بين الكتابة السيرية والكتابة الروائية

د. نادية هناوي | ناقدة وأكاديمية – عراقية

تعد كتابة السيرة الذاتية من أقدم أشكال الكتابة القصصية،وعادة ما تتفرع إلى كتابة ذاتية بضمير المتكلم أو كتابة غيرية بضمير الغائب ويبدو أن نمط كتابة السيرة بالأنا هو الأكثر قبولا وتداولا في الكتابة الأدبية ربما لكونه أقدر على إثبات عنصر مكاشفة القارئ ومصارحته بأسرار الذات وما تحمله من ذكريات مندثرة يتم عرضها بأمانة وموثوقية، بينما تبقى كتابة السيرة بضمير الغائب رهنا بما يقع تحت يدي مترجم السيرة من وثائق مكتوبة أو شفاهية تمده بالخفايا وتكشف له الأسرار وغالبا ما تكون هذه الكتابة في صراحتها ومكاشافاتها محددة بحدود تلك الوثائق ومدى غوصها في الذات المترجم لها لكنها مع ذلك تبقى مصدرا تاريخيا.

واستعمل الباحث يحيى إبراهيم عبد الدايم الترجمة الذاتية بديلا عن السيرة الذاتية لكنه لم يشر إلى وجود ترجمة غيرية وبما يعني أنه عدَّهما شيئا واحدا ومما تقدمه السيرة الذاتية للتاريخ هذه التجارب الكشفية لأطوار الشخصية وكيف تتبدل وتتنوع بناء على استنهاض الذاكرة التاريخية التي ترتكز على الأطر المجردة لتاريخ الأحداث والتفاصيل الواقعية ..وقد فرّق اندريه موروا بين الشخصية في السيرة والشخصية في الرواية.

لكن السؤال هل التحدي الذي يواجهه كاتب السيرة الذاتية أشد من التحدي الذي يواجهه كاتب الرواية ؟ وكيف يكون العمل السيري السردي مقنعا إذا لم يكن المخيال قد أدى فعله الوظيفي فيه؟

إن الرهان الذي تتورط فيه كتابة السيرة الذاتية هو وقوعها بين النزوع نحو التاريخ الذي لا بد أن تسايره والتخييل الذي لن تستطيع الذاكرة أن تفلت منه حتما، مما يقتضي من كاتب السيرة وبحسب بول ريكور التنبه إلى المقارنة بين مشروع الحقيقة في التاريخ واستهداف الامانة والاخلاص فيالتذكر او الاستذكار.

ومن هنا تبدو وظيفة كاتب السيرة مخالفة لوظيفة كاتب الرواية لأن الأول مطالب لا بمخيال خصب وغزير حسب، وإنما بمعرفة تاريخية يستنهض فاعليتها إلى أقصى حد لكن هذا لا يعني أن يأتي بكل ما هو مفصل وعير ضروري من الأحداث والمواقف وإنما يأخذ من الحياة الفعلية مجموعات معينة من الأحداث التي تتفق مع خططه ومشاعره.

وأول ما يدين به كاتب السيرة لقرائه هو الحقيقة ..فلا يصح له أن يختلق محادثات وأحداثا أو يطمس حقائق معينة لا تنسجم مع تكوين بطله النفسي والمزاجي.

وإذا كان الواقع الافتراضي الذي يسعى كاتب الرواية إلى تشييده هو الذي يسيّره؛ فإن التاريخ هو الذي يسيّر كاتب السيرة وهذا ما يجعل الكتابة السيرية ـ ذاتية كانت أو غيرية ـ مصدرا من مصادر الكتابة التاريخية وليس الأدبية فقط ..لكن التاريخ بالنسبة لكاتب السيرة ليس ذلك الفعل الذي حدث في زمن مضى وانتهى بل هو عنده بمثابة إنسان حي ناطق فاعل ومتحرك متلون ومتغير لا يفرض نفسه على كاتب السيرة فرضا كما أنه لا يبغي أن يعرض كل ما مر عليه عرضا مفصلا وتجزيئيا..لكنه أيضا مطالب بأن ينقد التاريخ وبما يعطي أهمية جديدة للتأويل الفكري أو النفسي.

والتخييل هو الذي يحفز التأويل نحو مسارات نفسية أو فكرية تخلخل المتداول التاريخي عن السيرة في شكل من النزوع الفرداني. وما ذلك إلا بسبب عدم الاقتناع بالمألوف من المتداول التاريخي والسعي نحو دحضه وقلب تداوليته بغية صناعة تاريخ مغاير من خلال إعادة تأويله في تمثلات معرفية جديدة قد تتجلى في صورة نفسية أو إيديولوجية أو يوتوبية وبما يعزز البرادغم( الصوغ الحبكي) للسيرة ويعطيها بعدا كرونولوجيا يتجادل أو يتجاذب فيه المتخيل النابع من عالم النص مع المترسب القادم من عالم التاريخ.

والفرضية التي تنطلق منها حتمية الممارسة التأويلية ما بين المتخيل والتاريخي وبحسب الفيلسوف جورج غادامير هو( أن العالم التاريخي ليس خبرة متماسكة بالطريقة التي يقدم بها التاريخ في السيرة الذاتية نفسه للعالم الداخلي للوعي الذاتي.)

وستكون الحقيقة من وجهة نظر كاتب السيرة هي تلك التي يعبر عنها من خلال حادثة تسرد من وجهة نظر البطل حيث لا فرق في أن يكون منظورا إليها من الداخل أو من الخارج وسواء كانت مفحوصة من بعد واحد أو مرئية من عدة أبعاد مرسومة بتصويرية شاقولية أو مهندسة بمنظور أفقي ما دام الفعل الحركي يظل فيها واحدا وهو صدق الإحساس وإمكانية ضبطه وتوجيهه مستنهضا مخياله ومؤولا فعل التاريخ ناقدا ما حمله من شهادات أو وثائق أو مخطوطات وقابسا من الذاكرة الحية بعض الاضاءات وبما يمكنه من رسم مكملات الصورة الذاتية التي يبغي رسمها وإتمامها لتصل إلى القارئ مقنعة وحقيقية، وهذه التأويلية لا تخرج الكتابة السيرية من كونها كتابة تاريخية إلى كتابة شخصية لكنها تدمج بينهما بما يجعل الحقيقة فيها متجسدة في حقيقتين إحداهما الحقيقة الفنية والأخرى الحقيقة التاريخية.

ولعل أخطر ما يواجهه كاتب السيرة وهو بصدد رصد الحقيقة وطرحها بيّنة أمام القراء نسيانه انه أمام هاتين الحقيقيتين واللتين هما بمثابة حتميتين ما أن ينسى إحداهما حتى يخرق الأخرى وينفيها من الوجود، ومن ثم يحكم على عمله بالزيف والاختلاق..

 وفي الكتابة السيرية يتم شرح تطور الشخصية تاريخيا بأساليب فنية فيها المخيال هو الأساس الذي من دونه يعجز سارد السيرة عن التطور والتقدم كنموذج إنساني نابض لا مجرد بورتريه جامد لا حيوية فيه.

وقد لا يكون تقديم النموذج الإنساني حقيقيا ومقنعا ما لم يمر على المراحل العمرية كلها بدءا من الطفولة وانتهاء بالشيخوخة والكهولة والسؤال هنا أي المراحل أكثر صعوبة في تأويل تاريخيتها السيرية وإثبات مصداقية حقيقتها أمام القارئ ؟

وإذ يتعذر على سارد السيرة أن يسترجع ذكريات الطفولة وأحداثا ماضية ما كان واعيا لها؛ فإن التخييل سيغدو هو المصدر الذي به سيؤكد بطل السيرة وعيه طالبا من الآخرين أن يسلموا معه بصدق ما يحكيه وحقيقته.

ولا غرو أن استنهاض المتخيل جنبا إلى جنب التأويل هو ما يجعل محنة كاتب السيرة أشق من محنة كاتب الرواية والسبب أن كاتب السيرة مطالب باستحضار التاريخ والذاكرة جنبا إلى جنب توظيف التخييل والتأويل كي يوصل إلى القارئ سيرة جلية لا لبس فيها، أما كاتب الرواية فليس مطلوبا منه وهو بصدد صنع شخصياته غير توظيف المتخيل في إطار قانون المحتمل الأرسطي أما القارئ فهو عنده مسرود ضمني في بنية العمل وبإمكانه أن يحوله من صورته الورقية كقارئ ضمني إلى صورة فعلية كقارئ خارجي ويبقى هذا التحول غير مقصود إلا إذا كانت نية الكاتب صناعة سرد يتجاوز البنائية النصية إلى بنائية ما بعد نصية تخرج السرد إلى الميتاسرد أو ما بعد السرد لتكون الرواية ميتاسردية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى