الإدمانية من منظور سيكولوجية الأخلاق أو “علم النفس الأخلاقي” (1)

إعداد: د. محمد السعيد أبو حلاوة- أستاذ الصحة النفسية، المشارك، كلية التربية، جامعة دمنهور

 

“رؤية أنصار تيار علم نفس دراسة الإيجابية في الطبيعة البشرية والوجود الإنساني”

الإدمان ظاهرة إنسانية بامتياز أرقت وتؤرق الضمير الإنسان منذ فجر التاريخ وإلى الآن، إلا أنها تمثل في الوقت الحالي وباءً عالميًا تتجاوز خطورته كل النكبات والجوائح التي واجهتها وتواجهها الإنسانية في الوقت الحالي خاصة جائحة مرض كوفيد 19، والتي يتصور البعض أنه لا خلاص منها وأنها بارجة العقاب الإلهي لجبروت البشر وطغيانهم وإفسادهم في الأرض. 

وواضع الحال أن الإفساد الحقيقي في الأرض يرتبط بما هو أخطر من جائحة كوفيد 19 فيما يعرف بضمور الوجدان وتليف الضمير القابض بتلابيه على الحياة الإنسانية فيما لا يمكن أن تخطئه عين الاختصاصي النفسي فضلاً عن رجل الشارع العادي للدرجة التي سوغت للبعض الترويج لقولة “لقد باع الإنسان ضميره ورهن وجوده لمصير بائس بانحرافاته الأخلاقية”. 

ويدعي البعض أن أوضح ظاهرة تثبت بالدليل صدق هذه المقولة “ظاهرة الإدمانية” والتي يتم مقاربتها بمفاهيم متعددة منها: الظاهرة الإدمانية، الشخصية الإدمانية، السلوك الإدماني، والسياقات الشارطة لتخليق الإدمانات السلوكية النوعية التي لم تعهدها البشرية من قبل.  

وعادة ما تقارب الظاهرة الإدمانية من المنظور الباثولوجي ـ الطبي باستخدام مصطلح “مرض الإدمان”؛ وبالتالي التعامل معه وصفًا وتفسيرًا وتشخيصًا وعلاجًا كمرض شأنه شأن الأمراض الجسمانية الأخرى يمكن إدارته والتحقق من التعافي منه بمنطق “تواري أو اختفاء الأعراض”. 

ورغم التقدم المذهل في العلاجات والتقنيات الطبية دوائيًا فإن معدلات التعافي من الإدمان وفقًا لهذه المقارنة منخفضة جدًا فضلاً عن ارتفاع معدلات الانتكاس ربما بصورة تتراوح ما بين (30% إلى 60%)؛ الأمر الذي استلزم مقاربات مرجعية وتطبيقية أخرى في التعاطي التكاملي مع ما أصبح شائعًا في المجال بمصطلح “الإدمانية Addictionism”، ويتصور مروجو هذا المصطلح أن “الإدمانية” الآن أقرب إلى الرؤى الفلسفية الكبرى التي يبحر بموجبها بها بعض البشر في الحياة بوصفها أسلوبًا فيها على مستوى التفكير والانفعال والفعل، ويربطونها بصورة أساسية بما يعرف بتميع الهوية الأخلاقية وتشوه التكوين الأخلاقي على ثلاثة مستويات:

  1. المستوى الأول- السياق الإدماني Addictive Context ويقصد به الظروف الحياتية “فكرًا وفلسفة وثقافة” الشارطة لتخليق الإدمانية وربما ترويجها وقبولها والترخص والتساهل معها، أو على الأقل عدم القدرة على تطويقها وغلق منافذ التسويق لها، فيما يعبر به عن ضمور التكوين الأخلاقي المجتمعي العام لدرجة وجود دول تعرف بدول اقتصاديات المواد المخدرة إنتاجًا وترويجًا واستهلاكًا. 
  2. المستوى الثاني- الشخصية الإدمانية Addictive Personality : رغم ترويج البعض لتصور أنه لا يوجد ما يعرف بالشخصية الإدمانية وأن الإقرار بوجودها وهم لا أدلة إمبيريقية عليه، وواقع الحال أن الأمر على خلاف مثل هذا التصور إذ أنه يوجد ما يمكن تسميته “بروفيلاً نوعيًا لشخصية المدمن” يمكن بنظمه تفكيرًا وانفعالاً وسلوكًا في ضوء متغيرات التكوين النفسي: معرفيًا وجدانيًا ودافعيًا وقيميًا أو أخلاقيًا تحديد الملامح العامة التي تميز ذوي الشخصية الإدمانية “أو القابلة للولوج في دوامة الإدمان” بصورة فارقة عن الآخرين المحصنين ضد الانجراف في مثل هذه الدوامة، ويركز في هذا الصدد بصورة تامة في واقع الأمر على “المتغيرات ذات العلاقة بالهوية الأخلاقية والضمير الأخلاقي للشخص بما يحتويه من: فضائل ومثل واعتقادات دينية، الأمر الذي تتضح بموجبه التأكيدات على دور المتخصصون في علم النفس الأخلاقي أو سيكولوجية الأخلاق في رصد ووصف وتفسير وتشخيص وقياس وعلاج هذه الظاهرة. 
  3. السلوك الإدماني addictive behavior: السلوك الإدماني مصطلحًا فضفاضًا وواسعًا ورغم ذلك يستخدمه غالبية الناس بصورة تبادلية مع مصطلح الإدمان، ويتضمن كلا المصطلحين أن “المواد” فضلاً عن “الأنشطة” يمكن أن تكون “إدمانات”، والسلوك الإدماني بصفة خاصة يتضمن السلوكيات التي تتعلق بصورة مباشرة بالإدمان مثل: شراء المخدرات أو العقاقير المخدرة، عملية حقن الهيرون أو شمه injecting heroin، ويتضمن السلوك الإدماني أيضًا السلوكيات المرتبطة بصورة غير مباشرة بالإدمان مثل: السرية، ما يحيط بعملية الاستخدام أو التعاطي، عدم الأمانة. ورغم أن مادة أو نشاط يمكن أن يكون له خاصية “الإدمان أو الإدمانية  addictive” إلا أن المادة أو العقار أو النشاط الذي له تأثير انفعالي هو الأكثر ارتباطًا بالإدمان، فأنت يمكن أن تصبح مدمنًا للكحول وليس الماء أو الصودا كمادة خالية من الكافيين، ويشبه ذلك أن المقامرة سلوك يمكن أن يفضي إلى ارتفاع الحالة الانفعالية والمعنوية ويجعلها في السماء مع المكسب أو الاقتراب من المكسب، الأمر الذي يزيد من احتمالات أن يتحول إلى سلوكًا إدمانيًا أكثر من قراءة كتاب مثلاً. ويؤخذ في الوقت الحالي بتعريف الجمعية الأمريكية للطب النفسي كما تم التعبير عنه في الدليل التشخيصي الإحصائي الخامس للاضطرابات النفسية والذي مفاده أن الإدمان “نمط مرضي من استخدام المواد”، يتميز بفقدان الشخص لقدرته على السيطرة على سلوكياته المتعلقة بتناول المخدر، والاستمرار في هذه السلوكيات رغم التداعيات السلبية والعواقب الوخيمة التي تترتب عليها، مع وجود دافعية قوية لتعاطي المادة المخدرة، سواء تعلق هذا الأمر بمواد أو عقاقير طبيعية أو مصنعة، أو بنشاط سلوكي معين يتعين فيما يعرف بالإدمانات السلوكي.  

ورغم تنوع نماذج وصف وتفسير الإدمانية بمستوياتها الثلاثة وما نتج عن هذه النماذج من وضوح في تصورها وتأطيرها مفاهيميًا وتشخيصيًا وعلاجًا، يبقى لمدخل مقاربة هذه الظاهرة من منظور ما يعرف مؤخرًا بتيار “علم نفس دراسة الإيجابية في الطبيعة البشرية والوجود الإنساني” وجاهته وقيمته العلاجية على وجه التحديد والمثبتة بالدليل، للدرجة التي أضحى معها تفاعلاً ما بين “أنصار تيار علم نفس دراسة الإيجابية”، وطب الإدمان addiction medicine؛ ذلك لأن مراجعة أدبيات تيار علم نفس دراسة الإيجابية في الطبيعة البشرية والوجود الإنساني فيما يطلق عليه اصطلاحًا “علم النفس الإيجابي” تفيد بوجود تدخلات نفسية عديدة مثل: ممارسة تدريبات الامتنان، العلاج القائم على تعزيز الصمود، التقييم النفسي الموجه نحو رصد مكامن القوة، والعلاجات النفسية المرتكزة على اليقظة الذهنية ثبت فاعليتها العلاجية في تحقيق التعافي من اضطرابات سوء استخدام المواد المخدرة.

والأمر الجدير بالإشارة أن “الوجدان الموجب”، و”الوجدان السلبي” يحددان بصورة عامة مدى ونطاق وقابليات التعافي من الإدمان، إلا أن مقاربة الإدمانية من منظور مبادئ وافتراضات ونطاقات الاهتمام في علم النفس الإيجابي تتيح التعامل النشط مع مستوياتها الثلاثة المشار إليها… وللحديث بقية.

لمزيد راجع:

https://www.researchgate.net/profile/Amy_Krentzman/publication/230869046_Review_of_the_Application_of_Positive_Psychology_to_Substance_Use_Addiction_and_Recovery_Research/links/53d2cd410cf228d363e95fbb/Review-of-the-Application-of-Positive-Psychology-to-Substance-Use-Addiction-and-Recovery-Research.pdf  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى