيئة والقدرة على الحركة والفعل. ترك فيك العجز جُرحًا نازفًا. انغمست في تأمل عجزك، وبعد سنوات خرجت من تأملاتك محتقرًا لمعاناتك، متساميًا عليها، مع شئٍ من الغرورِ والتعالي، ويقين خفي مستتر بأنك أعلى وأفضل ممن حولك، أولئك الحمقى صحيحو الجسد سقيمو العقل.  

وبينما أنت غارق في عزلتك وتأملاتك، وجد لك جهاز رعاية المعاقين عملًا بصحيفة كبرى كموظفٍ في عملٍ هامشي صُمم لامتصاص العمالة الزائدة.    

وقبل التحاقك بالعمل مباشرة عشت سرًا لا يعلمه أحد. محنتك الثانية. عشقٌ بَلغَ حد الجنون. عشقٌ باتساع الكون وأعمق نقطة فيه. كانت تتحدث معك. تتعاطف معك. تتبسم لك. حديثها كان مملوءً بالاعجاب لا الاشفاق كما كان يُشعرك الآخرون. 

اقتربت، فتعلقت، فذبت، فقررت البوح، معتقدًا أن مجرد الانغماس في العشق يعطيك حقًا بالمطالبة به. بعد لحظة البوح ستدرك أن الاشتياق والوجد والعشق لمن هم مثلك سقطةٌ كبرى، قبر من حزنٍ تحفره بيديك هاتين لتدفن فيه مشاعرك وتهيل عليها التراب. أدركت متأخرًا أن العشق لا يعرف العدل والمساواة والديموقراطية وحقوق الإنسان.

لم يبق في ذاكرتك فيما بعد إلا وجهها المحايد، وصفير هامس بغيض لصمتها وهى تستمع إليك، كانت منتبهة منصتة في الاستماع، قاسية مؤلمة في التجاهل. وعدتك بأن تعطيك جوابًا خلال أيام، ثلاثون عامًا مرت ولم تتلق منها ردًا .. امتلأ جوفك ألمًا ومرارة وشعورًا بالنقص والوضاعة. انكشف لك كم أنت قليل ضئيل مهين، وكم هو الفقد مؤلم قاس مبك مذل.

علمت من المقربين أنها لم تكن تقترب منك إلا إشفاقًا، ككثيرين يفعلون ذلك ليثبتوا لذواتهم المصطنعة أنهم خيرون طيبون عطوفون، فإذا ما جَد الجد ثابوا إلى رشدهم، وارتدوا إلى طبيعتهم. 

تكورت داخل نفسك أكثر، مكتفيًا بترديد أكبر سؤال في حياتك: كيف يجري عشق العاشقين؟! على أي نحو مذاقه؟! كيف حال من اقترب فلم يحترق؟! بالطبع لم تجد جوابًا. طويت العشق وانزلته منازل الأسطورة، شئ خارق لن تراه أو تلمسه، لكنك تصدقه لتخفف عنك إحساسك بالعجز.  

خرجت من التجربة وقد صار احتقار البشر لديك عقيدة. مزيدٌ من الرفض لمخالطة الحياة بتفاصيلها التافهة، ساعاتٌ طوال من الصمت والتأمل بلا ضفاف. قراءات قليلة سطحية. استقر بعقلك أفكار لم يعد من الممكن البوح بها. اتخذت قرارًا بأن تعيش بنسخة زائفة منك. تتحدث بما لا تعتقد، وتعتنق غير ما تقول، واضعًا أهم نظرياتك في الطبيعة البشرية.. أن أهم ما يميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية أنه الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يتصرف عكس طبيعته.   

ألقيت بنفسك في العمل. برغم ضآلته وجدت فيه شيئًا يشغلك. لكنك صرت سليط اللسان، تُمعنُ في استعراض غرورك، تتعمد تعطيل العمل الذي تقوم به برغم تفاهته حتى يشعر من يطلب منك أي شئ أنك تقوم بشئٍ ذي أهمية يستلزم الانتظار والإلحاح في الطلب. صرت تتلذذ بإهانة الآخرين. احترفت استخدام الكلمات المسمومة التي تحدث نزيفًا داخليًا من الغيظ والغضب المكتوم دون أن تصل بسامعها إلى حد الانفجار أو الرد. ورغم ذلك كان امتناع أحدهم عن الرد والاكتفاء بنظرة إشفاق عليك مما يقتلك قتلًا. 

حتى كان اليوم الذي سيقلب حياتك وحياة كثيرين غيرك. 

أصابني الدوار مما قال عني. نهرته بصوتٍ مَكتومٍ حتى لا يتسرب صوتي إلى خارج الغرفة قائلا: 

  • أصمت! أنت كاذب. لم يحدث. مُحال أن أكون على هذا الشكل الذي تحكيه 

رد بتصلب وثبات:

  • بل كنت كذلك وأكثر، تذكر عقلك الواهن كل ما جرى، ولكنك تحاول أن تخفيه عني. دعني أكمل ما في رأسك. 

انكمشت رعبًا ورهبًا من بَشاعة صورتي أمام نفسي، فقد تذكرت بالفعل تفاصيل كل ما ذكر. وتذكرت أيضًا ما وقع وقلب حياتي في منتصفها وحولها إلى مسار آخر. حدث ذلك حين جاءني “حمدي راغب”، “دُلْدُول” رئيس التحرير كما كنت أطلق عليه في نفسي. يصيبني الغثيان لمقدمه لمعرفتي بطبيعة وظيفته، طلب مني حمدي ذاك اليوم أن أتولى في الخفاء كتابة مقال رئيس التحرير. 

كان رئيس التحرير يجثم على رأس المؤسسة لربع قرن لسببٍ يعلمه الجميع، لكنه كان فارغ العقل، غير قادر على كتابة مقال، ويصرُ على أن يفترش متبجحًا صفحة كاملة بمقال أجوف لم يكتب منه حرفًا، تعلوه صورة التقطت لوجهه قبل عشرين عامًا بملامح مستفزة.  

وافقت. فقد راقت لي فكرة أكون المتحكم فيما يقول هذا العاجز الانتهازي المتصابي.

التقط محاوري الغريب في الغرفة طرف الذكريات، وأكمل كأنه كان يسمع الصوت الذي كنت أهمس به لنفسي:

  • صار المقال مقروءا مُذ بدأت تكتبه. كَلفوك بايصال كل شئ إلا شيئًا واحدًا .. “الحقيقة”. كانت مهمتك “صناعة وهم متقن”. شعرت في البداية بتأنيب ضمير، ثم أقنعت نفسك بأن ما تفعل في الصالح العام، وأن هناك أشياء لو عُرفت فسوف تقوم الدنيا ولن تقعد. كان لابد كي تتقن صناعة الوهم أن تعيش أنت ذاتك في وهم.  

فعلت ما طُلِب منك بدرجة من الإجادة لم يتوقعها أحد. لم تكن تقدم الوهم مترددًا مرتعشًا متلبسًا بكذب مفضوح، كما كانوا يفعلون، كان للوهم لديك منطق وحجة، كان حكيمًا رشيدًا عميقًا، كنت تقدمه كحقيقةٍ مطلقةٍ ووحيدة، وتنزع عن الحقيقة المنطق، فتجعلها جوفاء عرجاء مشكوكًا في أمرها وفي أمر قائليها ومعتنقيها. 

صحت فيه:

  • كذب!! لم أكن إلا فردًا ضمن مجموعة، ضمن عصر بأكمله. كان العصر عبثيًا. كل الأشياء في غير موضعها، الكل يخشى الحقيقة، لا يجرؤ على مواجهتها، أو سماعها. كان الكل يريد ذلك؛ قائليه وسامعيه. الكل أدمن الوهم. جرب أن تقدم لقومنا الوهم، سيبتلعونه ويدافعون عنه، ويضحون من أجله، وقد يقدسونه ويجعلون التضحية في سبيله استشهادًا. ومن يجرؤ منهم على التفكير أو إعلان أنه وهم، أو أننا كائنات كرتونية خارج سياق العصر والتاريخ، فستتولى الكثرة الكاثرة من قومنا عقابه ونبذه ووصمه بالعار والخذي. ألم يقل ديستوفيسكي “ما أصعب الأمر على من يعرف الحقيقة وحده”.  

الوهم يحول الناس إلى مهووسيين بتحقيق أشياء بلا معنى، فتُشن الحروب وتغتصب البلدان لوهم، ويُقتل الأطفال في وهم، وتطول قوائم اللاجئين والجوعى والمرضى والمحرومين لأجل الوهم، يشيع الزهو والاستعلاء والتمييز والعنصرية والشعور الزائف بتفوق الذات بسبب الوهم، يسقط الناس صرعى نوبات الاكتئاب واللافعل لوهم، تملأ الكراهية الصدور لوهم، ينتحر أناسٌ لوهم، يولد عشق المحبين في وهم، ويفترقون لوهم. 

الوَهمُ تفسيرٌ ميسر للأشياء. “المطلقات” تنبت في كل موضع من أرضنا كنبت شيطاني، صارت كل الأشياء “حقيقة” مطلقة، ذات وجه واحد لا تقبل نقاشًا أو مراجعة أو حتى تفكيرًا، من لا يعتنق ذاك الوجه لا يستحق الوجود. النسبية لم تصل أرضنا بعد، لا هي ولا العلم، ولا العقل. 

البشر مجبولون على الانصياع وإطاعة أي سطوة أو فكرة منمقة تأمر بتنفيذ أي شئ حتى ولو جاء هذا الأمر مناقضًا لضمائرهم، فما بالك لو كان ما يأمرهم منظومة كاملة في عصر بأكلمه. أليس هذا ما أثبته “ستانلي جرام” في تجاربه الشهيرة على انصياع البشر؟! 

نعم، كنت أقوم ببعض ما قلت، ولكني لست وحدي المذنب. لم يكن ذلك الزمن ليسمح لي بأن أكون غير ذلك. أكنت تريدني أن أهدم نظامًا كاملًا من الوهم؟!! هدم نظام من الوهم هو بحد ذاته دربٌ من الوهم! 

  • مازال عقلك يمدك بمبررات شيطانية، قد تساعدك على الجدل، ولكنها لا تغير من الأمرِ شَيئًا. 
  • كنت أقدم لهم بضاعة فاسدة، لماذا لم يرفضوا؟! لماذا لم يقولوا لا؟! 
  • جاء من رفض وقال لا .. فماذا فعلت؟!! 
  • من تقصد؟!
  • وليد رافع. 

ارتجفت لسماع الاسم، فأكمل حديثه وقد تطاير الشرر من عينيه. 

  • نَفِذَ وليد رافع بأعجوبة من الثقوب الضيقة التي وضعت لاستبعاد من هم على شاكلته من الالتحاق بالمؤسسة. فقد كان من عائلةٍ كبيرةٍ ثرية في مناصب عُليا. مقدمه كان كارثةً حلت بالمكان. لم يقبل امتطاء ظهره. كَان عنيدًا مكابرًا، ينتقد ويعترض. لا يبدي لينًا أو طَراوة، لا يَنقاد إلا لِما يُمليه عليه عقله. تفكيره منطقي، حُججه مُقنعة، ضميره مازال حيًا يُرزق. 

وجوده صار مقلقًا مجهدًا، كاشفًا أن ثمة أشياء كثيرة في غير موضعها، وعلى غير استقامتها، يعلوها غبار العبثية والجنون. وكانت نقطة اللاعودة، حين تصادم مع رئيس التحرير مقررًا على مرأى ومسمع من الجميع أنه لا يستحق أن يكون في هذا المكان. 

كنت ترقب وليد رافع من بعيد، تحاشيت أن تتعامل معه بعد أن وقف أمام سلاطة لسانك، وأهانك على مرأى ومسمع من الجميع، ونعتك بأوصافك التي كنت تتحاشى أن تذكرها بينك وبين نفسك، فإذا به يذكرها أمام الناس. 

توقعت أن يؤذوه أو يلفقوا له تهمة أو يشوهوا سمعته، بل تمنيت من داخلك أن يفعلوا ذلك لتتشفى منه، إلا أنَّ خيالك لم يصل إلى ما عزموا عليه، حين علموا أنه يُرتب شيئًا ما يفضح به رئيس التحرير. والأهم أنك لم تَتَوقع أنك ستكون جزءً مما عزموا عليه. 

جاءك “الدُلدُول”، حمدي راغب. وفق قوانين “بافلوف”، أصابك الغثيان لمرآه. هذه المرة بعد رحيله تقيأت ما في معدتك مختلطًا بدمٍ، فما قاله لك أصابك بالذهول والدوار. 

ترك لك عرضًا سخيًا لأشد درجات السخاء، قذرًا لأشد درجات القذارة. تتعاون معه في قتل وليد رافع، والتخلص من جثته، مقابل المال الذي يكفيك طيلة حياتك، والمرأة التي طالما اختلست النظر إليها شوقًا واحتراقًا بالمؤسسة. 

صرخت فيه وهو يحكي.. لم أهتم بسماع المرأة والرجل في الخارج لحديثنا، واحتمال دخولهم علينا: 

  • أنت تهذي. تخترع ذكريات لم تحدث، وتحاول أن تحشو بها رأسي مستغلًا ضياع ذاكرتي. 
  • ما قلته أقل بشاعة مما حدث. دعني أكمل. لا يوجد وقت. 

في البداية رفضت العرض .. ولكنك من داخلك كنت تحترق شوقًا لنيل الجائزة دون قتل، داعب خيالك المحروم ظل المرأة التي وعدوك بها، فأنت الذي لم تعلق يومًا بخيال إمرأة طيلة خمسة عقود، يُمكنك بقرارٍ منك أن تتدلى من خيالها، من عينيها، من أنفاسها الحارقة، أن تقترب دون أن تحترق، أن تتناثر عليها كذرات فضاء كوني لا يعرف النهايات. دك الاشتياق أسوار قفصك الصدري دكًا. وفي لحظة خاطفة وافقت أن تفعل أي شئ لتنالها. 

المهمة كان سيقوم بها “حمدي راغب”، تحت قيادتك وإدارتك. أنت تخطط، وهو ينفذ. 

سألته في تلهفٍ:

  • ثـ..م .. ثـ..م ماذا حدث؟!
  • اقترفت ما طلبوه منك.   
  • أتعني أن تلك الجثة المعلقة لوليد رافع الذي قتلته أنا بيديّ هاتين؟!! 

رد علي في فتورٍ وارتياحٍ وتشفٍ: 

  • الجثة ليست لوليد رافع. لقد قام حمدي بما قلت له خير قيام فأخفى الجثة، ولم يكتشفها أحدٌ حتى الآن.
  • انتظر .. ولكنك .. لكنك .. تحمل ملامح وجه وليد رافع!!! أنت وليد رافع!! كيف عدت إلى عالم الأحياء؟! أم أنك لم تمت من الأساس؟!

جذبني جذبة مميتة من رقبتي، أطبق عليها بكاملها في كفه ووضعني قبالة الجثة المعلقة وجهًا لوجه رافعًا رأسي لأعلى، وصرخ: 

  • أنظر، دقق جيدًا في ملامح الوجه.   

ارتج كياني .. استجمعت أشلاء عقلي الذائب في اللاشئ. انبثق الوعي في عقلي كشلال من دماء كل ذرة فيه محملة بشحنة قاتلة من ألم. الرأس التي تتدلى أعلى الجثة تحمل ملامحي بعينين مفتوحتين توثقان لحظة خروج الروح. أنا الجسد المعلق. هل أحلم؟! هل صرت في عداد الأموات؟!!!  

  • نعم، أنا وليد رافع، ولكني لم أعد إلى عالم الأحياء، بل أنت من انتقل إلى عالم الأموات. 

ثم أكمل يحكي أشياء بت أعرفها.  

  • منحوها لك كجائزة على ما فعلت بي، تلهفك أنساك أن كل ما يُعطى لك يُسلب منك بالضرورة. لم تدرك أنها ليست سوى إمرأة خائنة، خدعت رجلًا مَحرومًا مُحطمًا. دبرت مع عشيقها قتلك، وسلب أموالك التي جمعتها طيلة عمرك، وهاهما سيقوما بتقطيع جسدك قطعًا صغيرةً يوزعونها على أكوام وصناديق القمامة لإخفاء جريمتهم.

سمعت صوتًا مدويًا خلفنًا. كان انفجارًا ضخمًا تولد عنه إشعاع حراري ممتد أذاب الأجساد والأشياء والبنايات في ثوانٍ مخلفًا مجموعة من الحرائق والخرائب في كل موضع. سألته: 

  • ما هذا؟

رد بغير اكتراث: 

  • حدث ما كان يجب أن يحدث في أزمنة السكون والوهم، هزائم أخرى، ولكن لا عليك، فلم تعد من هذا العالم، برغم ما فعلت فيه من أشياء عجلت بخرابه. 

عاد الرجل والمرأة إلى الجثة. حمل الرجل بلطة وساطورًا، وحملت المرأة أكياسًا وأجولة. أرقدا الجسد على الأرض، كانت تلك هى المرة الأخيرة التي ارى فيها جسدي مكتملًا، أمسك الرجل بالبلطة مترددًا، نظر للمرأة ونظرت إليه في ارتعاد. في لحظة خاطفة هوى الرجل ببلطته على أضعف نقطة تصل الرأس بالجسد. 

شعور بالألم يمتد ويمتد حتى يتماهى مع اتساع الكون الذي صار بلا أرجاء. تصغر وتتضاءل الأشياء، الأهداف، الغايات، الاشتياق، الحزن، الوجد، الفقد، النوال.. كلها ذابت تناثرت مني وتناثرت منها. انسحبت إلى الأبدية، فصار البعد قربًا والقرب بعدًا، ذاب الكل في الكل. 

-تمت-

8 فبراير 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى