قراءة نقديّة في قصص العقاد الثائرة الوجوديّة

روان أحمد شقورة | أديبة وناقدة

اقتبس ينبوع  الشعر من السماء، وينبوع النثر من الأرض، وكلاهما نُسج حروفهما على أوراق حياة البشر، ونُقشت تلك الحياة بِعَمَدَ النقد الإبداعي لِكتابات أدب الوجود…

فالنقد دم النبض في الأدب، فإنّ سقط اندثر خيال الشعر، وهوى النثر، وحركة الأرض حول نفسها وكائناتها، فحينها يتساوى العدم والوجود على تراب الأنام…

ففي هذه اللحظة من حزيران، قررتُ أَنْ أنتقي كتاب أدبي ” حين تموت العصافير لا تفكروا في إيقاظها “، ذلك الكتاب الذي يضج بغرابة قصصه الحياتية المنسوجة بكلمات الخيال، فزاوج الكاتب بين هموم واقعه الخاصة وانعكاسات المشهد العام، فانعكست القصص من أنا النفس إلى العام في واقع الوجود الزماني…

– وسأبدأ قراءتي النقدية باستنطاق النصوص القصصية النثرية، ودلالاتها، وأسلوبها، وجمالها، وبناء فنها وأبعادها.

– عتبات عنوان الكتاب: جاء العنوان براق بسياقه الأسلوبي والمعنوي، فأول ما يبصره القارئ هو صورة أحرف أبجدية الكتاب، فهو الذي يُلقي ظلاله على فكر الكاتب الذي يبحث عنه القارئ ؛ ليسكن نفسه الباحثة التائه عنه…

فبدأ بظرف الزمان-حين-؛لِدلالة على وقت زمني مفتوح غير محدد، فقد يكون زمن مضى، أو زمن يُعاش، أو زمن سيُعاش في المستقبل، وهو مضاف، الذي أُسند إلى المضاف إليه الجملة-تموت العصافير لا تفكروا في إيقاظها-، فجاء الفعل مضارع-تموت-؛ لدلالة على استمرارية الحدث الموت والفناء الواقع على الأحداث والشخصيات الواقعة في صفحات القصص والواقع المعاش ، الذي اقتبست منه شخصيات الكاتب  فمازال الموت قائم ومستمر، وجاء فاعلها-العصافير- رمز لشعبه، ورمز لشعبه بالعصافير؛ لِدلالة على الهشاشة، فالعصافير من الطيور الغير جارحة، كما أنّها تدل على التشتت وعدم الاستقرار والغربة؛ فالعصافير دوماً مهاجرة في أرجاء العالم دون استقرار، وهذا ما حدث مع الشخصيات القصصية التي نُسجت من واقع الكاتب اللاجئ، وهذا الرمز الذي استخدمه الكاتب يبرز الانتماء السياسي والاجتماعي الذي يتبناه، فمن ناحية اجتماعية، حيث يدعو إلى إزالة الفروق والطبقات العنصرية بين الأنام، فالأصل الآدمي من تراب، ومن ناحية سياسية، حيث يدعو إلى المذهب الماركسي الاشتراكي  فهو مع الشعب وليس مع الطبقة الحاكمة، مع آلام الناس وليس مع تطيب جراح الأغنياء، فالوطن وحكمه وخيراته لشعب، ثم أُتبع بأسلوب إنشائي نهي- لا تفكروا في إيقاظها-، لدلاتين ظاهرة غير مرادة؛ حيث موت الجسد وقتلها، فإذا فُني فعليكم تركه في سباته وموته، فيدل على عدم الثورة على الوضع القائم الذي أمات وجودهم، وباطنة المرادة من المعنى وهي المرادة، حيث الموت المقصود هو موت الروح والحياة والفرح والجمال فهذه الروح إن فقدت بهجتها فلن تيقظ مهما حاولتم إيقاظها، فخاطب الفاعل الذي يُحاول إيقاظها بواو الجماعة ضمير متصل بالفعل تفكر؛ للعموم والشمول، حيثُ لم يحدد ويذكر من هو الفاعل تخصيصاً، فقد يكون الفاعل هو فلسطيني مغترب أو عربي مصري أو لبناني أو سعودي أو عراقي أو جزائري…أو أوروبي أو أمريكي.

وجاء السياق التركيبي شبه جملة ضعيفة-حين تموت العصافير لا تفكروا في إيقاظها-؛لِدلالة على الضعف وهشاشة ذلك الواقع، ففي هذه الفكرة المطروحة في السياق يَقف القارئ متفتح الذهن على عدة تساؤلات:

لماذا ماتت العصافير؟

كيف ماتت؟

لماذا لا نيقظها؟

–   عتبات الإهداء: عند قراءة الإهداء، يَلج بالنفس حزن دفين ذاتي إنساني، حيثُ وجه الكاتب قصصه إلى امرأة مكسورة في وجدانها وكبرياءها وشُموخها أمام مرآة قسمات نفسها؛ لِتجبر وتَقوى على الصمود في حياة الفراق المضني النازف من نبض الفؤاد، فأسدل ستائر صفاتها حين قال: -لتُمعن النظر في انكسارِ شامتها-، فهي أُنثى تجلد نفسها؛ لِتواصل الحياة، ثُم يَظهر الحُنو العاطفي لِلكاتب، حيثُ وسمها برقة -حبيبتي- ،ثُم يُردف ويهدي إلى طِفْلَيها، فعلى الرغم من الفقد والفراق بينهما إلا أنه ما زال يستأثر بحبه لها، وأصالة مشاعره العذرية الطاهرة الصادقة الحقيقية، وما زال يَغزل ويَنقش ماضيه بإهداء إلى المنزل القديم، وانتقى المنزل؛ لِدلالة على السكون والطمأنينة والراحة، ثُم أَقفل بزمن الساعة الحادية عشرة؛ لِإشراك زمن معين في مشاعره الوجدانيّة، وعند الإمعان في معاني ورموز الإهداء، يُبنى صرح من المعاني الرمزيّة، فالأُنثى، ليست كيان مادي جسدي، فالأُنثى وطن محتضر، عُمر مغتصب، أُمنية مطفأة، روح في جسد، مُضغة في قلب، زهرة في شتلة، عُطر في النسيم، شمس في السّما، عين في القلب، أمل في سجن.

فهُنا بين ثنايا الإهداء، قد تكون الأُنثى وطن مُحتضر، يُجمع أشلاءه المتبقية أمام مرآة الواقع الهش، الذي تَم اغتصابه والاعتداء على عذريتِه الطاهرة، فأَنجب غُرباء لُقطاء من رحمه، فأهدى الوطن والأرض والبيت ؛ لدلالة على التمسك والبعد التاريخي الُمتجذر في ذلك الكائن الفلسطيني، وحدد الساعة الحادية عشرة؛ لِدلالة على عقرب دنو الزمن، واقتراب النهاية الأزليّة، حيثُ كان لنا هُناك وطن في ربوع منزلنا التاريخي القديم يضج بالحب والسكينة، والهوية الأصلية إلا أنها سُلبت على يد باطش مغتصب، فتَظهر حنكة معنى الحروف في غزلِها، فقد يتخفى ويتوارى المعنى في ظل ألفاظ وقشور سطحيّة، تظهر للقارئ لِلوهلة الأولى بمعناها الظاهر للعين، ولكن عند الإمعان والتذوق الجمالي لنص، يَبزغ الخيال والتصميم الفني للفكرة بالرمزيّة العميقة، ويبقى خيط خفي يجمع بين المعنى الظاهر والخفي بوساطة التأمل الفكري والصفاء الذهني…

– عتبات عناوين القصص ودلالاتها: غُزلت العناوين ببراعة فنيّة، تفتح قريحة عقل المتلقي، فترصد العين ثورة تختلج النفس، فينطقها بشفاه القلم ما لم يستطع تطبيق وجوده في الواقع؛ فيأمل ويحلم في تحقيقه في مثال الخيال الأفلاطونيّ…

ففي عنوان القصة الأولى الذي يعتبر فاتحة القصص(حين تمرد الاسكافي) فاستوقفني العنوان بفعله-تمرد- على وزن تفعّل ؛لتكلف والمبالغة، فرغب في حصول التمرد والثورة التي تسكن كيانه، وهُنا يبرُز الجانب الثوري الهائج القابع في قرارة النفس، وجاء فاعلها-الاسكافي-؛لِدلالة على التاريخ والعراقة والأصالة، فقد استبدل اسم صاحب هذه المهنة بتاجر الأحذية، وأصبح استعمال اسم صاحب هذه المهنة شبه مندثر، وبتخصيص هذه المهنة، يُؤكد انتماءه وبعده الاجتماعي والسياسي، فانظر إلى براعة النسج، حين أُطلق الفاعل بالعموم دون ذكر وتحديد شخص معين، وهُنا يظهر التوافق والانسجام بين الظرف الزمان-حين-الذي أُطلق للعموم، والفاعل –الإسكافي- للعموم، كما أنه أَطلق العموم في الثورة، حيثُ لم يحدد على ماذا تمرّد، هل تمرّد على مهنته؟ أم تمرّد على تاريخه؟ أم تمرّد على واقعه؟ أم تمرّد على ساسته؟ أم تمرّد على ظلم رعيته؟ أم تمرّد على عجزه؟ أم تمرّد على يأسه؟ أم تمرّد على حبه؟ أم تمرّد على نفسه؟

 وتمرّد الكاتب على الوجود بأسره في حلقات القصص :”رسالة إلى الشخص المختبئ تحت جلدي، محاولة كذب بائسة، عادة أكثر من عادية، هدية فاخرة،، وسادتان، منتهى السرية لرغبة حقيقية، أجمل ذبابة، انتقام آدمي، تبكي فيبتل عجزاً في مكانه، أرملة تنجب أطفالاً من عينيها، بحث عن نهاية مأساوية، حاجة ماسة لتوبيخ، أريانا، لعنة الثالث عشر، حب ما زال حياً، رأسي في طبق فش!”، فقد تمرّد على نفسه ومشاعره، فحاول بائساً؛ لتغير عادات عادية، ثُم قرر التمرد على الطبقيّة، والحياة السياسيّة، والعادات الاجتماعيّة.

وفي عناوين القصص “تشخيص خاطئ لطبيب نفسي، أحدب العشرينات، خمسة جثث، امرأة تقتل رجلاً، إدراك عجوز، لؤلؤة ملعونة” فجاءت أبعاد الأفكار لِلقصص معنوية؛ لِفكرة الموت، فالموت المعهود ما هو إلا فناء لِلجسد، وهو نهاية حتمية مهما شاط قطار الزمان، ولكنّ الموت هُنا كان معنويًا، موتاً أشد قسوةً على النفس من فناء الجسد، فرابطة الموت هُنا موت الإحساس والأمل والهدف والحب و اللقاء والوصال والفرح والسعادة والضحكة الصادقة والطموح والقوة والذات.

ففي ذلك الموطن فُني الجسد، وامتزج بتراب اللجوء، فأنبتَ بُذور الأجساد من نُطف تحت تراب، ولكن ماذا تفيد زهور الشباب، التي نضجت حالمة في موطن هويتها وأحلامها وذاتها في ظل غياب حقوقها وأرضها و اقتلاع جذورها من يدٍ ظالمة داعية النسب؟؟

ويتجلى الموت ودلالاته في التضاد بين الأشياء في الحياة بواسطة العناوين: “أحدب العشرينات “، حيثُ تقوس ظهر الشباب، وانحنت زهوره مع انحناء قتل الهدف، وذبلت أوراقه مع نفاذ ماء شعور الإحساس ، وغياب شمس الأمل، و”لؤلؤة ملعونة” فتلك اللؤلؤة المنتقى، هي موطن الكاتب التي انتقت من بين الدول؛ لتهجر وتطمس معالم تاريخها ووجودها على شَرف الأرض، فلُعنت وتُركت في غياهب الاحتضار الروحي والجسدي منادية؛ لاستغاثة أولادها: واه شرفاه، ولكن دون ملبي أو مخلص.

وفي “امرأة ميتة تقتل رجلاً “وما أشبه تلك المرأة بالوطن، ذلك الوطن الذي قتل وقطع رجاله؛ لحب جرى في أوردتهم وشرايينهم نابضاً خافقاً في أحلام أحضانه الحانيّة في أضلعها.

وما زال الموت بصوره المعنوية في القصص: ” مُهّجر، إقامة، مخبول، مكانان” حيثُ كان الموت فراق الوطن والهوية والأرض والحق… فجاء نتاجه؛ الاغتراب المفعم بالحزن، والخيال الهارب من ظلال قسوة وطأة الواقع في باقٍ القصص “حبيبتي لا تنجب، أمنيات محشوة، رقصة الظّل، هذا الموت يسعدني، رحلات لا تنتهي إلى الألم، عادة التكرار لا تموت رغم موتها”، حيثُ مات بداخله كل ما هو جميل للروح، فأكد سرد قلمه تناقض الرغبات في “سجن وردي، رسائل خائفة”، حيثُ بزغ الأمل، ولكنّه كان أملاً مرتجفاً زائفاً، عندما ظهر الحب الوردي مرتدياً ثوبه في قيد سجين، ورسائل عشق خائفة في بوح مشاعرها، فيظهر أفق السواد في العنوانين، فالحب ليس مجرد عشق متيم بين رجل وامرأة، الحب شامل لكل الوجود، حيث اختبئ الحب موارياً؛ لِواقع اعتاد القسوة والجبروت، ففي ذلك الواقع انتزع جلد إنسانية الإنسان في ظل عديمة الوجود والحياة عن بقاع الآدميين، فما الحب إلا رمز لِلقسوة والجبروت التي يُعاني منها ذلك المواطن عند خلوة نفسه في ظلام غرفة الليل، فأسدل الستار بلوم وعتاب وتأنيب لِسارق البسمة في قصة “سارق الابتسامة”، ذلك اللص المعنوي لِلحياة، لصٌ سرق الأمل والحياة…لصٌ ما زال قابعًا في ذلك الموطن، يتسلل في غير عهده في وضح النهار أمام أعين البشر في  داخل وخارج الدّيار، لصٌ لم يصدر حكم إدانته أمام القضاء، بل حصل على رُتبة شَرف تلويث الهواء والتراب، ولكنّ الكاتب أُصيب بنوبة الشك بالموت والحزن المربى بداخله، لِيشك في أمور الأشياء، ويتردد بين النفي والإثبات، ويتوقف عن الحُكم، ويترك تساؤلات جمة تعج بضجيج الاستفهام في ذهن عقل القارئ في قصص” أُحاول معرفتي، ميت أم نائم؟، بينما أنا أفكر يحدث الكثير، لعنة قديمة تحكي جُثة، رائحة الأشياء، خطة متبعة، ماذا بعد أحبكِ؟” فتجلت ثقافة فكريّة وجدانيّة في نفس الكاتب عبر مشاعر مختلطة، تاهت في الرجحان بين الحقيقة والخيال، الخبر والسؤال، فيبحث ويتساءل عنها في شتى الطرق، فلم يعد على يقين بروحه: أكانت نائمة أم ميتة؟، فيُفكر ويعصر خلايا عقله، ثُم تطرد وتستبعد النهاية في الوجود للآدمي، ثُم يتساءل بتفحص: هل لِفقد الأشياء رائحة؟ هل للوحدة الصامتة رائحة؟ أم بفقدها نفقد جزء من أنفسنا؟ أم بفقدها نفقد أرواحنا؟، فترك الإجابة عالقة في ذهن المتلقي، وازداد الثقب تساؤلاً عند : ماذا بعد كلمة أحبكِ؟ تلك الكلمة، التي تداولت على الأُلسن منذ ارتقاء العلاقة العاطفية في القدم إلى وقتنا الحالي، كلمة تقف عندها الأرواح عن الكلام، يتساءل من لم يقع بقصتها: ماذا بعد نطق كلمة أحبكِ؟، أكان عناق؟ أم كان رفض؟ أم كان غياب؟ أم كان عتاب؟

وقلبت الأمور الحياتية في “أجمل ذبابة” فالذبابة معهودة ببغضها وإزعاجها عند البشر، ولكن هُنا الرؤية مغايرة، وهُنا يكمن الإبداع والتصوير والوصف للواقع، فقد قُلبت الحقائق، وزور التاريخ، فتقبله العالم بل رأى في قبحه جمالاً، وتكررت الفكرة في “أريانا” تلك الفتاة المرموز لها بالمرح والجمال والبساطة والحب، فتحولت إلى رمز الحزن والمرارة والقهر، فما زالت الأشياء تقلب حقيقتها على أيدي بربرية، وفي قصة “لعنة الثالث عشر “تلك اللعنة المصابة في ذلك اليوم تشابه لعنت النكبة في يوم الطرد من الهوية والجذور، فتحولت تلك اللعنة في القصة والواقع إلى يوم حفل ميلاد طفل و أرض، تم إنجابهم بصعوبة في المخاض، فقلب الواقع، وأصبحت مدينتهم حزينة نهاراً، يتيماً ليلاً، وفي النهاية يقفل كتابة قصصه متمردًا في قصة “حين تموت العصافير لا تفكروا في إيقاظها”، حيثُ ابتدأ بالتمرد الظاهر وانتهى بالتمرد الباطن، فالجسد والروح انتفضوا على واقع التشرد واللجوء والذل والسخط والفقر والموت.

–  عتبات اللغة: اللغة ما هي إلا إشارات ورموز لمعاني فكرية منطقية، أو ومشاعر وجدانية إنسانية، أو مزيج بينهما، واللغة الأدبيّة ما هي إلا لغة فنية، تحاكي الواقع في جانب، وتنسج خيوطها في الخيال، وهذه الخيوط “السرد، الحوار، الوصف”، واللغة التي بين أيدينا، لغة شاعريّة بشكل عام، لغة تجنح للخيال، والإيجاز، لغة أنامل شاعر، مسك خيوط الشعر، فأضفاها على نثر قصصه، فجاءت لغة بعيدة عن التقرير والجمود، لغة تعج بالشحنات العاطفية، إنّها اللغة الشعرية النثرية، فاقرأ في قصة-هذا الموت يسعدني-: “أصبح كل ما هو مرئي أمامي يحتضر، خرابٌ مطلق، دخان متصاعد، ملامح غريبة، شقوق الجدران توحشت عليَّ لكتماني أنفاسها بالصور، والعناكب تتطاير بلا مخاط تستند إليه، الابتسامات  يخر ج صوتها من الصور المحطمة على الأرض، ويعلو. أصبحت الأشياء لا تُطاق بجنون،  جنون بلا شك أصاب كل شيء.”

فقد وصف حالته النفسية بصورة شاعريّة خيالية، حين شبه صور الجدران بخانق، والعناكب بطائرات تطير، وتحول الصور إلى أرواح تعلو بابتساماتها الجنونيّة، وبرع وأتقن حين استخدم اللغة النثرية الشعرية في حالة جنونه وخروج عقله عن السيطرة، ففي الجنون يختلط الواقع بالخيال إلى أن يصل لعدم القدرة عن التمييز بين الواقع والخيال، واللغة النثريّة الواقعيّة والشعريّة خياليّة، فمزج بين اللغتين حين امتزج عقله بهذيان خياله.

