أصول الأخلاق: إعادة النظر في رؤية فرويد للخير والشر

رؤية: د. مولي س كاستيلو

ترجمة وتحليل وإضافة: د. محمد السعيد أبو حلاوة – أستاذ الصحة النفسية المشارك كلية التربية، جامعة دمنهور

(لا يتأسس الضمير الأخلاقي يا فرويد من حكايا المرضى والمعتلين نفسيًا)

تنشأ الأخلاق وفقًا لنظرية بنية النفس لسيجموند فرويد structural theory of the psyche من الأنا الأعلى the superego ويطلق عليه بعض المتخصصين مجازًا تعبير “الضمير”.  وميز فرويد في نموذجه التكويني للبنية النفس بين ثلاث تكوينات نفسية متفاعلة معًا: الهو the id ويمثل ما يعرف بالجانب البيولوجي الغرائزي لبنية النفس، الأنا The ego وتجسد الجانب الواقعي الإرادي الذي يتضمن ميكانيزمات الدفاع النفسي defense mechanisms القدرات الاستدلالية أو القدرات المتعلقة بالتعقل والتدبر reasoning capacities، والأنا الأعلى The superego ويمثل جانب المعايير والأحكام الأخلاقية ويعد مصدر الشعور بالذنب guilt والضمير conscience.

وأعيد تعريف الأنا الأعلى في العقد الأخير وفقًا لتحليلات أنصار المدخل السيكودينامي المعاصرون على أنه يمثل ما يعرف بالرابطة بين صحة النفس psychic health، والفعل الأخلاقي moral action، إذ أشاروا إلى أن الأنا الأعلى يمثل الدافعية للداخلية للتصرف الأخلاقي، ويمثل في نفس الوقت مصدر العقاب الذاتي عند إتيان الشخص بتصرفات غير أخلاقية.

وتأثر فرويد في تصوراته وأفكاره عن المثل والمعايير الأخلاقية بما يعرف روح العصر والمجتمع الذي كان يعيش فيه، ورأى أن الأنا الأعلى ينشأ ويتطور في بنية الطفل كتعبير عن تمثله واستدخاله لصورة السلطة بمعاييرها ومثلها في بنيته النفسية خاصة صورة الوالدين والكبار المهمين في حياته، ومن ثم تتعزز هذه المعايير والمثل عبر التعزيز من قبل الممثلين الاجتماعين للسلطة مثل المعلمين، والأصدقاء أو الأقران، والموظفين،…الخ. وعلى حد تعبير فرويد “عندما كنا أطفال عرفنا هذا المكون الراقي للشخصية “الأنا الأعلى” بما يتضمنه من مثل ومعايير وأحكام أخلاقية نعجب بها ونخاف منها، وسرعان من نتبناها في تكويننا النفسي بعد ذلك لتصبح جزءًا من تركيبتنا” (The Ego and the Id, Sigmund Freud, 1923).

يعد الخوف الانفعال المركزي في هذا الإطار Fear، ولكن ما نوع التوجيه الأخلاقي الذي يمكن أن ينشأ من الخوف أو الترويع والتهديد؟ بالنسبة لفرويد إنه “الخوف من العقاب fear of punishment” وبصورة أكثر تحديدًا الخوف من “الإخصاء castration “.

ويوجد أشكال متنوعة لما يعرف بتراتبية السلطة الأبوية patriarchal authorityلكنأوروباالفيكتوريةأعطتناواحدةمحددة: هي السلطة العقابيةالوحشية التي تتقنع بدروع من الدفاعات النفسية (Freud, Women and Morality: The Psychology of Good and Evil, Eli Sagan, 1988) وشاع في تلك الفترة التوجه نحو استخدام عديد من ما يعد اليوم صيغ من “سوء المعاملة” والتي تتمثل في منع الأطفال وحرمانهم من كثير من السلوكيات العادية بحجة خطورتها أو لا أخلاقيتها.

وبالإضافة لتمثل الأنا الأعلى لدى الطفل للقيم والمثل والمعايير الأخلاقية الخاصة بالسلطة الوالدية، يتكون الأنا الأعلى كذلك في جزء منه من الأوامر والتعليمات الأخلاقية المنظمة للتفاعل في المجتمع، بحيث لا يجد الطفل أمامه إلا بتعبير فرويد ابتلاع هذه القيم واستدخالها في تكوينه النفسي مكونًا ما يعرف الإيديولوجية الأخلاقية، فإذا كانت هذه المثل والمعايير والقيم الأخلاقية غير سوية تمثل أنموذجًا مرضيًا في بنية الطفل وتعد مصدرًا من مصادر إفساده وليس تقويمه وهنا تبدأ بذور الاعتلال والمرض النفسي في الانبات.

وفي واقع الأمر، فإن الأنا الأعلى أو ما يصح تسميته “العامل الأخلاقي الفاعل في النفس moral agency of the mind ” يمكن أن يكون أخلاقيًا ولا أخلاقيًا في نفس الوقت، وهذه هي نقطة الخلل المركزية في نظرية فرويد عن الأخلاق .

والجوانب المحبةللأناالأعلى في كتابات فرويد غير واضحة وغير متطورة، بسبب عدم تركيزه على فحص العلاقات المتبادلة بين الأم والطفل في المرحلة الما قبل أدويبيةpreoedipal أي مرحلة ما قبل تشكل عقدة أوديب وعقدة أوديب  Oedipus complex مفهوم صاغه سيجموند فرويد واستوحاه من أسطورة أوديب الإغريقية، وهي عقدة نفسية تطلق على الذكر الذي يحب والدته ويتعلق بها ويغير عليها من أبيه فيكرهه، وهي المقابلة لعقدة إليكترا عندالأنثى. في نظرية التحليل النفسي، مصطلح عقدة أوديب يدل على المشاعر والأفكار والأحاسيس الجنسية التي تبقى مكبوتة في العقل الباطن للطفل تجاه أمه.

ويجدر الإشارة إلى أن الشعور بالأصالة والاقتدار الأخلاقي authentic moral sense لا يأتي من الخوف من الإخصاء أو التهديد بالعقاب، بل يأتي من عملية نفسية ذاتية تسمى “التوحد identification ” مع المعتدي أو مع مصدر التهديد “فكرة التماهي” في الكتابات المعاصرة التي يقوم بها الطفل ويكررالسلوكالعدائيالذيتمإقرارهمنقبلمقدميالرعايةأوالأشخاصالآخرينفيبيئتهالحميمة.

كما أن الشعور بالأصالة والاقتدار الأخلاقي authentic moral sense  لا ينشأ من مسايرة الأوامر الخارجية والانصياع إليها، لكنه يتعلق بالسمات الأخلاقية الدافعة باتجاه التواد والتعاطف والرفق والإشفاق والتراحم، وليس الخوف من التعرض لما يعرف بالعقاب أو التهديد بالعقاب أو جلد الذات بوخز الأنا الأعلى.

وينشأ الشعور بالأصالة والاقتدار الأخلاقي authentic moral sense من طبيعة العلاقات التفاعلية المتبادلة بين الطفل ومقدمي الرعاية له والتي لم يراها فرويد جيدًا بل تعامل معها من واقع روايات وحكايا لمرضى نفسيين ويتعذر التحقق من صدقها إمبيريقيًا.

ويجدر الإشارة إلى أن الشعور بالأصالة والاقتدار الأخلاقي أمرًا بعيدًا عن الخوف والتهديد بالعقاب أو الانصياع للتعليمات والأوامر بل ينشأ في سياق العلاقات الوالدية خاصة مع الأم خاصة العلاقات غير العقابية في مرحلة الطفولة المبكرة خاصة في مرحلة الرضاعة إذ لا ترضع الأم طفلها لبنًا فقط بل ترضعه حلاوة وعذوبة ورقة وحنو وعطف وتراحم وشفقة وتواد   (Bethelard& Elisabeth Young-Bruehl, 2000)sweetness.

هل سبق لك أن رأيت طفل يحاول إطعام أمه؟ إنها غريزة الحب (Eros)love كما يتمثل في الرغبة في إعطائه لمن يعيطه لنا أو من تلقيناه منهم، إذ يكمن في الطبيعة البشرية غريزة أساسية للتواد والارتباط بالآخرين تفضي بنا إلى التوحد مع من يرعانا ويحرك فينا الرغبة في تقديمه إلى الآخرين، وما الضمير Conscience إلا هذا التواد وذاك التعاطف والتراحم والتاحب والانتماء affection، إنه العسل والعذوبة والرقة التي نهديها إلى الآخرين وتصبح جزءًا  من ماهية الأخلاق وبنيتها المركزية ومصدر كل رخاء وتقدم اجتماعي (Donald Carveth, 2013).

المرجع الرئيسي:

  • Castelloe, M. (2017). On the Origins of Morality Rethinking Freud’s vision of good and evil. https://www.psychologytoday.com/intl/blog/the-me-in-we/201309/the-origins-morality
  • مصادر إضافية:
  • Elisabeth Young-Bruehl, E. &Bethelard, F.(2000). Cherishment: A Psychology of the Heart.Free Press; English Language edition.
  • Donald Carveth, (2013). The Still Small Voice: Psychoanalytic Reflections on Guilt and Conscience. Ney York: Routledge.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى