السيدة وارفة الظلال.. قصة قصيرة

د. سامي الكيلاني | يعبد – فلسطين

تنظر إلى الشجرة التي تقف إلى مدخل المكتبة العامة، ما زات بكامل هيبتها، تبدو كأنها لم تتقدم في العمر. كدت تقول الشجرة التي تقف إلى الجنوب من المدخل. ما زلت تخلط الاتجاهات في هذه المدينة، أحياناً تعطي الاتجاهات انطباع الاتجاهات في بلدك أو حتى في قريتك، الاتجاه غربي وأنت تسميه جنوبي، وما زلت مصراً على ذلك. الشجرة المهيبة في مكانها ولا يهمها خلطك الجهات، ولا يزعجها مرور السنوات عليها، تحتفظ بهيبتها، لكنها لا تستطيع تفادي أوامر الفصول، تمتص ألم التغيير راضية. تراها بعين اليوم جديدة، وتلجأ إليها لتسألها عن التشبيه الذي عقدته معها. تتأملها، غصنان في واجهتها غزاهما اللون الأصفر، كما تغزو شعرات بيض رأس الشباب عشية العبور إلى خريف العمر. إنها صامدة صمود القلوب المتعبة، الناس ليسوا إلاّ قلوباً تدعمها أجهزة وأنسجة أخرى، الإنسان هو القلب. القلوب الكبيرة تصمد، ولكنها لا تعاند ما لا يمكن عناده، لا تعاند الحزن، يمر عليها، تمتصه، تحضنه وتحضن نفسها، ثم تكبر من غير كهولة. القلب الكبير الذي تركته في الوطن لأم تبتسم لتخبئ الألم، والقلب الذي تركته قبل قليل، تختلط الصور.
تختار مقعداً تحت الشجرة المهيبة بعد أن عدت من زيارة شحنتك بالمحبة والارتياح، ولكن بألم وقلق.
تتذكر السيدة المهيبة، كيف كانت في الزيارات السابقة، المليكة المتوجة على عرش من يعرفونها، مهيبة وارفة كالشجرة، أو الأصح أن الشجرة الوارفة المهيبة التي تجلس تحتها ما زالت كذلك مثل المليكة. حزن هنا، وتشوش في الذاكرة هناك، وانحسار إضافي في القدرة على الإبصار وفي القدرة على الحركة، لا مهرب من ذلك، لكن الصورة الكبيرة تحتضن كل هذه المنغصّات، وتمتص ما تحتويه من ألم بأريحية دون تذمر. تجلس في مقعدها تضيء أنوار الذكريات الجميلة وتتحدث وكأن الحاضر جميل أيضاً. لكنها كانت في هذه الزيارة متعبة الجسد مشوشة الذاكرة، متقطعة النبرات، تجاهد في حديثها لتعبر عن أفكارها، سألتك مرة عنك وكأن المتحدث معها كان صديقك، ثم تداركت ذلك بابتسامة اعتذار، أدركت أنها خلطت الأمر، ثم سكتت.
تحضر في الذاكرة صورة الزيارة السابقة وكأن الذاكرة تقاوم، ترفض دخول الصورة التي تقحم نفسها بقوة.
***
سيدة الأناقة والهيبة، مليكة المكان، تجلس في مقعدها الذي اهتدت إليه بقدميها اللتين تعرفان البيت شبراً شبراً أو قدماً قدماً. تركت المطبخ بعد أن وضعت إبريق التسخين الكهربائي وجاءت لتنتظر غليان الماء فيه، عادت إلى غرفة الجلوس، عادت لتشارككم الجلسة لتستأنف الحوار من حيث انتهى. السيدة التي يدعوها الأصدقاء جميعاً من مجموعة الطلبة الأجانب الذين تعرفوا عليها وتعرفت عليهم من خلال ابنتها التي تعمل في الجامعة، فأصبحوا جميعاً كالأبناء لها وصاروا ينادونها ب”Mom” اختصاراً، حتى أن الكثير منهم لا يعرف لها اسماً غير “مام”. منذ بداية معرفتك بها ومتابعتك حالتها، لا تذكر يوماً أنها ضعفت أمام التراجع المستمر لقوة إبصارها، الأطباء أعلنوا لها بصراحة ومكاشفة أن ليس بمقدورهم أن يوقفوا التراجع، وبالتالي كانت تعرف مزايا كل مرحلة فتحضّر لها متطلباتها. في تلك الزيارة، كانت الأمور قد تراجعت إلى درجة كبيرة فأصبحت لا تشعر معها إلاّ باختلاف الضوء عن العتمة.
استأنفت يومها الأسئلة عن أفراد عائلتك واحداً واحداً، سألتك عن حال بلادك أسئلة استكمالية لما حدّثتها به منذ سنة، كانت كأنها تستأنف جلسة انقطعت قبل وقت وجيز، وأضافت أسئلة عن مستجدات لم تكن تسأل عنها سابقاً، سألتك أن توضح لها ما هذا الذي تسمعه في الأنباء عن سنة وشيعة يقتلون بعضهم بعضاً. تنهدت والجرح في داخلك، ماذا تقول للسيدة المليكة الأنيقة ذات الأبهة المحببة عن هذا الموضوع، وهل تفهمه أنت أصلاً؟ حدثتها باختصار ماذا يعني ذلك، ولم تكن بحاجة لأن تطرح موقفك، فهي كانت ستقاطعك بأنها تعرف ذلك، دائماً تريد المفيد في الحديث. هزت رأسها، وقالت إنها تفهم هذه الأمور، فقد عاشت شبيهاً لها في صراع الناطقين بالفرنسية والناطقين بالإنجليزية في هذه المقاطعة.
رغبتَ يومها في تفادي دعوة العشاء المعتادة نظراً لوضعها عندما مررت مروراً سريعاً عليها بعد وصولك المدينة قبل يومين، إلاّ أنها أصرت أن يكون الأمر كما في كل زيارة سابقة، لقاء حول طاولة العشاء، وجلسة عائلية.
ها هي على طاولة العشاء قد طلبت من ابنتها أن ترتب المائدة كما في كل مرة، وتناولت الولاعة الخاصة بالشموع واقتربت من كل شمعة تتحسسها أولاً بيدها ثم تشعلها، عند الشمعة الثالثة أخطأت شعلة الولاعة هدفها، فبادرت ابنتها ومدت يدها لتساعدها، لكنها أبعدت يدها ونهرتها وطلبت منها أن تبقى في مقعدها، وقالت مكابرة إن رعشة يدها هي السبب. بعد أن أضاءت الشمعة الثالثة قالت كلمات ترحيب ودعوة للبدء، المليكة تعطي الإشارة لابنتها أن تبدأ الضيافة.
شكرتها ولم تمتثل يومها لذلك الهاجس الذي كان يشدك نحو القول “آمل أن آتي المرة القادمة وأجدك هنا”. عبّرت ككل مرة عن سرورك بزيارتها واعتزازك بصداقتها وفرحتك بحديثها، وشكرتها على ما تعلّمته منها كل هذه السنوات وهي تعبر نحو التسعين من عمرها المديد. لكن غصة كانت تساورك: هل ستراها مرة أخرى؟
سنة مرة على تلك الزيارة، سنة اختلفت فيها الحال، حال الشجرة ومام، كنت تجلس على المقعد ذاته وتتأمل الشجرة ذاتها والتشبيه الذي عقدته بينهما، التشبيه يهتز، لا تريده أن يهتز.
•••
تغادر المقعد والصورة التي رأيتها اليوم تحاول اقتحام المشهد واحتلال مكان الصورة الراسخة. تمشي مثقلاً بالتساؤل الذي ساورك في الزيارة السابقة، تمشي وانت تشعر بثقله يزداد ويزداد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى