الدبور الأسود وسنينه !
صبري الموجي | مصر
في مرحلة الثانوي كانت لنا مواقفُ طريفة لا تزال محفورةً في الذاكرة، نجترها بين الحين والحين، ونحن نقلبُ صفحات ذلك الزمن ، الذي استحق بجدارة أن يُوصف بالزمن الجميل.
كان صديقي (هـ – ر)، ضعيفا في مادة الرياضيات، فلا يُحسن ضربا ولا قسمة، ولا يجيد جمعا ولا طرحا.
كان قيامُ ذلك الزميل بنقل جبل من مكانه حصاة حصاة ، أهونَ عليه من حل مسألة رياضية، وذلك رغم نبوغه الواضح في المواد الأدبية، إذ كان يحفظُ كتب التاريخ والجغرافيا من الجلدة للجلدة؛ مما جعله خبيرا في معرفة خصائص البلدان، وما تمتاز به كل بلد عن أخري في مجال الزراعة والصناعة والتجارة، بالإضافة إلي ذاكرته الحديدية في معرفة تواريخ الوقائع والأحداث، لدرجة أنه ربما ينسي اسمه، لكن من رابع المستحيلات أن يفلت من ذهنه تاريخُ حدث، أو نتائجُ موقعة، أو بنودُ معاهدة .
كان لخوف ذلك الزميل الهيستيري من مادة الرياضيات – والذي يُسبب له ارتباكا، وتلعثما في النطق كلما طولب بحل مسألة ولو كانت سهلة – سببٌ رئيس وهو تدريسها لنا من قِبل أحد المدرسين المعروفين بغلظة القلب وحدة المزاج، فضلا عن افتقاره للأساليب التربوية، التي كانت في واد، وسلوكيات ذلك المدرس في واد آخر.
وزاد طينَ زميلنا بلة أن كانت تربط الأخ الأكبر له بذلك المدرس علاقة زمالة أثناء دراستهما بالجامعة، جعلته يعتني بزميلنا عناية خاصة .
حرص زميلنا – عدو الرياضيات – علي أن يلزم الصمت التام أمام ذلك المدرس، ليس رغبة في الفهم، ولكن ليتفادي شره، وينجو بنفسه من قسوة لسانه، وربما عصاه العمياء، التي كانت تهوي علي جَسد المُعاقَب دون أن تعرف أين تحطُ رحالها !
كان صمتُ زميلي وهزُ رأسه من أسفل لأعلي إيهاما بالفهم، هما وسيلته للخلاص من التوبيخ وربما الضرب.
حرص زميلُنا في حصة الرياضيات أن يرفع شعار : ( لا أري – لا أسمع – لا أتكلم )؛ تفاديا لعتاب ذلك المدرس ونظراته الحادة، التي كانت كفيلة بشل حركته وتخدير قواه، تماما كما تشل نظرةُ القط حركة الفأر!
وبشقاوة الطفولة قررتُ أن أخرج زميلنا عن صمته المُصطنع، وليكن ما يكون، وساعدني علي إنفاذ ذلك العزم مفارقةٌ غريبة مفادها أن دبورا أسود اعتاد وفي حصة الرياضيات بالذات أن يدخل علينا من إحدي نوافذ الفصل التي تطل علي حقول البرسيم وبفمه ورقة برسيم خضراء ليأوي إلي أحد الثقوب بـ( تابلوه ) خشبي مُثبت بالحائط الأمامي علي جانب السبورة الأيسر، لتُعلق به قائمة بأسماء طلاب الفصل.
كان هذا الدبور مُغرَما بمادة الرياضيات خاصة، وبهذا المدرس بالذات – ربما لوجود كيميا بينهما – تلك الكيميا التي جعلته لا يدخل إلا في حصة الرياضيات سواء كانت الأولي أو الأخيرة؛ ومع هذا المدرس خاصة، والذي بمجرد دخوله يحل علينا الدبور ضيفا.
ألفتُ ذلك الأمر – الذي صار عادة لا تتغير – فهمستُ في أذن زميلي أثناء انشغال المدرس بالكتابة علي السبورة بما سيحدُث، وقبل أن أنهي كلامي لم يُكذب الدبور خبرا ودخل من النافدة متوجها نحو الثقب بورقة البرسيم، فانفجر صديقي ضاحكا في نفس لحظة التفات المدرس إلينا بعد فراغه من كتابة ما يكتب، فوقعت عينه علي زميلنا وهو يضحك، فكانت له معه قصة، تحدث بها الغلمان، وأخبر بها الحاضرُ الغائب، تلك القصة التي جعلت زميلي يلعن الدبور الأسود وسنينه ، ويجعل أذنيه من بعدها إحداهما من طين، والأخري من عجين، حتي ولو دخلت علينا أسرابٌ من الدبابير السود !