الشجاعة الفكرية
رحاب يوسف | قاصة وكاتبة وتربوية
إنَّ الدماغ البشري قائمٌ على القصور الذهني، فالشجاعة الفكرية أن تدخل الى دماغك، وتسأل نفسك عن أية معلومة: “أهذه صحيحة ام خاطئة؟”، هذا ما يسمونه “القدرة على تحمل الغموض”، عندما يعيش الإنسان في قطيع يشعر بالأمان، لأن كل الامور تكون محسومة، والاسئلة أجوبتها جاهزة، لكن عندما تسرح بذهنك، وتكتشف النظريات والآراء، تكون قادراً عندها على تحمل الغموض، فتجد نفسك في خوضٍ دائم في الظلام والغموض واستيعاب الرأي المضاد؛ لأنك تعرف كل وجهات النظر، فهذا ما يسمونه في علم النفس “التفتح الذهني”، وهو أن تدرك الرأي المخالف لك وتستوعبه، فلا تغلق أذنيك عن سماعه، ولا يشكّل لك أية معضلة تنتج عنها هدم العلاقات والصلات التي قد تصل إلى حروب، فمَن يعارضك الرأي ليس بشيطان.
عملية الوصول إلى الحقيقة عملية مستمرة، ستقضي عمرَك تبحث عنها، فهي تعطيك هدفا لحياتك، ومتعة الاكتشاف المستمر عن الغامض والمجهول؛ لأنها نمط حياة لدى الشجاع فكرياً، حتى وإن وصل إلى قناعة معينة، وإجابة لكل التساؤلات التي تدور في ذهنه، سيغيرها مستقبلا إن اكتشف أنه يسير على الطريق الخاطئ؛ لأنه في بحث مستمر عن الحقيقة، لا عن إثبات وجهة نظره المسبقة.
ستصل إلى الشجاعة الفكرية عندما تواجه نفسك، وتقلع عن فلسفةٍ كنت مقتنعاً أنها صحيحة، وإن سرتَ عليها سنوات طويلة، وتعترف أنك كنتَ مخطئاً، أذكر أنني كنت مقتنعة أن التفوق الأكاديمي هو أساس صلاح المجتمع، وأدعمه بكل ما أوتيتُ من قوة وأدوات، ظناً مني أنه الدعامة الوحيدة التي يرتكز عليها المجتمع، ليتبين لي كم من متفوقٍ استطاعت شهاداته تدفئة الجدار المعلقة عليه، وعجزت عن تدفئة قلب أمه التي تركها خارج البيت، أو في دار المسنين.
أحدِثْ ثورة فكرية في عقلك، فلا يكن فكرك ببغاوياً ولا مشلولا، ترددُ ما يردده الآخرون، تساءل! ابحث! اكتشف! عبّر! قل رأيك دون أن تقلل شأنا، أو تجرح كرامة، أو تتجاوز حدود الدين، اسأل ولا تسمح لأحد أن يحجر تفكيرك، أو يقمع سؤالك، فقد سأل سيدنا موسى – عليه السلام- الله – سبحانه وتعالى: “رب أرني كيف تحيي الموتى”، وسيدنا عمر- رضي الله عنه – كان يقرّب منه المستشارين كثيري الأسئلة.
مخيفٌ أن تخدعك أفكارك، معظم الأحيان تتسلل إلينا أفكارٌ نُخدَع بها، نكتشف بعد عشرات السنين أننا مخطئين، معظمنا ننتخب أفكارنا بدوافع عاطفية، المعجم عاطفي، واللغة عاطفية، حتى نسعد ببعضنا البعض نختار نفس الأفكار، وننتمي إلى نفس المنظومات، فالدماغ فيه مراكز للتحركات العاطفية والمحاكمات العقلية.
يقول الشافعي :
وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ
وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا
وَلَستُ بِهَيّابٍ لِمَن لا يَهابُني
وَلَستُ أَرى لِلمَرءِ ما لا يَرى لِيا
فَإِن تَدنُ مِنّي تَدنُ مِنكَ مَوَدَّتي
وَإِن تَنأَ عَنّي تَلقَني عَنكَ نائِيا
كِلانا غَنيٌّ عَن أَخيهِ حَياتَهُ
وَنَحنُ إِذا مِتنا أَشَدُّ تَغانِيا
يكفي أن تُحِبّ أخاك المسلم حتى تعمى عن مساوئه، عندما تسخط على صديق تنقلب عليه، والذي يترفع عن هذا المستوى يكون ولياً من أولياء الله، احكم على نفسك بنفس الصرامة التي تحكم بها على الناس.
عندما تعارض ناقش دون سباب ومهاترات، عوّد نفسك أن تقتبس الحكمة، وتلتمسها حتى من الكفار، يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم : “الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها”.
طيلة فترة تدريسي لم تتلاق أفكاري وأفكار زميلاتي قط، فلايوجد مواضيعَ مشتركة تقربنا من بعضنا البعض، أذهب الى الدوام محمّلةً بما قرأته لجلال الدين الرومي، وشمس الدين التبريزي، وابن القيم، وابن الجوزي، وغيرهم، فأجد المواضيع المطروحة في الاستراحة وما بين الحصص حول الطبيخ الذي لا أعرف عنه شيئا، فأنا لا أُجيد أعمال المطبخ كلها، وأحاديث حول زوجٍ تتباهى به إحداهنّ وتختبئ خلفه، فأنا لا أتفاخر بأبي وأخي، وهما يعادلان أمّة بأسرها! ومع هذا أنخرط وأندمج مضطرة حتى لا ألغي أي فكرٍ يعارض فكري.