القصيدة القصيرة  في ديوان (عشقتك عن ظهر قلب) للشاعر حسن البصام

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

 لعل هذا التوصيف-اعني الومضة-اقرب ما يكون إلى الدلالة المجازية منه إلى الدلالة الاصطلاحية,فالمستقر في الاصطلاح هو القصيدة القصيرة التي تنتظمها دفقة,وهي بحسب هربرت ريد غنائية[1],تجسم موقفا عاطفيا فرديا أو بسيطا,وتعبر مباشرة عن الهام,أوحالة مستمرة,ويقدم ريد تحديدا أدق لمفهوم القصيدة القصيرة في كتابة الشكل في الشعر الحديث إذ يقول:عندما يكمن المحتوى بدفقة فكرية واحدة واضحة البداية,والنهاية,كأن ترى في وحدة بينة,عندها يمكن القول إننا أمام القصيدة القصيرة,في حين عندما يكون المحتوى-الفكرة أو التصور الفكري-معقدا جدا لدرجة أن يلجأ العقل إلى تقسيمه على شكل سلسلة من الوحدات الجزئية,وذلك ليخضعه لترتيب ما من أجل استيعابه في أطار كلي,عندها يمكن القول إننا إزاء ما يسمى بالقصيدة الطويلة0 على أن الفرق الكيفي بين القصيدة القصيرة,والطويلة يكمن في الجوهر أكثر منه في الطول,إذ تستدعي القصيدة القصيرة مهارة فنية,وقدرة مدربة على التركيز,أي اختزال أكثر قدر من العاطفة أو الانفعال أو الفكرة أو تجلي حالة أو مشهد بالوصف في أقل قدر ممكن من التعبيرات,أن القصيدة القصيرة في أبرز خصائصها ضرب متميز من التقنية[2]في القدرة على إيجاد بنية شمولية في بضعة أبيات أو أسطر محدودة,ومن اجل ذلك فهي تقتضي وعيا ,وحساسية متميزين للمعنى,واللغة ليس في نطاق الكلام حسب,بل في صميم العلاقة بينهما كبنية لغوية كلامية دالة من جهة,وبين العالم من جهة أخرى, سنحاول قراءة القصيدة الومضة في أمثلة شعرية اختيرت من ديوان (عشقتك عن ظهر قلب) للشاعر حسن البصام,ولنبدأ بالقصيدة الأولى للشاعر وهي:(حزمة حب  ):

بدون نظارتي

لا أرى الأشياء بوضوح

وربما لا أراها أبدا

لا تبتعدي عن عيني

سأظل اتوكا على عصا الظلمة

حتى تمسكني من يدي حزمة ضوء

حتما انك في المقدمة [3]

    من الصعب أن نعثر في النصوص الرومانسية على دلالة غير بريئة,ذلك أن الكتابة المرة تصبح شرطا لأية رؤية كذلك الشكل الفني فانه يشذب إطرافه,ويكتف ذراعيه,ليصغر حجمه,ويستطيع المراقبة بدقة أكثر لأي تطلع إنساني,لأية رغبة شاعرية أو حلم يخرب[4],وتتميز نصوص الشاعر حسن البصام في ديوانه هذا,كما هو الحال مع الكثير من نصوص التسعينيات المتحدية للممنوع السلطوي,بلغتها المشفرة, أن التشفير لديه لا يصل إلى حدود التلغيز إلى الحد الذي يجعل من التعامل مع النص ,وفهم دلالاته أمرا عسيرا يحتاج إلى الكثير من الجهد,مما قد يفقد النص خاصيته الامتاعية,ويحبسه في خانة الأدب النخبوي,فحسن  الساخر بطبعه اختار أن يتعامل مع المحظور بسخرية أيضا,فيكتب قصائده الصادحة بالاحتجاج بطريقة تخاتل الرقيب,لكنها لا تخلو من الخطر[5],ونراه يقول في قصيدته (عدالة):

في بلادي

أما أن تكون شهيدا أو فقيرا

متى تشرق شمس الله

على دهاليزهم المظلمة

وبسطوعها الحارق

توزع عافيتهم

على عرينا

وأفراحهم بهزائمنا

على قلوب أسدل عليها الحزن

واقفل أبوابه؟[6]

  في قصيدة الشاعر حسن البصام هناك دائما عناصر قولية غير محددة بزمان أو مكان,على الرغم من طغيان مؤشرات ظرفية الرواسم الدوالية في تواصلية عتبة تمظهرات الدلالة الأشتغالية,بيد أننا نلاحظ على سبيل المثال,أن دوال(مظلمة,الحارق,عرينا,الحزن) لربما لا تعبر في وجه الخطاب عن حدود مؤشرات حدوثية صورة الخطاب,و باسترشاد دليل مجهولي قد يحث بدرجة أمكانية وصفية للحالة الشعرية,أي بمعنى أن تمظهرات الدوال في القصيدة توحي بأكثر من منطقة إرشادية,ومعلومة المدلول,وهذا الشيء هو ما يقودنا إلى عتبة هذا التمظهر المتني في قوائم النص(الشهيد , الفقير , بلادي )مما يجعل متابعة القارئ لحركية هذه الدوال أمرا يتطلب تنوعا فريدا في بناء الصورة الشعرية,وعلى هذا الأمر نلحظ أن متباينات التواصل الدوالي,هي عبارة عن إحلال ملفوظي داخل حيز أللحاقي في متواليات البنية الوصفية للدوال0[7] ولعل من أهم سمات الصورة الشعرية فيها هو التكثيف,وهي بذلك تعبر من الحياد إلى الجمال الفني,وإذا كانت الشعرية تكثيفا للغة فان الصورة الشعرية تكثيف للشعرية,وهذا المقترب أمس بالقصيدة الومضة التي سنتفحص تشكيلاتها الصورية في شعر حسن البصام,لكونها تمثل بكليتها صورة شعرية,ونتناول اختلافها عن الأشكال الشعرية الأخرى من حيث المكونات,والعناصر,والوظيفة الدلالية,تختلف القصيدة الومضة في تشكيلاتها الصورية عن القصيدة الطويلة في ديوان (عشقتك عهن ظهر قلب) للبصام ,من حيث طريقة التعامل مع اللغة,والرموز,ونوعية التجربة,وطبيعتها,وأصالتها,أو لنقل أنها تمثل رؤية ممتدة في اتجاه واحد,يوجهها شعور موحد ,وهو ما يطبع صورتها الشعرية بطابعها الخاص[8],وان القصيدة الومضة عموما,وفي شعر البصام على وجه الخصوص,تميل إلى  بناء الصوري الكلي أكثر مما تميل إلى البناء التجزيئي,بمعنى  أنها تعتمد الصورة الكلية الموحدة وصولا إلى أقصر أشكال القصيدة التي يمكن تسميتها بـ(القصيدة/الصورة),تلك  التي تنقل موقفا شعوريا واحدا بعاطفة موحدة,وبتناصر موسيقي تركيبي دلالي,فنراه يقول في قصيدة (مكابرة):

أقدامي خطت على سلم النسيان

وحين ارتقى جسدي مكابرة

التفت …

منبهرا رأى روحه

على أول سلم

ما زالت هانئة تنام [9]

  وقد تتحول الاستعارة أو الكناية إلى صورة رمزية غير أن الاستعارة التنافرية قد تؤدي في كثير من قصائد الومضة في هذا الديوان  إلى خلق صور المفارقة,وهي تمثل أشد حالات التنافر,والتصادم بين الحقول الدلالية المتضادة,ولعل من أهم ما نسجله في قصائد الومضة لدى البصام  أنها تعتمد عنصر المفاجأة,والدهشة,واللاتوقع,والتصادم الدلالي,وهي خصائص تنسجم مع اختزال الصورة لتتناسب مع قصر القصيدة,ولهذا قل اعتماد الصور الشعرية في هذا النمط الشعري على استثمار الجانب الأسطوري أو الدرامي أو السردي[10] في قصيدة (تعبث بضفائرها الحرب ),فنراه يقول:

في الحرب

مغيبة عن واجهة القتال

وهي الهدف الاسمي

إلا في رثاء اشراقتها

ولوعة الفقد

رغم أنها تضغط على زناد القلب

في الخطوط الأمامية

فتردينا شوقا [11]

   وحده الشاعر العراقي من يستطيع أن يعرف المعنى الحرفي لمفردة الحرب,وهي قطعا ليست من إعمال اللغة,ولن تكون القصيدة أبعد من لذة النص بالمفهوم البارتي الملحق بعلم النفس ذلك المفهوم الذي يستطيع أن يقطع النص من جسد اللغة بوصفه اختزالا شبقيا,انه طفل كبير بقدر ما لا يعني أن يقول,أو يتكلم أحيانا لكي يترك غبارا متعبا خلفه, يوجد خلف النص لغة,لان اللغة ستكون دائما أمامه,وذلك عندما يمكن لنا الحديث حسبما يرغب رامبو عن سكرات اللغة,نستطيع بعد ذلك إن نعرف القصيدة بطريقة البصام الجديدة في الكتابة[12]

المراجع:

[1] علاقات الحضور والغياب في شعرية النص الأدبي:د0 سمير الخليل:151 0

[2] ينظر المرجع نفسه:152 0

[3] ديوان عشقتك عن ظهر قلب : حسن البصام : 67 0

[4] ينظر مقال الأستاذ خضير ميري:10 0

[5] ينظر مقال الأستاذ حسين الأبهر:10 0

[6] ديوان عشقتك عن ظهر قلب :85 0

[7] ينظر مقال الأستاذ حيدر عبد الرضا:10 0

[8] ينظر علاقات الحضور الغياب:158 0

[9] ديوان عشقتك عن ظهر قلب : 100 0

[10] ينظر علاقات الحضور والغياب:159 0

[11] ديوان عشقتك عن ظهر قلب :94 0

[12] ينظر مقال الأستاذ خضير ميري:10 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى