شاهد عيان
مصطفى العارف | العراق
في الثامن من نيسان عام 1989 دخلت إلى صفي ,وكتبت على السبورة موضوع (النفي) للصف السادس الأدبي, بدأت بكتابة الأمثلة ,ضرب باب الصف بقوة ودخل عليّ مجموعة أشخاص يرتدون ملابس مدنية ,ويحملون اسحله خفيفة قال كبيرهم: أنت حسين رؤوف؟ قلت له نعم؟ سحبني بقوة ,وقيد يديّ أمام طلبتي، وهذا المنظر ما زال إلى الآن اذكره ,وكيف انهارت قواي من الاهانة التي وجهت إليّ من قبل بعض النكرات عندما شاهد المنظر رزاق عباس خرج من صفه واتجه نحوي ,وترك الدرس سلمان خلف واقبل عليّ بسرعة فائقة , وسقط الطباشير من يد احمد محمد صالح عندما علم بالخبر ,وجاء مدير المدرسة حيدر بغدادي مسرعا إلى المجموعة، والتف حولي الجميع من الأساتذة ,والطلبة ,وحدثت فوضى عارمة في المدرسة من عملية اعتقالي داخل المدرسة ,وهذا بحد ذاته مخالف للقانون.
سال مدير المدرسة كبيرهم: ما القضية؟ ولماذا يتم اعتقال أستاذ حسين؟ قال كبيرهم: لدينا أوامر من الجهات العليا بإحضاره فورا, وتم تعصيب عينيّ , أدخلوني في سيارة صغيرة قديمة , وتم نقلي إلى مديرية الأمن العام , أنا لا أرى أي شيء ,لكني اسمع كل شيء ,وبدقة متناهية في الحديث الذي جرى داخل السيارة ,وكان بلغة غير مفهومة,وكأنها الغاز, وصلنا إلى المكان المطلوب قال كبيرهم: سيدي لقد القينا القبض على الهدف المطلوب, وهو الآن معنا ماذا نصنع به ؟ لم يتكلم بل اصدر أمره عن طريق إشارة بينهما فهمت منها زجي في الزنزانة رقم 2, وهي غرفة مظلمة لا يدخلها الهواء,وأشعة الشمس ريحها نتنه ,وفيها كتابات ,وذكريات قديمة لمعتقلين سابقين لم تتجاوز مساحتها أكثر من مترين تم وضعي فيها, وزجني الضابط بقوة ,وأغلق باب الزنزانة عليّ.
بدأت التفكير ما تهمتي التي اعتقلت من اجلها ؟ ولماذا أنا هنا؟ في هذه الزنزانة اللعينة, بقيت لمدة يومين متتالين دون طعام أو شراب, ومن شدة التعب استلقيت على الأرض ,وغفوة حلمت في بداية شبابي عندما انتميت إلى الحزب الشيوعي العراقي حزب الكادحين ,والعمال ,والطبقات الفقيرة, كانت مشاركاتي في كل مناسباته الوطنية ,وتذكرت لقائي الأول( بفهد) مؤسس الحزب الشيوعي في مدينة الناصرية.
وفجأة شعرت بضربة قوية على ظهري استيقظت مرعوبا منها، تم سحبي بقوة وتقيدي, وشد عينيّ دون أي كلام ,وأنا منهك القوى.
أحسست بدخولي إلى غرفة التحقيق فيها عدة أشخاص ,وضابط التحقيق الذي يتكلم باللهجة الغربية سمعته يقول: (يا ول خلي يجلس هينه) جلست على كرسي حديد قديم جدا يحدث صوتا مزعجا إثناء الجلوس عليه.
قال لي ضابط التحقيق: ما اسمك؟: حسين عبد الرؤوف.
أين مسقط راسك وميلادك أجب بسرعة؟: الناصرية الحبيبة , 1943 .
مكان عملك: مدرسة الجمهورية للبنين.
مكان الإقامة: منطقة الشرقية.
قلت لضابط التحقيق: ما تهمتي؟ ولماذا أنا هنا معتقل ومقيد؟
أجابني قائلا: أنت لا تسال نحن فقط من يسال ,( يا ول ليش تكول الناصرية الحبيبة , وأنت ابن الشجرة الخبيثة).
قلت لضابط التحقيق : الناصرية أنجبت كبار الشعراء, والأدباء, والفنانين والمناضلين, والسياسيين ,ونحن نفتخر بها ولا يجوز نعتها بالشجرة الخبيثة, لأنها الشجرة المثمرة على أهلها ,الخبيثة على أعدائها.
قال ضابط التحقيق : الم يعيين الحزب ولدك حارث ضابطا في الجيش العراقي الباسل؟
(هذا جزاء الحزب لأنه تعاون معك , أحجي لا تسكت جاوب يله)
قلت له : تم تعيين ولدي حارث , لديه ميول عسكرية منذ صغره، شجعته على الدفاع عن بلدنا العراق العزيز, وهذا حقه الطبيعي كمواطن عراقي يعمل في دولته ,وليس لكم الفضل في ذلك.
قال ضابط التحقيق: علمنا من مصادرنا المقربة انك ألقيت أمس قصيدة ضد الدولة ,والحزب الحاكم.
لماذا ؟
لم اقرأ قصيدة ضد الحزب؟ سوف أخبرك بالحقيقة التي لم تصلكم.
كنت جالسا مع صديقي احمد محمد صالح ,وقام عريف الحفل ,وهو احد عناصر الحزب, ومدرس معنا قال يتفضل الآن الشاعر حسين عبد الرؤوف بإلقاء قصيدته أمام الجميع، ولم يأخذ موافقتي, أحرجني الموقف جدا فقمت ,وألقيت قصيدة الشاعر محمد مفتاح الفيتوري , قاطعني أحداهم ,وهذه القصيدة الم تمس الدولة ,والقيادة الحكيمة ؟
قلت لا هي تتحدث عن الشعب السوداني.
سمعت صوتا بعيدا سيدي القصيدة ضدنا انظر التجاوز الواضح علينا.
فقال بصوت غاضب اقرأ هذه القصيدة الملعونة ؟ :
فقلت : قال الشاعر محمد مفتاح :
زمني قاس
زمني جلاد لا يرحم
زمني وجه يتفجر من شفتيه الدم
زمني يا أخت هواي أصم
يخنقني كي لا أتكلم
وأنا إنسان يتألم
وإثناء القي القصيدة, شعرت بصفعة قوية على خدي الأيمن قلبتني أنا ,والكرسي الذي يحملني على الأرض سقطت بقوة تهشم انفي , وشعرت بالدم يجري منه، وسقط مني قلمي الحبر (الباكر) الذي كان صديقي, وسلاحي لمدة أربعين عاما اكتب فيه ,واعبر بكل حرية عن أفكاري ,ومبادئي التي دافعت عنها سنين طويلة لكنه مع شديد الأسف تم سحقه من قبل ضابط التحقيق , وقال لي: بالحرف الواحد هذا سلاحك ,وتم تدميره.
حملني عناصر الأمن على الكرسي بمواجهة ضابط التحقيق (يا وال أنت إنسان تتألم على شني على خيانتكم للقيادة زين من عدنه ما عدمناكم كليلتكم يا خونه ).
شوف التقارير المكتوبة عنك من عناصرنا السرية.
إن المدعو حسين عبد الرؤوف احد عناصر الحزب الشيوعي العميل الذي ينشر الثقافة بين طلابه, وهذا يؤدي إلى نشر الوعي المعرفي ,ولكم الأمر سيدي.
أنت شعليك, بالطلاب أدي واجبك , واطلع0
وأردف قائلا: تدري كلمة الثقافة نموت منها ,تعرف ليش لأنها تخلق جيلا مثقفا يقف بوجهنا ,ويحاسبنا ,ونحن نريد شعبا جاهلا همه قوته اليومي فقط افتهمت.
وتوجيهات القيادة العليا تجهيل الشعب وترييف المدن مو جايني تريد تسوي طلابك مثقفين.
تريد تخلق لك قاعدة شعبية تريد تصير قائد أحجي ليش ساكت شدني من قميصي ليش تقرا قصائد داخل درسك ,أنت جاي تخلق أجيال مثقفة, وهذا ضد عملنا ,ودورنا القيادي.
وردنا تقرير من الجهات الأمنية انك تؤجج طلبتك من خلال أسئلتك الامتحانية أيضا وجدنا في أسلتك للصف السادس الأدبي توجهينا خفيا من خلال النص الشعري الذي كتبته ,وقلت فيه :
قال الشاعر ساخطا على زمانه :
يا زمانا البس الأحرار ذلا ومهانه
لست عندي بزمان إنما أنت زمانه
كيف نرجو منك خيرا والعلا فيك مهانه
ااجنون ما نراه منك يبدو أم مجانه
قال ضابط التحقيق: أي زمان تقصد الذي البس فيه الأحرار الذل ,والمهانه؟
هل تريد لبعض المتسكعين من جماعتك يحكمون العراق العظيم؟ تم توجيه ضربة أخرى قوية أصابت عيني, ووجهي شعرت بقوة الدم يتدفق منهما.
صاح ضابط التحقيق: (ولك أنت الشر وكي أهل (الجا) هم تحجي, والله لو بيدي أبيد الناصرية عن بكرة أبيها).
قلت له : والدم يسيل على وجهي نحن اثقف مثقفين العراق و(الجا) شرف لنا ,ونفتخر بها لأنها أخت الــ (لا) التي هزت عروشكم ,ووقفت بوجهكم , وسوف تدمركم.
قال : الذي شفع لك إخلاصك في العمل, سنطلق سراحك وتكون تحت عيوننا, ونعتقلك متى نشاء, سنوقعك على تعهد بعدم المساس بأمن الدولة وتثقيف الطلبةوإلا سوف ندخلك الزنزانة ,ولن تخرج منها إلى الأبد.
تم توقيعي على ورقة بيضاء تحولت إلى حمراء بسبب الدماء التي تخرج من وجهي وجمسي , وأطلق سراحي ليلا.
وصلت للبيت منهك القوى ,دمرت نفسيتي ,وحطمت من قبل بعض أرذال القوم , استقبلتني زوجتي بفرح غامر, واحتضنني أولادي دخلت بيتي ونمت نوما عميقا
في اليوم التالي عرضت بيتي للبيع في منطقة أور, وأردت العودة إلى منطقة الصبا الشرقية إلا أن ارتفاع الأسعار حال دون ذلك , جعلني اختار ابعد محافظة للعيش فيها قدمت نقلا إلى مدينة الحلة ,باشرت فيها مدرسا للغة العربية، بقيت سنوات عدة ادرس بنفس الإخلاص والجدية.
أصبت بحزن شديد على فراق مدينتي الحبيبة الناصرية تعودت التجوال فيها ,ولقاء الأصدقاء, والأحبة ,لكن الظروف المريرة أجبرتني على تقبل الأمر, والتعايش معه إذ فقدت ولدي العزيز(بسيم) في الحلة , وبعد إحالتي على التقاعد قررت أن اكتب ديوانا شعريا اذكر فيه المواقف, والمناسبات التي مرت في حياتي.
وظهر اسمي في قائمة الحج لهذا العام, وأديت مناسك الحج على أتم وجه, وصورة ,وكنت أسافر إلى مدينة الناصرية في بيت أختي (أم رعد) لقضاء مدة زمنية طويلة تشمل العطلة الصيفية كلها ,التقي مع أصدقائي القدماء خالد صبر, وخالد حنتوش, واحمد محمد صالح , ودكتور مصطفى لطيف في مقهى كاظم فرهود المقام على كورنيش الفرات, نتبادل الشعر ,والسياسة ,والظروف المريرة التي يمر بها بلدنا الغالي ,وفي تلك المدة كنت أصلي مع الشيخ محمد حسن عليوي المعروف بــ( أبي عفاف) في جامع وحسينية أهل البيت عليهم السلام في التسعينيات.تفرغت لكتابة الشعر اللاذع بحق المجرمين ,واللصوص والسراق ,
أصبت بجلطة دماغية عجزت عن الحركة ,والكلام كم ألمتني قساوة المرض، وأنا احمل على كرسي متحرك اشعر بالخجل من اقرب الناس إليّ ,واشعر بنظرة العطف, والشفقة ,والرحمة إليّ من قبل الآخرين.
كنت اجلس في باب داري اتامل وجوه المارة من أمامي ,وأنا أتألم بصمت على عجزي عن الكلام , والمشي.
أزعجني كثيرا ذلك الموقف ,وطلبت من الله سبحانه وتعالى أن يريحني ,ويلحقني بولدي الشاب (بسيم) وتحقق لي ما أردت , ورحلت عن هذه الدنيا الفانية في 26/6/2020 وانتهت حياتي.