بلورة ” هوية النص الشعري ” مجاراةً لصوت الشاعر الداخلي

مهدي حسين السنونة | السعودية – جزيرة تاروت

       تتشبث الأنا الشاعرة بهوية النص تشبث الجذر بالأرض وهو يحاول الولوج إلى النص انتقاء اللحظة الفعلية لبزوغ أناه و تحويلها من مجرد أناً متطرفة إلى أداة فاعلة في النص الشعري فتصقله أو تقومه تحضرُ لا لمجرد الحضور بل لحاجة النص إليها. الهوية دافعٌ من دوافع تشكيل النص و هوية الشاعر الإنسانية غالبًا ما تكسبُ الرهانَ في إذكاء جذوة النص الأولى مهما احتال الشاعر عليها ليتجرد من ذاته لكنها لا تتجرد من النص الشعري

يقول الراحل محمود درويش”الهوية هي ما نورث لا ما نرث ما نخترع لا ما نتذكر الهوية هي فساد المرآة التي يجب أن  نكسرها كلما أعجبتنا الصورة لا أخجل من هويتي فهي ما زالت قيد التأليف”

نعم لمّا تزل الهوية قيد التأليف قابلةً للتنقيح حتى يرحل الإنسان عن العالم لكننا لا نستطيع إلا أن نُجزِئ الهوية إلى فسيفساء صغيرة فالهوية كمكون تتشكل  من المنطلق العقائدي والاجتماعي والفلسفي و تتأثر بالمحيط أيضًا لذلك لا يجدر بنا صرف النظر عن التقلبات الحياتية و نقاط التنوير في حياة الفرد التي قد تعيد تشكيل هويته بين الحين والآخر بناء على علاقته بالأشياء وطريقة ملامستها إياه

هذه المعطيات تفرض ذاتها في الحياة الشخصية للفرد العادي كما تفرض نفسها على حياة الشاعر وعلى قصيدته أيضًا . علينا أيضًا ألا نُغفل أنه مع أن للإنسان الخيار فالموقف المعاش يفرض أي جزء من الهوية يظهر وأي جزء يختفي و ماهي الأجزاء يتماهى معها كما يحدث في النص الشعري أيضًا.

الشاعر يشغلهُ نصه فينبثق في مخيلته أولًا ثم “يركض ” على المدى الأبيض

تقول نازك الملائكة في مقدمتها ل “شظايا و رماد” :” النفس البشرية عموما ليست واضحة و إنما هي مغلقة بألف ستر و قد يحدث كثيرا أن تُعبر الذات عن نفسها بأساليب ملتوية” و أقول إن جدية البحث عن فكرةٍ خلاقة هي في الأصل مبعث قلٍق و تساؤل أدى لتطوير الذات الشاعرة عند نازك الملائكة. إننا إذ نستطلع التحولات الفكرية في تجارب نازك الملائكة نلحظ تحولًا عقديّ الدلالة تحولًا في اليقين لدى نازك ويبدو هذا جليًا في خطابها مع الحبيب مثلًا:

ولو جئت يوما و ما زلت أؤثر ألا تجئ

لجف عبير الفراغ الملون في ذكرياتي

و أمسكت في راحتي حطام رجائي البرئ

صارت تخاطبه:

و سألت حبيبي أن ألقاه

فتطلع في وقال إن شاء الله

إن مثل هذه التحولات نلاحظها لدى السياب مثلًا حين كان شاعرًا كما تتطلبه المرحلة السياسية “إذ ما من متنفٍس لفردية الفرد” لكنه استطاع بعد حين التغلب على الوضع والعبور بالقصيدة إلى منعطٍف آخر

“علينا ألا نُغفل أولًا أن القصيدة كانت قصيدة إجابة فصارت قصيدة تساؤل و حيرة يبدأ الشاعر بيتها الأول و يجهل كيف تنتهي و كيف يتحرك داخلها”

فالشاعر كما يقول فوزي كريم ” فهم من الحداثة في الشعر أهمية يقظة الصوت الفردي الداخلي”

و هذا ما يعيه شعراء اليوم فهم يتركون على الطريق علامات لكل القادمين نحوهم من شعراء و قراء.قد يتماهى الشاعر في بداياته مع ما يطلبه المجتمع من نظم شعٍر مباشر قد لا يصل لمدى طموحه أو لطموح المجتمع الذي ” يناقض ” نفسه فيطلب من الشاعر محاكاة أوجاع الشارع وهمومه اليومية بسطحية في ذات الوقت الذي يطالبه بالنهوض بالقصيدة لغًة ومعنًى

حينها يصبح الشاعر في شٍد وجذب فصوته الداخلي يدعوه للتخلي عن بردة المجتمع و الارتقاءبذائقته لمستوًى أعلى بينما يدعوه المجتمع للتحرز بالتراث و الطُرق المعتد بها لدى من سبقه من الشعراء.

وحين يتحول الشاعر من الاصطفاف خلف رغبات مجتمعه إلى الإنصات لصوته الداخلي مما سيضطره غالبًا لقتل صوت مجتمعه و إعادة إحياء الذات الشاعرة التي طالما تدعوه للتجديد و الخوض في أطوار القصيدة و التحليق بعيدًا . يرجع هذا لمدى إخلاص الشاعر لشعره أو لنقل لصدقه داخل القصيدة و تحويل هذا الهاجس العابر لمشروٍع أدبي .

إن فكرة الإنصات لصوت الشاعر الداخلي الذي لا يتبلور إلا متأخرًا بعد الكثير من التجارب الإنسانية و الظروف و المتغيرات الإجتماعية و السياسية فكرٌة جديرة بالاهتمام كلما نمى الصوت الداخلي و كبر كلما ازداد توهج القصيدة و ارتفع نسق الخطاب فيها من مجرد محاولٍة لنظم الشعرإلى محاولٍة جادة للتعبير عن مكامن النفس البشرية و تحديات الوضع المعاصر و الرهان على التجديد المطلوب للتقدم كما أنه كلما نضج الصوت الداخلي لدى الشاعر كلما انخفض منسوب الانفعال لديه هذا و الصوت الداخلي الذي يتجلى في نصوص الشاعر كلما تقدمت به التجربة لابد  أن يكون “تحت السيطرة” فلا يجب تغليب الهوية على الصوت الداخلي أولعكس فهما مجدافان لذات الزورق .

مصادر:

كتاب شاعر المتاهة و شاعر الراية الشعر و جذور الكراهية – فوزي كريم -دار المتوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى