تمثلات الزمان والمكان في شعر محمّد البريكي

د. موج يوسف |أكاديمية وناقدة من العراق

القصيدةُ بيتٌ يختبئ فيه حزن الشاعر وعذاباته الذاتيّة اللّاتي تربَّت على يد الزمان، وخدشها المكان بمخالبه، فالشّعرُ هكذا وليد العذاب فكلّما عانق الشاعر أشرقت شمسُ القصيدة ساطعةً بعد ليلة ارتوى القلم من دموع صاحبه. وهذا الذي نجدهُ في ديوان (الليل سيتركُ بابَ المقهى) للشاعر محمّد البريكي والصادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر. العنوان عتبةٌ نصّية تفتح لنا أبواب القصائد التي ترصد فيها محطات الشاعر المتقلّبة، وما فعل به الزمان لا سيما (الليل) والمكان (المقهى)، وهذه الثنائية جاءت مشحونةً بعواطف وانفعالات نفسية. لا ننسى أن أوّل من شكا هموم الليل هو آدم الشعراء (امرؤ القيس) وسار بعده أبناؤه الشعراء، فالليل يمكن القول إنه يمثل بدورين هما (المعذب والملهم) فيشهد ولادة القصيدة، وأما المكان فمحطات ترفدُ الشاعر بالتجارب. والليل والمقهى عند الشاعر البريكي شكّلَا ظاهرةً في ديوانه إذ ينفتح القارئ على تأويلات عديدة، وبحسب رأينا إن الزمان وتمثلاته بشعر البريكي جاء معبراً عن تأملاته وأفكاره، وشحن الصورة بالعواطف، وأما الأمكنة المتمثلة بالمقهى والمدينة والقرية فكلّها ترصدُ التنقلات، والتحولات التي مرَّ بها الشاعر، وحنينه إلى المكان الأم القرية. تطالعنا قصيدة (غدر الطواحن) التي يقول فيها:

فكلّما جاء طفلُ الفجر يسألني

بكت من الجوع أحلامُ البساتين

وكلّما قريةٌ أنّتْ على سهري

أقولُ: نامي طويلاً في تلاحيني

وإن تنفّس صُبح الحلم في رئتي

تشمّسَ الحبُّ في مقهى الفساتين

تظهر في الأبيات السابقة ثنائية الزمان والمكان (الفجر، القرية، الصبح، المقهى) ولكن المكان الذي هيمن على النص (القرية) التي كانت وما زالت المكان الأليف المشحون بعواطف الدفء، فيظل ناقوس الحنين يئنّ على تلك الألفة لا سيما إن كان الشاعر مولداً في القرية، وعندما يغادرها يرافقه شعور الفقد، وحينما يصطدمُ بضجيج شوارع المدينة يحتضنُ بذكرياته بساتين قريته، وقد يتبادر في ذهن القارئ لماذا جاء (الفجر مع القرية) في النص؟، نرى أن هذا الاجتماع لم يأتِ عبثاً، فمحاولة البحث عن الهدوء والنقاء الذاتي، وتطهير الروح من الشوائب تتطلب زماناً ومكاناً فالقرية تحمل هذه الصفات والفجر كذلك، فالمزواجة بين هذه الثنائية حملت المعاني والصفات التي ذكرناها. ونلحظ في النصّ نفسه وجود زمان ومكان آخر (الصبح والمقهى) في البيت (تنفس صبح الحلم في رئتي) بعد ليلٍ معتمٍ بالهموم يبثُّ الشاعر الحركة المستمرة المصحوبة بالأمل فتتجلى في الصبح، وأما المقهى فهو المعبر عن نشاط الإنسان ويعتبره محطةً لجميع الغرباء فهو محطةٌ قصيرةٌ، أو إقامةٌ مؤقتة، وجزءٌ من الحياة اليومية. بعد هبوط آدم وحواء، آباء الإنسان وفطرته الأولى ووصولاً إلى يومنا هذا هل بقينا على الفطرة السليمة نفسها؟، وكيف العودة لها إن فقدناها؟، الجنةُ تبرّأت من أبينا عندما أكل نصف التفاحة لأنه عندما جاع تخلى عن مبادئه وظل يراوده حلم العودة إليها، فهل ستحتضنه عندما يعود إلى مكانه الأول؟، هذا التساؤل يمكن أن نطرحه على أنفسنا عندما نترك مكان الولادة والنشأة ونفكر بالعودة مرة أخرى هل سيتبرّأ منا؟، الشاعر البريكي في قصيدته بعنوان (قرويٌّ يُربّي الجمل) في مطلع القصيدة يقول:

تتبرّأُ هذه الضفاف من القرويّ

الذي جاءها حاملاً كيس أحلامه

فوق ظهر الأمل

وفوق الماء مندهشاً من أغانيه

والطيرُ أنصتَ حين تغنّى

ومال على نايه ضلعُ صفصافةٍ تحرسُ الرمل

يطالعنا الفعل (تتبرّأ) الدال على دوام الحدوث والاستمرارية في التبرّؤ، وهذا الفعل أعطى حركةً للجمل الاسمية التي تدل على الثبوت، وقد حمل الفعل (تتبرّأُ) رؤية الشاعر بتقلبات الحياة، ومنها أنّ القرويّ الذي يحطُ رحاله في المدن الكبرى، فتترسب إليه شوائب المدن وضجيجها، وتبعده عن فطرته الأولى ونقائه فعندما يعود إلى قريته تتبرّأ منه الأمكنة التي احتضنته ومنها الضفاف والبساتين فهو لم يقل القرية تتبرّأ بل ما يوجود فيها يتبرّأ من الابن المهاجر عنها، وقد يكون الشاعر استمدَّ هذه الرؤية من أبيه آدم الذي ترك النقاء وهبط إلى الشقاء. وفي قصيدة بعنوان (عائلة للطريق) يقول:

فهل صار هذا الطريقُ

أخاً، زوجةً، صاحباً، أو حبيباً؟

وهل صرتُ حين أمرُّ بهمّي الثقيل

على نبضه كالمريض وصار طبيباً؟

أقولُ: أبي أيُّها الدربُ؟

أنسبُ لي، ربما فأنا وأبي أصدقاء

أحبُّك حيناً لأنّك توصلني للبيوت

التي كان للطين عطرٌ ورائحة في أزقّتها

ما يلفت نظرنا بهذا النصّ أن الشاعرَ استعمل المكان بدلالات مختلفة (الطريق، الدرب)، فالأول له معنى عام خرج عن دلالته الحقيقة وصار يدل على كلّ شيء قريب من الشاعر سواء كان معنويا أو حسيا، الذي يكون بمثابة الأنيس له فالطريق عنده (الزوجة الأخ الصديق الحبيب.. الخ)، فدلالته الرفقة والأُنسة التي تظل معه في كلّ محطات الحياة، أما الدرب الذي بمعناه الحقيقي هو الشيء أو الطريق الذي يصل بين شيئين؛ لذلك قال عنه أبي، فهنا سلسلة علاقة تربط بين الشيئين لا يمكن أن ينفكان هما الابن والأب. المكان جاء في القصيدة مجازياً. في حين يظهر الأثر النفسي في المكان المستعمل، إذ يقول في نهاية النص: 

أنا في المدينة وحدي غريبٌ

أعلّمُ ظّلَ النخيل المبعثر

أنّي خرجتُ من البحر وحدي

وقالوا نجوت

فقلتُ: نعم

المدينةُ مكانٌ مفتوحٌ ويحمل عادةً رمزية الحرية، لكنّها ـالمدينةـ تُهدي إلى اللاجئ إليها الشعور بالاغتراب الذاتي،  والأسى، والوحدة، فهي المفتوحة على العالم الممتلئة بالأسرار، المزدحمة بالبشر، فالشاعر بالمدن الكبرى يضيق عليه الأفق، فيحاول الهروب حتى لو عبر العودة إلى الذكريات. الشاعر محمد البريكي صور لنا الحياة التي لا تقف رحاها وتطحن الشوائب والنقاء، فلا خلاص ولا استسلام، فكان البوح الذاتي المتنفس الوحيد الذي يلجأ إليه الشاعر وهو القصيدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى