اكتشاف الحب: أوراق من مدونتي الشخصية (17 – 18)

مروان ياسين الدليمي| العراق

 

لغةٌ مُلغَّزة عبر الهاتف

لم تكن الاتصالات عبر الموبايل مؤمَّنة بشكل متواصل مع الاهل في مدينة الموصل، وهذا ما اسقطنا في شرك افكار مختلطة كانت تتناوب علينا فتصيبنا بالعطب، لاننا كنا نعجز عن معرفة ما كان يدركهم خلف استار عزلتهم ، وباتت المكالمة الهاتفية بمثابة دخول غير آمن الى منطقة محفوفة بالمخاطر، وإذا ما كان هنالك اي شخص يجد نفسه مرغمًا على اجراء اتصال، فلابد له  أن يكون مرِنًا فيتواطأ مع قاموس جديد من المفردات الملساء الخاصة التي ينبغي عليه ان يبتكرها،  كما لو انها دائرة مغلقة من الشفرات اللغوية، لكي تنزلق الكلمة بسهولة، وتعبر الحواجز المنصوبة عبر شبكة الاثير، فلا تلتقط محتواها آذان الوشاة العابسين بوجه الحياة، ولاتقع في فخ تقاريرهم التكفيرية، وبامكان تلك المفردات ان تعيد تنظيم معاني افكار المتصلين في ما بينهم ولوحدهم، حتى لاتفضي بدلالاتها بشكل مباشر لكل من يسمعها إلاَّ من كان معنيا بها على الطرف الآخر، فالحديث لابد له  ان يبدو غير مترابط ، حتى لايمنح الفرصة لمن يتلصص عليه ان يمسك بالكلمات المحذوفة قصدًا من بين الجُمل، ويصطاد معانيها، ولهذا كنا نتحاشى انا وهي ان نجري اي اتصال مع اهالينا في الموصل إلاّ عند الضرورة القصوى، مع ان دواخلنا كانت تصطخب فيها الافكار والهواجس، لاننا كنا نتابع الاخبار ونستشعر ما سيحدث إذا ما اعلنت ساعة الصفر وأستُنفِر الرصاص.

بقيت مكالماتنا تكتب سيرتها الملغزة على فترات متباعدة من الزمن، ولم  نكن ندفع انفسنا اليها إلاَّ عندما يلسعنا الشوق الى الاهل والاصدقاء والاحبة خاصة من جانبها هي، لانها كانت بامَسّ الحاجة في بعض الاحيان الى ان تطوّح ما كان يعصف بها من لحظات كانت تقترب بها عند حافة الاحساس بالوهن. وعلى الرغم من صعوبة المهمة لدى عامة الناس وعلى وجه الخصوص البسطاء منهم ، ممن لايتقنون فنون التورية، إلاَّ ان القسوة التي كانت مسلطة عليهم استفزت فطرتهم، وايقظت فيهم ما كانوا بحاجة اليه من فطنة للتحايل على سلطة الموت التي كانت تتنصت عليهم ، وغالبًا ما كانت المكالمات تجرى خلال فترات متباعدة، حتى لاتستقر الاصوات في ذاكرة من كان يرصدها، ويضعها بالتالي تحت مقياس نصوصه الفقهية بكل مراوغاتها، فكان هذا الاسلوب الذي لجأ اليه القابعون تحت سماء مزججة بالحِراب نوعًا من المخاتلة، وكان لابد لهم ان يخضِعوا حذاقتهم لها حتى يتجنبوا الوقوع في دائرة الرصد الدائم، فالمهم ان لايكونوا داخل اطار الصورة التي كان يرسمها رجال الرعب بعد ان سيطروا على الاثير واصبح خاضعا لهم و لمزاجهم، فاشتدت مراقبتهم لشبكات الهاتف، حتى ان الاحاديث فقدت طعمها وحرارتها، ولم تعد تحمل مواعيد النداوة والانبساط ، ولهذا كان علينا نحن ايضا ان نخاتل بالغموض لنخفي ما نود ان نبوح به في لعبة نحاكي بها الطلاسم والحزورات، حتى اصبح الاتصال يشكل بالنسبة لنا هاجسًا مرعبًا يصيبنا بالشلل قبل ان نتفوه باي جملة، فالآذان المفتوحة خلف الجدران، دفعتنا الى ان نكون في حالة من الحذر الشديد مع كل مفردة نلتمس استعمالها اثناء حديثنا مع اهالينا، وكانت عقوبة الاعدام  تنتظر من يُشتبه باجرائه اتصالا خارجيًّا يشم من خلاله انه كان يسرِّب معلومات عما يجري في الداخل للعالم الكافر في الخارج، وهذا ما اشاع مناخًا من الرعب، فعمد الجميع الى أن يكتم مشاعره وافكاره حتى التي ليس لها علاقة  بالسياسة، خشية ان يتم تأويل دلالاتها والأخذ بها الى غير مقاصدها وبالتالي تنتهي حياتهم بالموت. ذاك الزمن الذي كان مثل شجرة يابسة، وطقسه مختنقا بروائح الوشاية، بات الهواء فيه  مسمَّما بالخوف والهلع.

ازاء ذلك اخذت المكالمات بينها وبين اهلها إذا ما تمَّت تُختَصَرُ باقل قدر من الوقت والكلمات، وما كان ممكنا ان  يتوسع الحديث الى ما يخطر بعفوية على البال، ولم يكن يتعدى حدود السؤال عن الصحة والاحوال الشخصية، فالجميع كانوا يراقبون انفسهم ويضبطون لسانهم بدقة وحرص بالغين كما هي حركة عقارب الساعة، حتى لايسترسلوا في الكلام ويقعوا في المحذور، لذا اصبحت المفردات اشبه بألغازٍ تحمل في داخلها معان يصعب البوح بها، لكنها كانت تصل بطريقة غير مباشرة للشخص المعني بالاتصال.

ومن ناحيتي كنت قد عاهدت نفسي على ان اطلعهم على حالتها في كل مرحلة من مراحل العلاج، طالما انهم غير قادرين على ان يكونوا الى جانبها، خاصة والدها الذي كان يحمل عاطفة قوية تجاه اولاده وبناته، ولهذا كنت قد ارسلتُ لهم مجموعة من صورها التي التقطتها لها منذ الايام الاولى لاصابتها، مرورا بكل التحولات التي شهدتها حالتها المرضية، وحتى تلك الصور التي كنا نظهر فيها ونحن نجلس في مطعم نأكل التبولة والشاورما في شارع الحمرا او عند ساحل البحر بمواجهة صخرة الروشة في بيروت، لانني اردت ان يكونوا على علم بكل التفاصيل .   

 

حديث وكامرا مفتوحة

في ثاني ايام عيد الفطر وبينما كان جميع افراد اهلها من الابناء والبنات والاحفاد مجتمعين في بيت العائلة فتحتُ كامرة الفديو بيننا، ولم اكن اتوقع ان تترك عليهم هيأتها الجديدة بشعرها الحليق ذاك الاثر الصادم، فقد ارتسمت على وجوههم  علامات الذهول مما كان قد اصابها من تغييرات طالت حالتها الصحية مثلما هو شكلها الذي تغير كثيرا، وبقي الجميع لثوان معدودة يغلفهم الصمت، وكانوا في حالة اشبه بمن لم يكن يصدق ما يراه بأم عينه، وعبَّرت نظراتهم عن الذي كان يدور في داخلهم من سعي حثيث لاختراق شاشة الهاتف واختزال الزمن والمسافات للبحث عنها بين تلك الملامح التي لم تكن تشبهها، فقد بدت لهم وكأنها ليست هي، بعد ان نال منها الشحوب والهزال بنفس القدر الذي كان رأسها الحليق قد غير من صورتها التي يعرفونها بها، فمن كانت تتحدث اليهم ظهرت امامهم اكبر عمرا من عمرها الحقيقي، وملامحها كانت اقرب الى ملامح امرأة دخلت مرحلة الكهولة، وهذا ما لايمكن ان تخطئه العين، حتى ان ايقاعها في الحديث كان بطيئا ولايعبر عما كانت تتسم به من تدفق وحيوية . ولربما البعض منهم كان يتصور قبل تلك المكالمة ان حالتها ليست على تلك الدرجة من السوء، واننا كنا في نظرهم نبالغ لاستدرار عطفهم، ولهذا كانت صدمتهم كبيرة، لكنهم وبعد ان استوعبوا الحقيقة الماثلة امامهم، وايقنوا  انها هي وليست غيرها، حاول كل واحد منهم ان يتحاشى التعبير عما كان يعصف به من ألم، وبدأ الجميع يحاول ان يشجعها ويرفع من معنوياتها،  وما أذكره جيدا في تلك المحادثة انني لاحظت والدها من بين جميع افراد العائلة كان يجلس متربعا على الارض ومستندا بظهره على الكنبة، وكان يبدو عليه سقوطه في دائرة من الكَمَد، ولااشكُّ ابدا في انها كانت تعتصر سنوات عمره التي تجاوزت السبعين عاما، وحتى الابتسامة الشفيفة التي اصطنعها على شفتيه لم تستطع ان تخفي ما كان ينزُّ في داخله من وجع ،ووجدت في دعواته التي توجه بها الى الله وهو يرفع يديه الى الاعلى بان يشفيها تعبيرا عما كان يحتبس  بين اضلعه من شوق لاحتظانها . أما شقيقتها الوسطى فلم تستطع ان  تتمالك نفسها، فانخرطت في نوبة بكاء جعلت صوتها يتهدج بينما اخذت تقسم باغلظ الايمان لو انها تستطيع الخروج من الموصل لزحفت على ركبتيها الى اربيل حتى تتولى رعايتها، لكن ماذا يمكنها ان تفعل وكل الابواب كانت مقفلة، والخروج من المدينة ما كان ممكنا ابدا، بعد ان  جثم الليل عليهم، وسحب منهم كل خيارات النجاة من المذبحة القادمة.  

 

أيام الهروب من الموصل

في تلك الأيام المحشورة في لحظة مبهمة من التاريخ كانت مغامرة الهروب من مدينة الموصل اذا ما فشلت، فسيكون ثمنها فقدان الحياة تحت مقصلة الموت التي كانت منصوبة عند جميع مخارج المدينة، ومع ذلك لم يتردد عدد من سكانها ان يحاولوا النفاذ من بين اسلاك الغموض التي كانت تسوّر ما كان ينتظرهم في قادم الايام، فغامر الكثير منهم بالدخول الى الارض الحرام، فكانت بغداد واربيل ودهوك والحدود التركية تستدرج حلمهم بالوصول الى حيث الخلاص من المحرقة القادمة، لكن المخاطر كانت تنتظرهم في تلك الدروب القاحلة التي لم تكن تخطر على بالهم، ومع ذلك كان لابد من اللحاق بظلال المغامرة والاحتماء بفيئها حتى لو بدت سرابا ، فالمهم بالنسبة لهم هوالوصول الى عتبة الحرية، حتى وصل ثمن تهريب الشخص الواحد عن طريق مهربين يرتبطون بعلاقات  مع عناصر داعش الى عشرين مليون دينار عراقي، وكانت رحلة الهاربين تستغرق فترة زمنية قد تصل الى  اسبوعين حتى يتمكنوا من الوصول الى حدود محافظة دهوك في اقليم كوردستان، وفي ما لو سقطوا بايدي التنظيم عندها سيتم اعدامهم، وكثيرة هي العوائل التي انتهت حياة افرادها قبل ان يصلوا الى ماكانوا ينشدونه، فكان خلاصهم في موتهم .  

 

كيف لم تصب بالغثيان

عادة ما كانت تصاب بالغثيان في اليوم التالي على تناول الجرعة اضافة الى شعور عام بالانحلال وعدم القدرة على السير والوقوف، لكن  ماحدث في منتصف شهر تموز بعد ان تناولت الجرعة الثانية ان الاعراض  لم تظهر عليها باستثناء اسهال شديد استنزف قواها البدنية، فكان امرا غريبا عندما مضت ثلاثة ايام ولم تصب بالغثيان رغم ما كانت تعانيه من  صداع حاد، وهذا يعني ان هناك مشكلة صحية تستدعي المعاينة، لان ظهور الاعراض يشير الى انها في وضع طبيعي، وان جرعة الكيميائي قد اتت بمفعولها، والعكس صحيح، ولهذا كان لابد أن اذهب بها الى دكتور جمال غفوري في عيادته بمركز ميديا ليكشف عليها، وكما هو متوقع كان الازدحام شديدا في صالة الانتظار، لهذا اضطررنا للبقاء من الساعة الثالثة عصرا الى السابعة مساء حتى حان موعدنا، والحديث عن دكتور جمال لن يكتمل دون التوقف امام تلك الحفاوة التي كان يستقبل بها مرضاه، فبالاضافة الى خبرته الكبيرة في مجال اختصاصه التي تراكمت لديه نتيجة عمله لمدة تزيد على الثلاثين عاما في انكلترا فهو يمتلك اسلوبا في التفاعل الانساني مع المريض، وكان ذلك سببا رئيسا في حالة الاطمئنان التي كانت تشعر بها ما ان ينتهي من معاينتها. وبعد ان كشف عليها وسحب منها السائل اللمفاوي كتب لها وصفة فيتامينات حتى تستعيد قواها.

اذكر انني طيلة تلك الليلة بعد عودتنا من العيادة  كنت جالسا امام شاشة التلفزيون اتابع القنوات الفضائية التي كانت مشغولة بنقل مايجري من احداث سريعة ومتلاحقة في تركيا بعد انقلاب عسكري لم يكتب له النجاح، وعلى الرغم من ان العالم كله كانت انظاره مشدودة الى الشاشات وهو يتابع المواجهات العنيفة مابين الوحدات المتمردة من الجيش التركي وطيف من الشعب المؤيد لاردوغان إلاّ ان زوجتي لم تكن تعلم بما كان يجري حولها في تلك الساعات لانها كانت تغط في نوم عميق .

في اليوم التالي تحسنت حالتها واستعادة عافيتها بشكل واضح، حتى اني بعد ان عدت من العمل في الرابعة عصرا الى البيت وجدتها تقف وسط صالة الاستقبال وهي تؤدي بعض التمارين الرياضية الخفيفة .

 ” انتِ جدا مستعجلة على بطولة الدوري ” .علقتُ مازحا، فما كان منها إلاَّ أن بدأت تضحك، وكانت ضحكتها قد تركت انطباعًا في داخلي وكأنني سمعت صوتًا لطائر يصدح وهو يحلق في الفضاء، وهذا لانني ومنذ ان اصابها المرض كنت قد افتقدت فيها الاحساس الطبيعي بالفرح الذي وجدته باديًا عليها في ذلك اليوم، رغم انني كنت على علم بانها كانت قد عاودت ممارسة التمارين الرياضية الخفيفة بعد شهر من اجراء العملية الجراحية لكني ولاول مرة احظى بها وهي تمارسها .

 

الفتاة النمساوية

اي زوجين مضت بهما الحياة في دروبها، وهما ينقشان على منعطفاتها الحادة، لحن الوفاء الذي يفيض بعطر مايحملانه من مشاعر الحب لبعضهما، من الصعب عليهما ان يذعنا بعلاقتهما خلف ماتكدسه الايام امامهما من مسافات يعلوها الصقيع، مهما بدت الظروف شديدة عليهما في لحظة ما، فوهج الحب لاينطفىء حتى اذا ما اصبحت ذاكرة الزمن معطوبة بالاوجاع ، ومن ناحيتي كنت احاول ان لاادعها تستسلم الى تلك الاطياف التي كانت تحاول ان تستودع افكارها ومشاعرها في اعماق يستبد بها الخَوَر، ودائما ما كنت أذكِّرُها بأن  مرارة التجربة التي تمر بها ليست إلاَّ مجرد عتبة ستعبر منها الى حيث كنا طيلة ربع قرن نطوف معا بحكاياتنا بعيدا عن ضجة العالم، وماهي إلاَّ غمظة عين وسيزول من بعدها هذا الصدأ الذي تراكم فجأة في دفتر ذكرياتنا، فكنتُ حريصا على ان استدعي كل اشارة قد تمنحها جرعة أمل، وعندما لمحتها تمارس التمارين الرياضية كانت فرصة حتى اسقي نبتة الحياة فيها بعد ان وجدتها قد اينعت، ولم تكن المكالمة الهاتفية التي اجريتها في نفس ذلك اليوم مع صديقي الشاعر بولص آدم الذي يقيم في النمسا إلاَّ محاولة مني لكي استحث فيها روح التمسك بالرجاء، لان ثقتي به كبيرة، وكنت على يقين من انه يملك مايكفي من الفهم حتى يعينني على ان لاتنفد طاقتي من التفاؤل، ولانني كنت واثقا من انه سيُمسك بزمام الحديث الى الناحية التي كنت اتوخاها منه، بان يضع يده على الجرح ويرسم افقا من التيمُّن بما هو قادم، يقصي به اي صدى لافكار قد تنزلق بها الى حافة اليأس، فقد سبق له  ان مر بتجارب شديدة القسوة قبل ان يغادر العراق عام 1994 ولم تستطع السنوات التي قضاها في سجن ابي غريب منتصف ثمانينات القرن الماضي رغم مراراتها ان تكسر شوكة احلامه ورجولته، ولهذا عمدت على ان أفتح سماعة الهاتف وانا اتحدث اليه، لكي تسمع باذنيها ما سيفيض به عقله من افكار، خاصة بعد ان درس الفلسفة وعلم الجمال في النمسا، فاستفاض بحديثه معي عن تجارب شاهدها هناك تشبه حالتها، ومنها حالة أمرأة شابة بغاية الجمال حسب ما وصفها، كانت تسكن بالقرب من بيته في مدينة لينتز، ودائما ما كان يلتقي بها صباحا ويتبادل معها التحية اثناء ما كانا ينتظران الحافلة للذهاب الى العمل، وسبق لها ان مرّت بمرض سرطان الثدي، واجرت عملية جراحية لازالة الورم والثدي كاملا، ثم تساقط شعرها بعد ان بدأت تتلقى العلاج الكيميائي، وقد تفاجأ من شجاعتها التي لم تكن تشير اليها تلك النعومة التي كانت تطغي على اطلالتها الانثوية الصارخة، عندما وجدها صباح احد الايام بكامل اناقتها وهي تقف كعادتها في منطقة انتظار الحافلات، وترد على تحيته بابتسامتها المعهودة بكل اشراقتها، مع ان شعرها الاشقر الطويل الذي كان يأتلق مثل الذهب قد سقط نهائيا، ولم تلجأ الى تغطية راسها بقبعة او طاقية، وعندما استذكر تلك اللحظة قال:  لقد غمرني في حينه شعور من يرى فارسا يقف منتصرا في الميدان بعد معركة دامية، كما كنا نرى مثل هذا المشهد في الافلام السينمائية التي كانت تدور احداثها في زمن الرومان، وبقيت تلك الفتاة تمارس حياتها بشكل طبيعي، وكأن اي تغيير لم يحدث في شكلها وحياتها، مع انها لم تكن ابدا على تلك الصورة المتلألئة التي كانت عليها قبل مرضها، لكن ثقتها العالية بنفسها منحتها جمالا آخر يفوق ما كانت عليه من اطلالة قبل اصابتها، ومضت تشق طريقها في العمل والحياة والعلاج الى ان تماثلت للشفاء وعادت كما كانت من قبل واجمل .

 

طبيعتي المُشاكِسة

لا أستطيع ان انفي عن نفسي طبيعتها المشاكسة التي تعلن عن وجودها فجأة، وكأنَّ لها ردود افعال خاصة بها، ويصعب عليّ أحيانا ان أخنع اهتياجها عندما يُرتَكَبُ أمام نظري خطأ عن عَمد، قد يتسبب بضرر شديد للآخرين، وغالبا ما وجدتني في موقف لا احسد عليه، بسبب غضبي واعلان رأيي الصريح دون مواربة، وهذا ما كان يضعني في مواقف متشنجة ضد اخرين ، قد اتعرض بسببها الى مصادمات وتجريح، واحيانا اشعر بحالة نأي غير معلنة تتشكل ضدي من قبل زملاء ومعارف وحتى اصدقاء، ومع ذلك لم أكف، رغم انني في كثير من الاحيان امارس مع نفسي تقريعا ذاتيا شديدا، لانها كثيرا ما  تركمني بقضايا لاصلة شخصية تجمعني بها، ولكن على ما يبدو فإن الطبع يغلب على التطبع كما يقال، وهذا ما تكرر ايضا اثناء ماكنت منقطعا عن كل ماحولي ومنغمسا في رحلة علاجها لتلقي الجرعات الكيميائية. . فقد عزمت منذ زيارتي الاولى للمستشفى على ان التقط بعض الصور عن طريق كامرا الموبايل ولكن بطريقة خفية دون ان اثير انتباه احد ، لاجل ان ادعم بها الموضوع الصحفي الذي كنت انوي كتابته،بعد ان هالني حجم المعاناة التي كان المرضى يتحملون تبعاتها على صحتهم، بسبب عددهم الكبير وقلة الأسِرّة المتوفرة لاستقبالهم اثناء تلقيهم الجرعات الكيمائية، فليس اكثر قسوة من مشهد مريض بالسرطان ينتظر اربع او خمس ساعات حتى يحظى بسرير فارغ يستلقي عليه اثناء ما يتلقى جرعته، وبعضهم رغم تردّي حالته الصحية، كان مرغما على أن يأخذها وهو جالس لثلاث ساعات متواصلة على كرسي دون أن يكون قادرا على النهوض او الحركة، وربما يطول به الزمن الى اكثر من ذلك، بينما تقتضي حساسية الحالة الصحية وحراجتها لهؤلاء المرضى على وجه الخصوص ان يستلقوا على سرير ليكون جسدهم مسترخيا طيلة الوقت الذي يتلقون فيه الجرعة .

ما حفزني أكثر على تنفيذ الفكرة، انها في الاسبوع الماضي كادت على وشك ان تجلس على كرسي لتأخذ جرعتها، عندما طرحت عليها احد الممرضات هذا الخيار بعد ان لفتت انتباهها ووجدتها مرهَقة جدا بسبب طول ساعات الانتظار، لكنني رفضت، لان ذلك قد يتسبب في تدهور حالتها الصحية ولربما تصاب بالدوار وتسقط على الارض، وكان علي ان اقنعها بأنه ليس امرا هيِّنا ان تجلس لثلاث ساعات مزروعة على كرسي والكينونة في يدها واعصابها مشدودة.

 

فخ نصبته لنفسي

بعد يومين على تلقيها للجرعة الثانية كان لابد ان نتجه صباحا الى المستشفى لكي نجري فحصا لدمها، لمعرفة تطورات حالتها الصحية، وبدأتُ في تنفيذ فكرة التصوير ما أن اقتربنا من الممر الضيق الذي يؤدي الى غرفة الاطباء، والذي عادة ما يتزاحم فيه عدد كبير من المرضى كان كل واحد منهم ينتظر دوره، ليكشف عليه الطبيب المسؤول عن حالته.

الزمتُ نفسي بأن اكون على قدر كبير من الحذر حتى لا أثير انتباه احد ما، ولأجل ذلك كتمتُ خاصية الصوت في تقنية كامرا الهاتف الذي عادة ما يصدر اثناء عملية الالتقاط .

وبعد أن تأكدتُ من انها قد دوَّنَت اسمها في السجل الخاص بقائمة المنتظرين للكشف عليهم والذي كان موضوعا على منضدة حديدية صغيرة يجلس خلفها موظف شاب، ومن ثم اطمأنيتُ عليها لانها حظيت بكرسي اصبح فارغا بعد ان نهضت عنه احدى النساء ما أن  نودي على اسمها، عندها تخيَّرتُ ان ابتعد حتى نهاية الممر، وجلستُ على ثالث درجة من سلّمٍ حجري يؤدي الى الطابق الثاني من المبنى، لأنني وجدت في المكان الذي اخترته زواية متسعة تمكنني وبشكل خفي من التقاط بعض الصور التي  تظهر حجم الازدحام، ولكي ابدو للاخرين كما لو انني اتصفح المواقع في الهاتف، فأنا على عِلم مسبق بان التصوير ممنوع، وتأكدت من ذلك في زيارتي السابقة قبل شهر عندما لاحظتُ فريق عمل احدى القنوات التلفزيونية ورغم انتظارهم عند البوابة الخارجية للمستشفى لفترة تزيد عن الساعة رفضت الادارة ان تسمح لهم بالتصوير . . في لحظة ما شعرت بحركة جلبت انتباهي كانت قد صدرت عن  شاب لم يتجاوز العقد الثالث من عمره ، في حينه أومأ لي حدسي بانه كان يراقبني، فحاولت ان يكون رد فعلي طبيعيا كما لو انني  كنت مستغرقا في النظر الى شاشة الهاتف وقراءة موضوع ما، ولم تمض سوى دقائق معدودة حتى جاءني شخصان من موظفي المستشفى وسألاني إذا ما كنت مريضا او مرافقا لمريض، ومن بعدها طلبا مني ان اسلمهما الهاتف، ولانني كنت حريصا على ان اتحاشى اثارة اي ضجة اثناء مجادلتي لهما، لذا طلبت منهما ان نذهب الى غرفة الادارة وهناك يمكن ان نتفاهم، ولما وصلنا بالقرب من غرفة الادارة طلب مني احدهما بان أسلمه الهاتف وإلاَّ سينادي على الشرطة، ولانني ادرك جيدا عدم جدوى الحوار في مثل هذه الحالات سلمته اياه وبدأ في عملية البحث عن الصور في استديو الهاتف وانا اقف الى جانبه، وما ان عثر عليها حتى اشار على كل صورة بعلامة صح، ثم ضغط على زر المسح لتختفي جميعها، لكنه بقي محتفظا بالهاتف ورفض ان يسلمني اياه لمّا مددت يدي نحوه، أنذاك احسست بأن المسالة لم تنتهِ بعد ، وان هناك فصلا اخر ينتظرني، ولكني لم استطع تخمينه ، ولهذا استنفرتُ فطنتي استعدادا لكل الاحتمالات غير السارة، فأنت إذا ما وقعت في شرك من يمثلون الدولة، عليك ان تتوقع الاسوأ، لأنك ستكون مضطرا أن تصمت وتتغاضى عما يمكن ان ينال منك شخصيا، هكذا تعودنا في منظومة حياتنا أن نخضع لكل ما يمثل السلطة الحكومية، وان تعبّر ردود افعالنا عن الخضوع، حتى لو لم نكن مخطئين، لأننا إن لم نفعل ذلك فهذا يعني اننا قد نلقى الفاظا لاتسرنا، وربما نوضع في موقف محرج لكرامتنا الشخصية، فكيف إذا كنا بحكم الغرباء، آنذاك سنشعر بخوف مضاعف، وربما سنلعن الساعة التي ولِدنا فيها . .وفي محاولة مني للتغطية على ما كنت اشعر به من قلق، ليس ازاء نفسي ، انما تجاه زوجتي إذا ما علِمت بالموقف الذي سقطت فيه، اقدمتُ على ابراز الهوية التي تثبت بانني عضو عامل في نقابة الصحفيين، ودعمت تلك الحركة التي اشعرتني بشيء من الثقة بجملة حاولت فيها ان اثبط همَّتهما فقلت لهما بأن الصور ليست مهمة بالنسبة لي إذا ما اردت ان اكتب موضوعا صحفيا عن المستشفى، ولكي اخفف من حدة الموقف أكدت لهما بان ليس لدي اي ملاحظات سلبية على اداء جميع افراد الطاقم الذي يعمل فيها، ولا أحد يستطيع ان ينكر جهدهم الكبير والمضني في ادارتها، لكني بصدد كتابة موضوع حتى استعرضه في البرنامج التلفزيوني الذي اقدمه اسبوعيا على شاشة القناة التي اعمل فيها، وهدفي من ذلك ان اثير انتباه السادة المسؤولين الحكوميين حول المشاق التي يتحملها مرضى السرطان في رحلة علاجهم، ومن الضروري ان يزداد الاهتمام بهم وبماتحتاج اليه المستشفى من دعم حتى تستطيع ان تواجه العدد الكبير من المرضى .

وقبل ان انهي كلامي انهالت الاسئلة عليّ من قبلهما:”من أنت ؟ ، ماذا تعمل ؟ ، اين تسكن ؟ ، من اي مدينة ؟ ، من اي طائفة ؟، من اي عشيرة ؟” . احدهما وهو الاصغر سناً، كانت نبرة صوته ترتفع بشكل مزعج اثناء ما كان يوجه الاسئلة، لذا طلبت منه ان يهدأ ولا يرفع صوته، لان المسألة لا تستوجب ذلك، خاصة واننا داخل مستشفى . وظننت بأنني سانهي الجدل لصالحي عندما ثم اعلنت عن رغبتي بمقابلة المدير، لكن اجابة الموظف صاحب الصوت المرتفع افحمتني، لمّا قال لي بان المدير يعرف كل ما تريد ان تقوله له، وسيكون جوابه بان طاقة المستشفى الاستيعابية ستكبر بعد ان تنتهي اعمال التطوير والتوسيع بعد شهر. وقبل ان يسلماني الهاتف والهوية حذراني من الاقدام على التصوير مرة اخرى، لأنني سأكون سببا في حرمان زوجتي من تلقي العلاج في المستشفى.

 

الحب خارج الحسابات

خرجت الى الباحة الخارجية وجلست على مصطبة في مقابل حديقة المستشفى لكي استعيد هدوئي، وبيني وبين نفسي حمدت الله بأن الذي جرى لم تكن تعلم به زوجتي، لانها لو كانت حاضرة في حينه لربما اصابتها انتكاسة صحية بسبب خوفها عليّ من ردود افعالي التي لا استطيع التحكم بها احيانا، خاصة إذا ما تعرضتُ الى موقف يستفز كرامتي الشخصية. وكانت تدور في راسي فكرة اننا احيانا نضطر الى ان نهادن الظروف التي تعبس بوجهنا، ولنا عذرنا في ذلك إذا ما وجدنا ان مسالة الثبات على الموقف اقرب الى ان تكون تعبيرًا عن الحماقة، لان اضرارها ستكون مؤذية لمن نؤثرهم على انفسنا، ومن الناحية المبدئية انا لست على استعداد ان اكون سببًا  في حرمانها من العلاج  تحت اي ظرف، وتساءلت مع نفسي هل ساستطيع ان اتحمّل ما سيواجهني به ضميري من حساب عسير إذا ما كنت مسؤولا عن اي تطورات سيئة في حالتها الصحية ؟ .

بقيت لساعة من الزمن مأخوذا بتلك الدوامة من الافكار، حتى انني لم اكن اعي ما كان يدور حولي، وازدادت قناعتي بان الألم الذي قد نسببه في لحظة ما لشخص نحبه لن يعادله اي ألم آخر، وأن مشاعر الحب التي نرتبط بها مع اناس يشكلون العالم الصغير الذي عادة ما نلجأ اليه ونحن مطمئنين من اننا سنجد فيه ما نبحث عنه من شعور بالأمان والثقة والاطمئنان، هو القيمة الجوهرية الوحيدة في هذه الحياة، وغيره دائمًا ما يخضع لحسابات الربح والخسارة لأنه مبني على المصالح والمنافع المتبادلة. ومن الصعب علينا ان نجد بديلا عن الانسان الذي نرتبط معه بعلاقة حب حقيقية، فكيف بعلاقة دامت ربع قرن تحت سقف واحد، فمن المنطقي انها لم تعد قابلة للمساومة تحت اي ظرف صحي قد تتعرض له، ومهما كانت الاعباء التي سأتحملها بسببها  .  

بعد ان انهت الفحص خَرَجت تبحث عني، رغم وضعها الصحي الذي لم يكن يسمح لها ان تبذل اي مجهود عضلي، وكانت تفتش بين جموع المرضى ومرافقيهم الذين كانوا يملأون ممرات المستشفى، ثم وجدتني جالسا على المصطبة في الباحة الخارجية، وكان القلق واضحا على ملامحها، لأنها وحسب ما قالت لي في ما بعد، كانت قد لمحت الموظفَين وهما يتحدثان معي، لكنها لم تستطع ان تلحق بي عندما خرجتُ برفقتهما، لأنها كانت على وشك الدخول الى غرفة الدكتور لقمان بعد ان نادى باسمها الموظف المسؤول عن تنظيم دخول المرضى .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى