فلسفة ابن خلدون في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثيرِ الهواءِ في ألوان البشر وأحوالهم وأخلاقهم
علي بن محمد أيوب الأرَكاني | باحث من المملكة العربية السعودية
يُعد عبد الرحمـٰن ابن خلدون الأندلسي شخصيةً عبقريةً عربيةً إسلاميةً متميّزة، فقد كان عالِماً موسوعيّاً متعدد المعارف والعلوم والقدرات، وهو رائد مجدّد في كثير من العلوم والفنون، فهو المؤسس الأول بامتياز لعلم الإجتماع، الذي لم يَطرُق بابُه قبلَه إلّا فلاسفة اليونان. وقد حظي ابن خلدون بعناية كبيرة في العصر الحديث واهتمام واسع في الشرق والغرب ونال من الاهتمام من قبل المدارس والجامعات العلمية في العلوم الإنسانية بصفة عامة والعلوم الإجتماعية والفكرية وفي مجال التاريخ بصورة أخص من أي مؤرخ مسلم غيره . ويعتبر ابن خلدون مفخرة النتاج الفكري الإنساني ومَعْلَم من مَعالمِ حضارة الإسلام تمثلت في فِكرِه الرائد والسابق في مجموعة من العلوم والمعارف التاريخية والإجتماعية والحضارية والفلسفية الذي تمثل في تلك الدراسات التي قام بها العديد من العلماء والباحثين العرب والعجم والتي شملت فكره العام كظاهرة موسوعية علمية أنجبتها الحضارة الإسلامية ليعم نورها كل المحافل العلمية العالمية.
فقد ذكر ابن خلدون أن الحكماء قد قسموا المعمور إلى سبعة أقاليم من الشمال إلى الجنوب.. وذكر حدودها وسكانها وتضاريسها في زمانه (القرن الثامن الهجري ، القرن الرابع عشر من تاريخ النصارى ) .. فسكان الجنوب – حسب تقسيمه – أهل الحبشة وأهل السُّودان .. ويعيشون في الإقليمَين الأول والثاني حيث حرارة الشمس وسواد البشرة وصعوبة المزاج وغرابة المأكَل والمَلبَس (ملابسهم من أوراق الشجر أو الجلود وأكثرهم عرايا من اللباس) ، يسكنون في الكهوف والغياض، وأنهم متوحشون غير مستأنسين، ومعاملاتهم بغير النّقدَيْن، من نحاسٍ أو حديدٍ أو جلودٍ يقدّرونها للمعاملات .
والسبب في ذلك ؛ أنهم لبُعدِهم عن الإعتدال يَقْرُب عرض أمزجتهم وأحوالهم من عرَض الحيوانات ، ويَبعُدون عن الإنسانية بمقدار ذلك .
وكذلك أحوالهم في الديانة أيضاً؛ فلا يعرفون نبوّة ولا يدينون بشريعة، إلّا مَنْ قرُبَ منهم من جوانب الإعتدال، مثل الحبشة المجاورين لليمن الدائنين بالنصرانية فيما قبل الإسلام .. ومثل أهل مالي وكَوْكَو والتّكْرور المجاورين لأرض المغرب الدائنين بالإسلام .. ومن سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم فالدين مجهولٌ عندهم، والعلم مفقود بينهم ، وجميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسيّ .
ثم تأتي الأقاليم الثلاثة المتوسطة (الثالث والرابع والخامس) وأرضها أكثر عمراناً وسكانها أعدل أخلاقاً وفيهم ظهرت النبوءات والحضارات والشرائع والعلوم ، ومن أهلها الروم والعرب والفرس وبني إسرائيل واليونانيين وأهل الصين والسند والهند .. وهم أعدل البشر أجساماً وأخلاقاً وأحوالا وألوانا .. فتجدهم على غاية من التوسط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم .. ويتصرّفون في معاملاتهم بالنّقدَيْن العزِيزَيْن .
ثم يأتي الإقليم السادس ثم السابع في الشمال البارد، وسكانهما من البيض الصّقالبة والتُّرْك والخزَر والكثير من الفرنجة، حيث زُرْقة العيون وجلافة الطبع وصهوبة الشعور ، وأقواتهم من الذرة والعُشب ، يسكنون الكهوف والغياض، متوحشون غير مستأنسين وأنهم يأكل بعضهم بعضاً كالصقالبة.. وهم أقرب أحوالاً لأهالي الإقليم الأول والثاني من الجنوب تماماً .. وكذلك أحوالهم في الديانة أيضاً، فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة، إلّا من قرُب منهم من جوانب الإعتدال، مثل مَن دان بالنصرانية من أمم الصقالبة والإفرنجة والترك في الشمال.. ومن سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم فالدين مجهولٌ عندهم، والعلم مفقود بينهم ، وجميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسيّ .
ونوّه ابن خلدون بأنه لا يُعترض هذا القول بوجود اليمن وحضرموت والأحقاف وبلاد الحجاز واليمامة وما إليها من جزيرة العرب في الإقليم الأول والثاني .. فإن جزيرة العرب كلها أحاطت بها البحار من ثلاث جهات ، فكان لرطوبتها أثرٌ في رطوبة هوائها ، فنقصَ ذلك من اليُبس والإنحراف الذي يقتضيه الحر ، وصار فيها بعض الإعتدال برطوبة البحر .
وذكر بأنه قد تَوَهّم بعض النسّابين ممن لا علم لديه بطبائع الكائنات أن السُّودان هم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السَّواد لدعوةٍ كانت عليه من أبيه نوح ظهر أثرها في لونه ، وفيما جعل الله من الرق في عقِبه ، وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القَصّاص ، ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في [التوراة] وليس فيه ذكر السواد، وإنما دعا عليه بأن يكون ولدُه عبيداً لولد إخوته لا غير، وفي القول بنسبة السواد إلى حام غفْلةٌ عن طبيعة الحر والبرد وأثرِهما في الهواء وفيما يتكون فيه من الحيوانات .
وذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول والثاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب فإن الشمس تُسَامِتُ رؤوسهم مرتين في كل سنة .. فيكثر الضوء لأجلها ويُلِحّ القَيْظ الشديد عليهم وتسود جلودهم لإفراط الحر ، ونظير هـٰذين الإقليمين مما يقابلهما من الشمال الإقليم السادس والسابع شمل سكانهما أيضا البياض من مزاج هوائهم للبرد المفرط بالشمال ، فتبيض ألوان أهلها ، ويتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العيون وبرش الجلود وصهوبة الشعور .
فكانت الأقاليم الأربعة منحرفة وأهلها كذلك في خُلُقهم وخَلْقهم فالأول والثاني للحر والسواد، والسادس والسابع للبرد والبياض.
وسُمّوا أهل الإقليم الأول والثاني بالحبشة و[الزَّنْج] والسُّودان .. وليست هذه الأسماء لهم من أجل انتسابهم إلى آدمي أسود لا حام ولا غيره ، وقد نجد من السودان أهل الجنوب من يسكن الربع المعتدل أو السابع المنحرف إلى البياض فتبيض ألوان أعقابِهم على التدريج مع الأيام وبالعكس فيمن يسكن من أهل الشمال أو الرابع بالجنوب فتسود ألوان أعقابهم وفي ذلك دليل على أن اللون تابع لمزاج الهواء .
وأما أثر الهواء في أخلاق البشر
فقد ذكر ابن خلدون أننا نجد في خُلُق السُّودان على العموم الخِفّة والطَّيْش وكثرة الطّرَب فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع موصوفين بالحُمْق في كل قُطْر ، والسبب الصحيح في ذلك ؛ أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتَفَشّيه وطبيعة الحزن بالعكس وهو انقباضه وتكاثفه .
وأن الحرارة مفشية للهواء ، والبخار مُخَلْخلة له زائدة في كميّته ، ولهذا يجد المنتشي من الفرح والسرور ما لا يُعبّر عنه، وذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من الحرارة الغريزية التي تبعثها في الروح من مزاجه فيتفشى الروح وتجئ طبيعة الفرح .
وكذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها واتصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخّنت لذلك حدث لهم فرح وربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشئ عن السرور .
ولما كان السُّودان ساكنين في الإقليم الحار واستولى الحر على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشدُّ حراً فتكون أكثر تفشيا فتكون أسرع فرحاً وسروراً وأكثر انبساطاً ويجئ الطيش على أثر هذه ، وكذلك يُلحق بهم قليلا أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواءٍ بسيط البحر وأشعّته كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التُّلول والجبال الباردة .
وقد نجد يسيراً من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث لتوفر الحرارة فيها وفي هوائها لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف والتلول واعتُبر ذلك أيضا بأهل مصر فإنها مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريباّ منها كيف غلبَ الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب حتى أنهم لا يدّخرون أقوات سنَتِهم ولا شَهْرهم وعامة مأكلهم من أسواقهم .
ولما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن ، وكيف أفرطوا في نظر العواقب حتى إن الرجل منهم ليَدّخر قوتَ سنتَيْن من حبوب الحِنطة ويُباكر الأسواق لشراء قوتِه ليَوْمِه ، مخافةَ أن يَرزأَ شيئا من مدّخَره .
وتَتّبع ذلك في الأقاليم والبلدان ، تجد في الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء والله الخلّاق العليم .