وأكثر في قصصه طريقة (السرد الذاتي)تقمص أحد شخصيات البطل، والتحدث على لسانه، وهي طريقة متبعة لغالبية الكتاب، فما الكاتب إلا إنسان، وما الإنسان إلا أنا اللسان التي تدور في نقسه وعقله وقلبه، ومن صعب المستحيل الانفصال عنها، فاقرأ في قصة-ماذا بعد أحبكِ؟-:” تساءلتُ مجددًا في نفسي متجاهلًا صوت الطبل الذي يقرع جدران رأسي من الداخل،  هل هناك رواية خالية من الرعب، أو التعب؟ تذكرت بأنني لم أقرأ، ولكنّي كتبت قصةً قصيرة بدايتها ابتسامة ونهايتها كلمة “أحبك”. كنت قد عشت تفاصيلها جيدًا، ولكنني لم أجدها هنا في دولاب الاقتباسات، أين اختفت ؟!”

فتقمص دور العاشق، ذلك العشق الصبا العذري الذي تهاذي به في معظم قصصه بخفاء في لسان الأبطال، العشق الأول صاحب النبض الأول، الذي يصعب على الإنسان فقدانه مهما شاخ الزمان، فذلك العشق الذي يربط في ذهن الشخص بعذريته بحياة، حب عذري طفولي كبراءة شاب في مقتبل الحياة، يعشقه لِطهارته، فهو يحب دون مقابل، حينها لا يريد سوى الوصال.

شاعت في القصص الحوار الداخلي، ذلك الحوار الذي يكون بين الشخص وذاته؛ لِينم عن وحدة تعتمر الكاتب، ووحدة كئيبة لِموطن الكاتب، فاقرأ حواره الداخلي في قصة-أحاول معرفتي-“في تلك اللحظة أيقنت أنني أصبحت حشرة لا أعرف شكلي ولا حتى نوعيتي، هل أنا دودة تأكل الأموات فأكلتني حتى أصبحت هي، أم أنني نحلة بجناحين مكسورين؟ “فيُحدث نفسه؛ ليعرف من يكون، فقد وصل إلى بؤرة مغلفة بالأسئلة عن كيانه، حين شعر بالوحدة والاغتراب، وها هنا يمتزج بمشاعر الإنسان اللاجئ، حين يسأل عن أدميته وقت فقدنها بل إقصاءها.

ولا يخلو الحوار الخارجي بين الشخصيات، ذلك الحوار الذي ناسب بين لغة كل شخصية، فلغة الحوار تناسب عقل شخصية المتكلم، فيظهر التفاوت اللغوي بين الشخصيات، وزاوج في اللغة بين العامية والفصحى في الحوار؛؛ليحاكي واقع الحديث الحياتي، فاقرأ الحوار بين الأصدقاء في قصة-انتقام ادمي-: “أخرجت لساني وضربت بورقتي الرابحة وضحكت باستهزاء،

–  وقلت: ها قد هزمتك للمرة الثانية كرر السؤال مرّة ثانية: ألم تسمعا شيئًا؟

–   رددت بعصبية :سمعنا… سمعنا صوت عربات إسعاف فلم نكثرت للأمر، لابد أن إحداهن تلد، وبقينا جالسين كما ترى.

–  ليست عربات إسعاف إنها عربات إطفاء! شبَّ حريق في منزل الدكتور الذي كنا عنده الأسبوع الماضي.

–   قلت بفرح: أووه يا صديقي، ، إنها العدالة الإلهية، لقد نال جزاءه ، ألم يكن جشعًا في التعامل معنا!

–  عدالة إلهية مرّة واحدة! منذ متى وأنت تؤمن بالعدالة الإلهية ! أين كمّ قميصك؟

– ضحك صديقنا الآخر وقال: أشعل به الحريق،  هل تشاركنا اللعب الآن؟

–   حسناً يا أوغاد، وزعوا الأوراق وأخبروني كيف؟”

فهذا الحوار البسيط يعكس فكر وعقلية كل شخص من أشخاص القصة، فظهرت سمة الاستهزاء والسخرية المشتركة بينهم، وتمرّدهم على الواقع، ومحاولة الثأر بأنفسهم لكل ظلم وبطش، وكما أن إشراك ورق اللعب في الحوار؛ لدلالة على لعبة الحياة المشابه للعبة الورق، فقد فاز المنتقم في اللعب مثل فوزه في الواقع من وجهة نظره، فقد حرق منزل من حرق قلبه ظلماً وبطشاً، فتظهر بخفية فكرة الكاتب ألا وهي الدعوة لِلانتقام من ظلم وبطش آدميته وآدمية كل إنسان…

وجاء وصف الأشياء المعنوية بدقة وإيجاز، فاقرأ في قصة-مكانان-:” والسعادة رجل كسول مخمور جاحد لم يفكر في زيارتنا مرة واحدة.”

فقد صور السعادة برجل كسول كثير الخمر لا يعي سلوكه، وجاحد ينكر ويكفر ويطرد السعادة على وجودنا و أرضنا، حتى لم يفكر في زيارة عابرة واحدة…

– عتبات الزمان والمكان: هما الإطار التي تحدث بهما أحداث القصة، وينقسما إلى زمن والمكان الكتابي، الذي كتب جلياً في زمن الحاضر للقرن الواحد والعشرين، في نهاية العام ألفين وتسعة عشر(2019م) وبداية العام الألفين وعشرين(2020م)، ومكان الكتابة هو مكان الرحيل والهروب من موطن يعج بالموت والفناء للحياة المادية والمعنويّة، فقد كان المكان غير مستقر وساكن، مكان يضج في الحزن واليأس في جنبات نفس الكاتب، والزمن والمكان القصصي الفني، وهو زمن الأحداث القصصية، فقد جاء الزمن متقاطع بين الماضي والحاضر، رابط بين فترة اللجوء وما تبعه وانعكس عليه من أوجاع وآهات، ففي قصة “حب ما زال حياً” ربط بين زمنين (نكبة الماضي، والحروب المتوالية على اللاجئين في غزة الحاضرة) تقاطع بينهما التهجير والقتل والغربة النفسيّة والجسديّة، فقد نجح في الربط بين الحدثين، فالبداية هي النهاية، والنهاية هي البداية، وما زالت الدائرة تدور في فلك اللجوء، وظهر ذلك جلياً في قصة “حب ما زال حياً “،حيثُ تشابهت قصة الجدة -مريم- مع قصة الحفيدة -آلاء-، فربط بين فكرة مقاومة الوجود بالإنجاب وتحدي الحياة وصعوباتها، وجاء غير محدد بالعموم ففي قصة “لعنة الثالث عشر ” فلم يحدد سنة من السنوات بل حدد يوم في كل سنة؛ لوجود الحدث المكرر في كل عام، كما ضجت القصص من غير تحديد في الزمان؛ ليشمل كل الأزمنة الماضية الحاضرة المستقبلية، ففي قصة “تشخيص خاطئ لطبيب نفسي” فأراد بإطلاق الزمن، أن تخلد العبرة من القصة ألا وهي خيبة الأمل والأمل المنتظر دون حصوله يقتل النفس دون قتلها باليأس، فاليائس يعيش الحياة دون انتظار لأمل أو ألم، أما الانتظار للأمل دون حدوثه أو حدوثه بخيبة أمل غير منتظر هو أشد على المرء من اليأس، فبخسرانكَ لِلحلم هو خسرانكَ لنفسكَ، أما المكان، فجاء محدد في غزة في قصة “حين تمرّد الإسكافي “حدد قلعة برقوق، هو مكان في خانيونس، بُني في العصر المملوكي، وفي قصة “ماذا بعد أحبكِ؟” بيته في غزة،  وجاء مفتوح في”المخبول”،”حذاء مستبدل”، حيثُ توجه صوب الشارع والأماكن العامة، وجاء محدد في “أرملة تنجب أطفالاً من عينيها “فقد حدد في السرير والوسادة الخاصة ببطلة القصة، فكما عرجنا نرى أن الأماكن والأزمنة متعددة ومتنوعة في القصص، وهذا يُدلل على الثقافة الاجتماعيّة والتاريخيّة والأدبيّة التي عند الكاتب.

–  عتبات الأحداث والشخصيات: الشخصيات لا تنفصل عن الأحداث إلا فصلا مصطعنًا مؤقتاً؛ لأن الشخصيات تتفاعل مع الحوادث متأثرة بها، ولا يفصلها عنها بوجه من الوجوه.

وجاءت الشخصيات والأحداث ؛ لتخدم فكر الكاتب، فحاول إيصال فكره بوساطتهما، فجاءت الشخصيات، متنوعة رئيسة وثانويّة ؛ لتخدم الشخصية الرئيسة، وفي القصص الدور الأحادي، حيثُ تَم الاعتماد على الشخصية الرئيسة دون غيرها في القصص؛ لِتعبير عن الفكرة والحدث، مثل: قصص “حين تمرّد الإسكافي، أرملة تنجب أطفالاً من عينيها”، كما شاع في القصص ثنائيّة الشخصية الرئيسة، فكانت بين شخصية الكاتب والشخصية الخيالية للكاتب، مثل: قصص “ميت أم نائم؟، أمنيات محشوة…”وكما وجه الخطاب لِلمتلقي فكان المتلقي القارئ شخصية في القصة بشكل غير مباشر ، مثل:  قصة “أحاول معرفتي “فقد كان يُخاطب القارئ الذي أُصيب بالوحدة والاغتراب النفسي في لحظة من لحظات الحياة…وخطاب المتلقي من قبل الكاتب له وقع على نفسه شديد.

جاءت أحداث القصص عامةً مترابطة متتابعة بحبكة بسيطة متماسكة، وتعددت طرق العرض بين السرد الذاتي (السرد المباشر للأحداث)، مثل: قصة “حين تمرّد الإسكافي، انتقام آدميّ، لعنة الثالث عشر، امرأة تقتل رجلاً…”، طريقة الترجمة الذاتية (طريقة تكتب بضمير المتكلم، حيثُ يضع الكاتب نفسه مكان البطل أو البطلة أو الشخصيات الثانوية)، مثل: قصص “وسادتان، هدية فاخرة، ماذا بعد أحبكِ، حذاء مستبدل، الموت في كل مكان، بينما أنا أفكر يحدث الكثير…”طريقة التيار المونولوج (ذكر الأحداث والذكريات المتداعية دون تنظيم)، مثل: في قصص “هذا الموت يسعدني، حب ما زال حياً، رحلات لا تنتهي إلى الألم…”

كما يظهر لنا التنوع في العرض القصصي للأحداث؛  لتنوع الأحداث، التي توصل لفكرة واحدة في النهاية، فكرة عرضت بشكل تسلسلي متلاحم عضوي، فقرر الأفكار الوجودية، ثُم عرض بشكه بتلك القضايا؛ لِيتمرد هائجاً عليها، ثُم في النهاية يسكن في قرارة نفسه السلام والهدوء، ويدعو ويحثُ عليه، وما أشبه ذلك التسلسل بتسلسل المراحل العمرية الإنساني، فيولد الإنسان، فيقر بوجودية الحياة ومواضيعها، ثُم تنبع من مراهقة الحياة الشك في وجود الأشياء، ثُم يتمخض عن الشباب التمرد والثورة على الوجود بكافة أشكاله، ثُم ما يلبث قبع التمرد في نهاية الأعمار، حين يكتشفوا أن جمال الحياة بالسلام والسكون واطمئنان النفس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى