قراءة في مجموعة (شقائق النعمان) للكاتبة الفلسطينية رحاب يوسف

د. حسام إلهامي | أكاديمي مصري

تشريح القهر وإرادة المقاومة

بصرخة أدبية عذبة، تناضل الكاتبة والقاصة الفلسطينية رحاب يوسف بقلمها وحكايتها ضد الاحتلال والقهر والتمييز والتنمر والعنصرية والطبقية، وذلك عبر قصص واقعية شفافة، ترصد دقائق وتفاصيل حياة إناث فلسطينيات من أعمار وأقدار مختلفة، يعشن حياة اللجوء بالمخيمات والقرى والبلدات المحتلة.

عبر صفحات المجموعة وقصصها البالغ عددها 15 قصة قصيرة تصدمنا رحاب يوسف بالعديد من التفاصيل والمشاهد الغائبة عن مخيلتنا، والتي تدور بين أشجار التفاح، تحت رذار المطر، فوق مروج خضراء، صقيع الثلوج، ولكنها في الوقت ذاته مسكونة بأصناف من القهر والعنف والظلم والطمع والشر، حيث تحلل وتشرح رحاب يوسف مجتمع المقهورين الذي يتجه حتمًا إلى إعادة إنتاج القهر على ذاته وعلى من فيه. 

نلمح بين سطور المجموعة ملامح قهر يومي معتق، ولكن ليس فقط وهو يحدث للفتاة والمرأة الفلسطينية، بل وهو منطبع منقوش على نفسيتها المقهورة، ومشاعرها المنهكة، وأفكارها المشتتة، وآمالها وأحلامها المحبطة في التغيير، وفي أبسط الحقوق التي ينعم بها سائر البشر على سطح الكوكب، حق العيش والوجود!. 

تستعرض رحاب يوسف دقائق تفاصيل الحياة التي تعيشها المرأة الفلسطينية بالمخيمات وكيف تعاني المرأة الفسطينية من قهر مزدوج؛ قهر الاحتلال والقهر المجتمعي، فبرغم أحلامهن البسيطة، كصلاة في مسجدٍ أو قطعة حلوى أو التحاقٍ بمدرسة أو معاملة عادلة إنسانية، أو بقاء في منزل عُلقت على جدرانه الذكريات. برغم بساطة الأحلام وعفويتها يُحال بسادية مفرطة بينهن وبين ما يطمحن إليه. 

يبتعد السرد والحكي في قصص المجموعة عن المباشرة والخطابية في التناول، ليسحبنا بصور بلاغية عميقة تصف دقائق الواقع المادي والنفسي لفتيات ونساء المخيمات الفلسطينية، فنجد أنفسنا وقد صرنا أمام مشاهد عميقة دالة نطالعها من خلف غلالة شفافة نسيجها مشاعر البشر وآلامهم وعذاباتهم وتساؤلاتهم عن حقوقهم المشروعة التي وجدوها تسلب منهم في غفلة أو تغافل من سائر البشر.

ولعل من أفضل وأهم ما يميز مجموعة (شقائق النعمان) لرحاب يوسف ما يمكن أن اسميه تلك المنطقية الواعية في سرد ووصف التدعيات النفسية للشخصيات، فحين نطالع الوصف الذي تقدمه الكاتبة لمشاعر بطلاتها وصدماتهن وتحولاتهن النفسية العنيفة جراء ما يتعرضن له من قهر متعدد الطبقات، لن نجد أمامنا حدثًا أو شعورًا أو فعلًا أو قرارًا غير مبرر أو غير منطقي أو مفتعل، بل على العكس، كانت الكاتبة حريصة على وصف تلك التداعيات والشروخ النفسية وصفًا منطقيًا؛ لتصبح تفاصيل معاناة بطلات قصصها وآلامهن ومآلاتهن النفسية منطقية خالية من أي مبالغة مفرطة أو نقص مخل أو افتعال أو خطابة جوفاء، لو وجدت لأفقدت العمل الكثير من عمقه وجماله. 

أغلب شخصيات قصص المجموعة يبدين في مرحلة ما عجزًا عن مواجهة القهر، ولكنهن في النهايات الصادمة المثيرة للدهشة والتأمل يعاودن التصميم على اتخاذ موقف، فيقررن الوقوف في وجه القهر، فبرغم كل ما جرى ويجري لتلك الشخصيات سنجد لهن قرارات حاسمة بالصمود، فلأول وهلة نرى أنقاض بشر، ولكن مع السير قدمًا بين السطور نكتشف أننا أمام شخصيات مصممة على الحياة، بكل ما أوتيت من قوة وصلابة تثير الدهشة.  

ربما مع استثناءات بسيطة لشخصيات لا تجد حيلة أمام قهر الجماعة التي تعيش في كنفها إلا الانزواء عنها، كتعبيرٍ منهن عن رفض حاد لما جرى ويجري، فتلجأ بعضهن إلى حلولٍ قد تزيد من تعذيب الذات، دلالة على أن القهر بلغ منتهاه. 

وهى حيلة أدبية ترتكبها الكاتبة قصدًا على ما اعتقد، أدت إلى جانب صدمة القارئ إلى تعاطفه مع الشخصيات، وتكوينه لموقف مضاد للقهر، يخرج منه موقنًا بضرورة التعجيل بإنهاء أسباب القهر الذي يمارس بحق شخوص قصصها ممن دُفعن دفعًا حتميًا لتلك النهايات المأسوية.

الشئ الملفت في المجموعة أن أغلب النهايات تنتهي بأبطالها إلى رغبة عارمة في المقاومة والفعل والتغيير والتشبث بأمل يقيني بزوال المحتل، وزوال أسباب القهر، إلا في القصص التي جاء مصدر القهر فيها من المجتمع المقهور لا من المحتل، فكانت الشخصيات أكثر استسلامًا لحزنها، أقرب لليأس منها إلى محاولة التغيير، نجد ذلك مثلًا في قصة (الليل لوني)، حيث تفضل الفتاة السمراء التي تعاني التنمر العمى والانسحاب والانزواء، وكذلك الفتاة التي عانت تمييز معلميها وأقرانها بالمدرسة لكونها راعية للغنم نجدها تفضل ترك المدرسة والانطلاق إلى أحضان الطبيعة، وكأن الكاتبة تقول لنا إن تغيير المجتمع أشق وأصعب من مقاومة المحتل. المحتل إلى زوال مهما طال الزمن، أما المعركة الكبرى فهى مع ذواتنا، وهو ما يحيل إلى فكرة الباحث اللبناني المتخصص في علم النفس د. مصطفى حجازي عن “سيكولوجية الإنسان المقهور”، كذلك إلى المحاولة الرائدة لأديب نوبل العالمي نجيب محفوظ في رائعته (القاهرة الجديدة) التي صدرت عام 1945م والتي نبهت إلى ضرورة الانتباه إلى ما هو اجتماعي نفسي وإلى ذواتنا، بالقدر الذي ننتبه فيه إلى سوءات المحتل الخارجي.

تتوحد يوسف مع بطلات قصصها، تصير جزءًا منهم تستخدم في كثير من الأحيان السرد الأحادي على ألسنتهم، وقليلا ما تكون راويًا خارجيًا عليمًا بما يُرى في المشهد من تناقضات. 

 تتركنا النهايات في قصص رحاب يوسف في صدمة عنيفة وذهول وتعاطف مع شخوصها، التي يدفعها القهر إلى انفراط الذات وفقدانها على نحو تصعب معه لملمتها واستعادتها؛ مما يعمق لدى القارئ الشعور بالقهر الذي تعانيه الشخصيات، وتتركه في ذهوله راغبًا – رغمًا عنه – في تأمل مفردات القهر، ومسبباته عازمًا في صدق على تغيير الواقع واسترداد انسانيته.  

يذكر أن رحاب يوسف كاتبة وتربوية، وقاصّة فلسطينية، تسكن طولكرم، حاصلة على بكالوروس في اللغة العربية وآدابها من جامعة النجاح الوطنية.

صدر لها العديد من الكتب في المجال التربوي والفكري والفلسفي، قبل أن تصدر مؤخرًا مجموعتها القصصية (شقائق النعمان) كما يصدر لها قريبًا روايتين. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى