حقوق الإنسان بين الإمامين الصلت بن مالك وسعيد بن عبدالله
شيخة الفجرية | كاتبة عُمانيّة
على هدي النبي وصحبه سار أهل عُمان، في الحرب والسلم، في الحلِّ والترحال، في عُمان وخارج عُمان، وقد نقلت عنهم كتب التاريخ جميل الفعال، وحسن المقال، وسجلت الأعوام 237 هجرية و320 هجرية تأسيسًا مكتوبًا في الحقوق العامة للناس. فقد زخرت بعض كتب التراث العماني بالحقوق الإنسانية التي ينبغي أن تسود بين الناس، في كلِّ مكانٍ وزمان، فهناك ما ورد عن المؤرخ والنسَّابة الفقيه، العلَّامة سلمة بن مسلم العوتبي (ق5هـ). فقد أورد بعضًا من هذه الحقوق الإنسانية العامة: (… أن يغفر ذنبه، ويرحم عبرته، ويقيل عثرته، ويستر عورته، ويرضى صحبته، ويحفظ خلته، ويعوده في مرضته، ويحضر موتته، ويشهد جنازته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويشمت عطسه، ويرد سلامه، ويرشد ضالته، ويطيب له كلامه، ويبدي إنعامه، ويتولاه، ولا يعاديه، وينصره ظالما أو مظلوما، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكرهه لنفسه). وكذلك قال العلامة خميس بن سعيد الشقصي- قاضي بدايات الدولة اليعربية ومرشد ناصرها – عن بعض هذه الحقوق: (ومن لعن رجلا أو قبَّحه أو دعاه بلقبه وهو يكرهه أو قال له: يا ساحر أو يا غادر أو يا خائن أو يا حمار أو يا كلب أو يا سارق أو يا منافق … ففي كل هذا التعزير)، وفي كل مرحلة تاريخية ما يميز عمان وأهلها، ومن هذه المراحل التاريخية، سنوات حكم الإمام الصلت بن مالك، والإمام سعيد بن عبدالله.
ومن الحوادث التي تخلَّدت شعرًا ونثرًا في الذاكرة الجمعية العُمانية، ما جاء في قصيدة استغاثة إلى الإمام الصلت بن مالك الخروصي، الذي تولى الإمامة في عُمان عام 273هـ/886م، كتبتها شاعرة يقال أنها يمانية، ويقال أنها عمانية، قتل قريبها السلطان القاسم بن محمد الجهضمي الذي كان سلطاناً على جزيرة سقطرى اليمنية وواليًا للإمام، على يد أحباش مسيحيين؛ تقول فيها:
قل للإمام الذي ترجى فضائلُـــه
ابن الكرام وابن السَّادة النجــــبِ
///
وابن الجحاجحة الشمِّ الذين هــمُ
كانوا سناها وكانوا سادة العـــربِ
///
أمست (سقطرى) من الإسلام مقفــرةً
بعد الشرائع والفرقان والكتـبِ
///
واستبدلت بالهدى كفرًا ومعصيةً
وبالأذان نواقيسًا من الخشـبِ
///
وبالذراري رجالاً لا خلاق لهــم
من اللئام علوا بالقهر والغلـبِ
///
جار النَّصارى على واليك وانتهبـوا
من الحريم ولم يألوا من السَّلـبِ
///
إذ غادروا قاسمًا في فتية نُجُـبِ
صرعى مسامعهم في فدفدٍ خــربِ
///
مجندلين صراعًا لا وساد لهــم
للعاديات لسبعٍ ضارٍ كَلِـــبِ
///
وأخرجوا حرم الإسلام قاطبـةً
يهتفن بالويل والأهوال والكـربِ
///
قل للإمام الذي ترجى فضائله
بأن يغيث بنات الدِّين والحســبِ
///
أقول للعين والأجفان تسعفنـي
يا عين جودي على الأحباب وانسكبـي
///
ما بالُ (صلتٍ) ينام الليل مغتبطًــا
وفي (سقطرى) حريمٌ باد بالنهبِ
///
يا للرجال أغيثوا كلَّ مسلمـةٍ
ولو حبوتم على الأذقانِ والركــبِ
///
حتى يعودَ عماد الدين منتصبًــا
ويُهلك الله أهلَ الجور والريــبِ
وصل صوت الشاعرة إلى عُمان، فسيّر الإمام الصلت جيشًا إلى جزيرة سقطرى في مائة مركب؛ أنقذ به الجزيرة وهزم الأحباش.
ولكن العمانيين حينها لم يعملوا على التنكيل بالأحباش، بل كان هناك نوع من الاتفاق، استند على اتفاق سابق مع أول إمامة في عُمان بعد الدولة الأموية، وهي إمامة الجلندي بن مسعود (131-133/748- 750) (الكندي، المصنف, 145:11). وقد جرت مراعاة شروط تلك الاتفاقية لما يقرب من القرن، ثم بعد حكم الامام الصلت بن مالك الخروصي تراجع الأحباش؛ و”نقضوا ما بينهم وبين المسلمين فهجموا على سوقطرى وقتلوا والي الامام وفتية معه وسلبوا ونهبوا وأخذوا البلاد وتملكوها قهرا”(السالمي، تحفة الأعيان 173,166:1).
عين الامام الصلت خمس شخصيات على رأس الحملة، وهم: محمد بن عشيرة، وسعيد بن شملال، وحازم بن همام وعبد الوهاب بن يزيد وعمر بن تميم. وكانت نصائح الإمام الصلت التي تلخصت فيها حقوق الإنسان كالآتي:
ـ الدعوة للصلح، و”الدخول في العهد الأول الذي كان بينهم وبين المسلمين، على أن لهم وعليهم الحق بحكم القرآن وحكم أهل القرآن من أولي العلم، وبدينه من أهل عمان ممن نزل إليهم من أمر المسلمين “.
ـ وعن الجزية “إن كان فيها شي ء من الصدقات على أحد من أهل الصلاة فقبضتموه ففرقوا ثلثه على فقراء البلد”.
ـ الخروج من الجزيرة: و “من أراد هن أهل الصلاة.. أن يخرجوا معكم الى بلاد المسلمين فاحملوهم.. الى بلاد المسلمين “.
وأمَّا عما جاء في كتب التاريخ عن حكم الإمام سعيد بن عبد الله الرُّحيلي المخزومي القرشي المكنى أبو القاسم من سنة 320 إلى 328هـ (932 - 940م)، الذي ولد في صحار مهجر آبائه الذين قدموا من مكة المكرمة.
كانت بيعته في سنة 320هـ، وعلى إثرها واجه أمراء بني وجيه الذين يحكمون عمان بالظلم والجور، وانتصر عليهم، وفي رسالة إلى يوسف بن وجيه؛ الأمير المستولي على عُمان، جاء فيها من قول الإمام: “وقلنا للناس جهرًا على رؤوس الملأ: إن أموال أهل القبلة علينا حرام، كحرمة أموالنا على بعضنا بعض، وحجرنا على الناس التعرض لأشيائكم ما دق منها وجل”.
ولهذا الإمام آثارًا علمية وأحكامًا قضائية، ومسائل عقدية وفقهية، وحكم مأثورة، ويشير نور الدين السالمي إلى كتاب في “اللمعة المرضية” وهو كتاب مفقود، ولكن نقلت المصادر بعض نصوصه، ككتابيّ “الضياء” و”بيان الشرع”.. وتلخصت حقوق الإنسان في قول الإمام سعيد بن عبد الله؛ كالآتي:
“من إمام المسلمين سعيد بن عبدالله، ومن قبله من المسلمين، إلى يوسف بن وجيه ، وأن في شأننا وشأنك لعجب في حلقة حديد في رز باب أتّهم بها رجل من رعيتنا أنه قلعها من معسكر أصحابك بنزوى، فحبسنا الذي اتهم بها لأننا نستحل حبس أهل التهم على قدر استحقاقهم في حكم المسلمين، وقلنا للناس جهرا على رؤوس الملأ أن أموال أهل القبلة علينا حرام كحرمة أموالنا على بعضنا البعض، وحجزنا على الناس التعرض لأشيائكم ما دقّ منها وما جلّ، حتى قال من لا علم له بأصول الدين إنكم الآن حفظة للجند على أموالهم، ومن ذلك الحبوب التي جمعت في الأمصار التي استولينا عليها ، وجرى حكمنا عليها، ولم علم الناس منّا أنا لا نستحل شيئا، ولا نغار أحدا على معصية الله كائنا من كان من الناس منعهم ذلك من التعرض لأشيائكم كلها، فلم يتعرضوا لأشيائكم التي كانت بجوارنا كلها من بلداتنا ،ولولا خوف العقوبة منا لانتهب ذلك بأيسر مؤنة ولم يكن ذلك المنع الذي منعناه تقربا إليك ، ولا ابتغاء وسيلة منا إليك ، ولكنا اتبعنا في ذلك كتاب الله وآثار أسلافنا في تحريم أموال أهل القبلة، كما نادى بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ” إن أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا”.
وقد حاربناك محاربة المسلمين لأهل البغي حتى تفيئ إلى أمر الله، فلا نهاية لذلك عندنا أو تفنى روحك، أو أرواحنا على إحياء الحق، وإماتة الباطل إن شاء الله، فلا نستحل منك مالا ولا نسبي لك عيالا، ولا ننسف لك دارا، ولا نعقر لك نخلا، ولا نعضد لك شجرا، ولا نستحل منك حراما، ولا نجهز على جريح، ولا نقتل مواليا تائبا ولا مستأمنا إلينا، ولا نغنم ماله ولا ندعو أحدا يتعدى عليه بنفس ولا مال، فإن فعل ذلك أحد بأحد أخذنا له الحق إذا صح معنا فمن كان في يده مال فهو أولى به، لأننا لا نزيل مالا إلا بحجة”.
وعليه، أقام النادي الثقافي ندوة افتراضية بعنوان:” حقوق الإنسان بين الإمامين الصلت بن مالك وسعيد بن عبدالله”، قدمتها الدكتورة أحلام الجهورية، وحاضر فيها المكرَّم الدكتور إسماعيل بن صالح الأغبري عضو مجلس الدولة، الذي قدَّم ورقة بعنوان: ومضات من عهدي الإمامين الصلت بن مالك الخروصي، و سعيد بن عبدالله الرحيلي.
وقد استفتح الأغبري هذه الندوة الافتراضية بقوله:” سوف أشير، وحيث العالم اليوم، ودوله توضع على المجهر، وتقيّم بمقدار اهتمامها بحقوق الإنسان في حالة السلم أو في حالة الحرب، وحقوق الأقليات لأيِّ دينٍ أو ثقافة انتمت، وهناك تقارير تصدر كل سنة من بعض الدول عن هذه الدولة وتلك، وعن مدى قربها أو بعدها من حقوق الإنسان، طبعًا حسب ما تضعه هي من صفات أو مقاييس، سيتجلَّى هنا، في هذين العهدين أو الوصيتين أو الرسالتين، ستتجلَّى منهما حقوق الإنسان، وسيتبيّن لنا، أن حق الإنسان سواء أكان مسلمًا أو غير مسلم، سواء سلمًا أو حربًا، هذا الحق محفوظ لدى ولاة أمرِ عُمان، ولدى فقهاء أهل عُمان، يتوارثونه جيلًا عن جيل”، وعن أهمية النصين المذكورين أعلاه كان رد الدكتور إسماعيل:” نص الإمام الصلت بن مالك في حقوق الإنسان عام 237 هجرية، ونص الإمام سعيد بن عبدالله الرحيلي عام 320 هجرية، إذن هما نصَّان قديمان أصيلان، ليسا محدثان، بماذا سوف نخرج؟ سوف نخرج بنتيجةٍ مفادها: أن في هذين النصّين إجابة لسؤال الباحثين والمراقبين والمحللين: ما هو سر تميز السياسة العمانية؟ وهل ما هي عليه اليوم مبتكر مخترع مبتدع؟ أو هو أصلٌ أصيل يتوارثه عاهلٌ إلى عاهلٍ إلى عاهل، ويأخذه سلطانٌ إلى سلطانٍ ثم إمامٍ إلى ملك؟”
أمَّا الدكتور أحمد بن يحيى الكندي أستاذ مشارك بجامعة السلطان قابوس، فقد كانت ورقته بعنوان: الإمام سعيد بن عبدالله الرحيلي ومنظومته القيمية لحقوق الإنسان، دراسة استقرائية تحليلية مقارنة. تحدث مبحثها الأول المدخل التمهيدي عن بيان مفهوم الحقوق، النظرة الإسلامية العميقة لمفهوم الحقوق، وعقد المقارنة ما بين النظرة العالمية اليوم ونظرة الحقوق الإسلامية، وفي المبحثين الثاني والثالث تناول شخصية الإمام الجامع ما بين إمامة العلم والحكم وهل لذلك أثر في منظومة الحقوق التي رأينا ترجمتها وتحقيقها وتطبيقها من قبل هذا الإمام في عهده، أمَّا المبحث الرابع فقد تحدث فيه عن الحقوق وتنوعها عند الإمام الرحيلي.
وقد وجدت الندوة تفاعلًا افتراضيا، طرحت من خلال النوافذ المطلّة على هذه الندوة العديد من الأسئلة والتحايا والثناء.