لهذه الأسباب.. نظام التعليم الفنلندي الأفضل عالميا

د. علي زين العابدين الحسيني | القاهرة – مصر

يستعجب البعض من قوة التعليم الفنلندي الذي بات في صدارة المتصدرين، حيث أصبحت دولة “فنلندا” الواقعة في شمال أوربا من أقوى دول العالم في المجال المعرفي، ووفقاً لتقرير “التنافسية العالمية” فقد احتلت هذه الدولة المركز الأول عالمياً عام 2015م في النواحي التعليمية، مما جعل الحريصين على العملية التعليمية يسعون بكلّ طاقاتهم في الاطلاع على هذه التجربة، ومحاولة استنساخ أدوات التعليم منها، ولا عجبَ حينئذٍ أن تصبح ملتقى آمال الدول الحريصة، وقد أرجع المهمتون بهذا المجال أسباب نجاحها إلى عدة أمور، منها المساواة بين الطلاب، والارتباط الأصيل الحاصل بين المعلم والطالب، واختيار المعلم بشروطٍ معينةٍ واحترافيةٍ كبيرةٍ، والتركيز على العمق في المضمون المدروس، وإعطاء المعلم الحرية التامة في اختيار المنهج الموافق لمستوى طلابه، إلى جانب زيادة عدد ساعات الراحة للمعلمين، وعدم إشغالهم بالأمور الإدارية الخارجة عن نطاق التدريس، والتي بدورها تكون عائقاً -كما هو ظاهر- عن جودة الدراسة، وغير ذلك، لكن أهم الأسباب في سرّ تفوق هذا البلد يرجع من وجهة نظري إلى ثلاثة أمور، أحدها: أن التعليم يمثل جزءاً من هوية البلد، فليس على هامش الحياة اليومية، بل هو جزء أساسيّ في حياة المجتمع الفنلندي، وقد أدى ذلك إلى نشأة الطلاب منذ صغرهم على محبة المعرفة، فيمتلك كل الطلاب الدافعية نحو التعلم، وهم مخيرون في اختيار أغلب المواد المناسبة لميولاتهم الشخصية، وفي حريةٍ تامةٍ لاختيار التخصص الذي يرغبون فيه مستقبلاً، إضافة إلى كون المدرسة ليس وحشاً كريهاً أو مكاناً بغيضاً لديهم؛ لأنها تحولت إلى أماكن متعة وتسليةٍ، علاوة على وجود الحوافز في التعليم من العواطف الظاهرة والباطنة التي تدعو إلى المثابرة وبذل الجهد المتواصل، وبذلك خرجت المدارس عن النمط المعهود إلى مصدر من مصادر السعادة، حتى الفصول الدراسية اختلفت عن أسلوبها المستقر في أذهاننا، فاستحدثوا كثيراً من الأشكال الجديدة التي تتجدد باستمرار، والتي بدورها تساعد المعلمين على تسيير العملية التعليمية بكل يسر مما يساعدهم على نجاح الحصة الدراسية، ويمكن تحويل الفصل الدراسي الواحد من خلال الإعداد المحكم المسبق إلى عدة أشكال حسب طبيعة المادة المدروسة، فعلى سبيل المثال قد تحتاج مادة الرياضيات من الإمكانيات والوسائل وأماكن الجلوس ما يختلف بطبيعة الحال عن مادة اللغويات، وهكذا، وثانيها: أنه سبق الاهتمام بالتعليم في المدارس والجامعة بسنوات ما يمكن أن أطلق عليه “التعبئة العامة المجتمعية للثقافة ونشر المعرفة”، وحسبك لمعرفة الجهد المبذول من هذه الدولة في مجال الثقافة أن أنقل لك ما كتبه الكاتب الأستاذ سلامة موسى في كتابه “كيف نربي أنفسنا” حيث قال: “حسب القارئ أن يعرف أنّ فنلندا يقلّ سكانها عن أربعة ملايين ومع ذلك فيها ٢٠٩ من الجرائد اليومية و٥٥٧ مجلة أسبوعية وشهرية، ولكل من هذه الصحف قوة التوليد في الثقافة، هذا التوليد الذي هو الفرق الأساسي بين أمم الغرب الناهضة وأمم الشرق القاعدة”، وهذا الكلام السابق لم يكتب سنة 2015م كما تظن، بل قد كتبه سلامة موسى بالقاهرة في شهر مايو سنة 1958م، وهو نصٌ فريد عزيز لكاتبٍ مهتم بالنواحي الثقافية والتعليمية على حد سواء، وله في ذلك الكتب المشهورة، ومفاده أن مسألة النبوغ التعليمي في هذه الدولة لم تكن وليدة لحظات معينة، بل سبقتها سنوات من العمل والجهد المتواصل في إحياء بواعث المعرفة والوعي الكامل بأهمية العلم، وهذا الوعي شمل كافة أفراد المجتمع مما ساعد على التطور الملحوظ في التعليم خلال فترة وجيزة، حتى أصبحت ظاهرة فريدة عالمية تقام حولها الدراسات، وتكتب في تجربتها الكتب والمقالات، وثالثها: التعليم الذاتي ويعنى به تلك الإجراءات لإدارة عملية التعليم؛ بحيث يندمج المعلم بمهمات تعليمية مناسبة لحاجات وقدرات المتعلمين على اختلاف مستوياته المعرفية والعقلية، فهناك جزء كبير من الدراسة اليومية يعتمد فيها الطالب على نفسه، حيث يركزون على فكرة تعليم الطالب نفسه بنفسه، وقد بدأوا فعلاً في إعفاء المعلم من واجباته الروتينية التي تستنفذ قوته وتقضي على جهوده؛ كحال مدارسنا اليوم، وأفضل وصف لها “أننا انشغلنا بكلّ شيء إلا التعليم”، وحملته الإدارة مسؤوليات أخرى تساعد المتعلمين، من أهمها اختيار المنهج المناسب لكلّ فصلٍ من الفصول، وقد يكون هناك عدة فصول للمرحلة الدراسية الواحدة، ولكلّ فصلٍ منهجه الخاص به، وهذه الثلاث: التعليمُ هويةُ بلدٍ، وتوليدُ الثقافةِ المجتمعية، والتعليمُ الذاتيّ كافيةٌ لنجاح أيّ مشروع علميّ.