من أعلام عُمان: الشيخ سعد تاج العارفين
شيخة الفجرية | كاتبة عُمانية
يحفل التراث الفكري والثقافي العماني، بنماذجه الخاصة في كلَّ علمٍ من العلوم، وكأن العمانيون بذلك يأخذون “من كل علمٍ بطرف” كما يقول ابن خلدون. فيطل علينا أحد علماء عُمان في القرن الرابع الهجري، وهو الشيخ أبو سعيد الكدمي، بأولى الفيوضات السلوكية -كما يسميها العمانيون- التي كشف حجبها الشيخ السلوكي جاعد الخروصي في كتاب(الاستقامة) للشيخ الكدمي الذي قال:
يفوز بأنوار الحقيقة موجه
ويفرق يم الماء لمَّا تموْجا
ويلي الشيخ الكدمي في هذا المسار كلا من الإمام محمد بن علي باعلوي (المتوفى 556 هـ) صاحب مرباط، والشيخ تاج العارفين، والشيخ جاعد بن خميس الخروصي، وابنه الشيخ ناصر، والشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، والشاعر الكبير أبو مسلم البهلاني؛ ويقول سعيد بن خلفان الخليلي:
وأي مقام لا أروم انتهاءه
وفى مبدئي نور المصاحف غشَّاني
فصحح إيماني بكل حقيقةٍ
بسرٍّ إلى أوج النهاية أنهاني
ومازج بالإيمان روحي فاغتدى
مسوطا بجسمي في دمائي ولحمانى
فهام بحب عام في بحر ذكره
ولم يدر وجدان اصطبار وسلوان
وبالعودة إلى مآثر الشيخ سعد بن علي الظفاري (607هجرية)، الملقب بتاج العارفين- يمكننا ملاحظة العلاقة بين الاسم والمعنى في لقب الشيخ سعد، تاج العارفين -؛ وله لقب آخر هو” قطب العارفين”. ولد في العقد الثالث من القرن السادس الهجري، ويعود نسبه إلى القرشيين من أبناء عم أم النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ آمنة بنت وهب. ولأن السلوك هو: “تهذيب الأخلاق ليستعد العبد للوصول بتطهير نفسه عن الأخلاق الذميمة منكر حب الدنيا والجاه، ومثل الحقد والحسد والكبر، وبالنهج على الأخلاق الحميدة مثل العلم والحلم والحياء”، ولأنه كذلك “تربية الانسان الروحية الذهنية كما تظهر على مستوى السلوك النفسي… وهو تدريس على المستوى العملي يتمتع بكل ما للتدريس من مناهج وثوابت”، فقد أسس الشيخ مكاناً للعلم يسمى “الرباط”، الذي تحييه ذرية الشيخ سعد تاج العارفين من العلماء والفقهاء بالتدريس والتعليم، فالسالك إذن هو “العبد الذي تاب عن هوى نفسه وشهواتها، واستقام في طريق الحق بالمجاهدة والطاعة والاخلاص”. ويعدّ السلوك الحق بأنه “انتقال من منزل عبادة الى منزل عبادة بالمعنى، وانتقال بالصورة من عمل مشروع على طريق القربى من الله الى عمل مشروع بطريق القربى من الله بفعل وترك، وانتقال بالعلم من مقام الى مقام ومن تجل الى تجل”، وعليه، ألَّف عنه تلميذه محمد بن علي باطحن كتابا عنوانه: “تحفة المريد وأنس المستفيد في مناقب العارف بالله الشيخ سعد بن علي تاج العارفين”، وورد عنه في كتاب “قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر” للطيب بامخرمة، الذي تحدَّث عنه في كتابه فقال:” الشيخ الصالح العالم الرباني محمد، الملقب سعد بن علي تاج العارفين. كان صاحب كرامات وسلوك وإشارات “، وعن صفاته نقل المؤرخ العلامة عبد الله باحسن جمل الليل في كتابه “نشر النفحات” عن الشيخ محمد باطحن من كتابه المسمَّى “تحفة المريد وأنس المستفيد”؛ فقال:” كان قدَّس الله سره العزيز جميل الطلعة، حسن التركيب، نظيف البدن واللباس، صبيح الوجه، تتلألأ أنوار الولاية من وجهه الشريف، وكان رحمه الله رفيع القامة، له الهيئة العظيمة، والأخلاق الكريمة، نهمه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى في حركاته وسكناته وأخلاقه “، وروى المؤرخ باحسن جمل الليل عن الشيخ باطحن أنه قال :” ولما أراد -يقصد الشيخ تاج العارفين- أن يسافر إلى الشحر قلتُ له عند الوداع: بما توصينا يا سيدي، قال: بلزوم الشريعة ثم إذا سمعتَ بي أقمتُ في موضع فالحق بي وبكى رحمه الله تعالى فبكيت لبكائه كأنَّه قدَّس الله سرَّه يشير إلى الشحر”. وذكر في كتابه عن كرامات الشيخ تاج العارفين فقال:” يحكى أنه لما أخرجه المنجوي من ظفار لقول المنجمين له: زوال ملكك على يد صوفي يجتمع عنده من الفقراء كذا وكذا، فاتفق اجتماع ذلك العدد عند الشيخ سعد بن علي، فأخرجه من بلده، فلما صار في البحر متوجها إلى الشحر.. تبعته جميع حيتان البحر من ظفار، وسارت بسيره، فالتفت إليها وقال لها: ارجعي؛ فإنه عاد لنا فيها نسل، وكانت امرأته حاملا في مبادئ حملها بحيث لم تعرف هي ولا غيرها أنها حامل، فرجع بعض الصيد إلى ظفار”.
وحدثت أحداثًا جعلت الشيخ تاج العارفين يرحل من ظفار إلى حضرموت، وفي مستهل القرن السابع الهجري أرسل السلطان المنجوي في ظفار إلى الشيخ سعد ليكتب له حرزا يضعه في زوايا السور الذي سيبنيه السلطان حول ظفار، ولما تم بناء السور استدعى الشيخ سعد لافتتاح السور، يقول باطحن عن ذلك:” ولما تحول السلطان رحمه الله إلى القرية الجديدة كان الشيخ يمشي أمامه إلى أن دخل البلاد، أبى الفضل إلا أن يكون إلا لأهله إذا حقت الحقائق”، ويزيد باطحن في كتابه تحفة المريد عن علم الشيخ تاج العارفين بقوله:” كان سيدي والشيخ علي يقرأون النحو على الأديب إبراهيم باماجد ويقرأون الفقه على الفقيه باعلوي ويقرأون الأصول على الشيخ أحمد بن علي بامحمود”. وقال العلامة المؤرخ السيِّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف:” ومن كبار أهل الفضل بالشحر: تاج العارفين الشيخ سعد بن علي الظفاري، نجعَ إليها من ظفار واستوطنها”.
ومن أقوال الشيخ تاج العارفين رحمه الله: قال: ما أعلم شيئاً أقسى للقلب من أكل الشبهات، لأن الشبهة تنشِّط الأعضاء للشر وتثبطها عن الخير، فإن القلب يبطل حكمه ويبقى حكم النفس البشرية، وهي في غاية الضعف فإن الله تعالى قال في حق من مات قلبه وبقيت نفسه: [فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ] {الأعراف:176} قسوة القلب بحجاب الشبهة، لأن الحرام نار تحرق، والشبهة دخان يسود، ولا يُزيل الشيء إلا ضده كما أن الحسنات يذهبن السيئات.
وقال: الجهل في العقائد أدَّى إلى الاختلاف، ولو تحققوا لما اختلفوا.
وقال: لا يصلح السماع إلا لعالم رباني يلوح له شيء من الذات أو الصفات.
وقال: أنا ما ربَّاني إلا الغزالي نفع الله به، ولما بلغه أن بعضهم كمَّل قراءة الإحياء قال: مخضوا الإحياء فلم يخرج لهم زبد.
وقال: كانت الرياضة سهلة التناول لكثرة الحلال، وهذا الوقت أكثر ما نالوا فيه خيالات وكرامات معلومة.
وقال: الرزق رزقان رزق القلوب ورزق الأجسام، فالطالب لرزق القلوب مرزوق الاثنين، وطالب رزق الأجسام يعيش كالبهيمة.
من أجل ذلك، أقام النادي الثقافي ندوة ثقافية بعنوان “من أعلامنا الشيخ سعد تاج العارفين” كان ذلك في قاعة منتجع ميلينيوم صلالة، وقد ألقت الدكتورة عزة القصابية -عضو مجلس إدارة النادي الثقافي- كلمة تناولت خلالها حياة الشيخ سعد بن علي الظفاري الملقب بـ “تاج العارفين”؛ تلتها كلمة ألقاها الشيخ عمر بن أحمد محفوظ الشيخ عن سيرة تاج العارفين، تكونت الندوة من محورين، بدأت بالمحور الأول بعنوان: “الشيخ سعد تاج العارفين في القرنين السادس والسابع الهجري”، تم تقديم 4 أوراق عمل خلالها، ألقاها عدد من المختصين، الأولى تناولت “سيرة حياة الشيخ سعد تاج العارفين”، ألقاها أ. عادل حاج باعكيم؛ فقال:” في هذه الوريقات سنتحدثُ – باقتضاب – عن جزئية من الحياة العلمية والصفاء الروحي والنقاء الإنساني البديع لظفار وحضرموت من خلال تسليط الضوء على بعض جزئيات السِّيرة الذاتية لرجلٍ عُدَّ من صفوة علماء وفضلاء القرنين السادس والسابع الهجريين، رغم تهميشه من قِبَل كثير من المؤرخين في حضرموت وظفار، ذلك العَلَم هو الشيخ العلامة سعد الدين بن علي الظفاري الملقب بتاج العارفين.
بَخُلت علينا المصادر التي بحوزتنا للأسف، فلم تسعفنا بكثير مما كنا نأمل الوقوف عليه من جزئيات حياة العلامة تاج العارفين، ومن ناحية أخرى جنى المؤرخون عليه أيضاً بعدم تدوين أخباره إلا كفافاً ناذراً، وذلك كما نظن أنه لسببين هما: أنه ليس على الطريقة العلويَّة الحضرميَّة فهو قادري جيلاني، والسبب الثاني: لأنه أحدث بعض المؤرخين – هداهم الله ورحمهم – مقارنة بائسة بينه وبين تلميذه الفقيه المقدَّم في ريادة علم التصوُّف لذلك جُنِيَ عليه لصالح تلميذه رحمهما الله”. والورقة الثانية بعنوان “ظفار في عصر تاج العارفين في القرن السادس الهجري”، تحدث فيها أ. سالم الكثيري فقال:” تعتبر ظفار أو ما تسمى تاريخيا ببلاد الشحر من المناطق التي لا تزال في حاجة ماسة لكثير من الدراسات والبحوث التي تسهم في إظهار ملامحها التاريخية بمختلف جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية. وتأتي هذه الورقة البحثية كمحاولة ضمن هذا السعي في خدمة تاريخ هذه المنطقة، وذلك من خلال إعطاء لمحة عن طبيعة ومظاهر الحياة العلمية في ظفار خلال الفترة منذ دخول المنطقة ضمن حظيرة الدولة الإسلامية حتى القرن السادس الهجري، وبما يعطي الباحثين والقراء قاعدة معلومات عن كنه هذا الجانب الحضاري في المنطقة، وهو ما قد يعتبر بمثابة المقدمة أو التوطئة التاريخية للحياة العلمية خلال هذه الفترة وما يليها من تطورات ومراحل، فيما تناولت الورقة الثالثة “حضرموت وظفار في عصر تاج العارفين في القرن السابع الهجري” والورقة الرابعة “العلماء والفقهاء من ذرية الشيخ سعد تاج العارفين”. وتناول المحور الثاني “الحياة الدينية والسياسية للشيخ سعد تاج العارفين” حيث قدمت 3 أوراق عمل الأولى بعنوان “العلاقة العملية بين ظفار وحضرموت في عصر الشيخ سعد تاج العارفين “، وعن العلاقة العلمية بين ظفار وحضرموت، في عصر الشيخ سعد تاج العارفين، في القرنين السادس والسابع الهجريين، تحدث فيها محمد علوي عبد الرحمن باهارون؛ فقال: ” أما ظفار فقد عرفت بنشاطها العلمي في عهد حكم آل منجوه الذين عرف عنهم بتشجيعهم للعلم والعلماء وأقاموا فيها عددا من المدارس والمساجد.
وبرز فيها عدد من العلماء منهم الشيخ سعد الدين بن علي الظفاري والشيخ علي بن عبدالله الظفاري والشيخ الفقيه يحيى بن أبي نصير الظفاري والشيخ أحمد بامحمود وغيرهم”. وجاءت الورقة الثانية “الحياة الدينية السياسية والاجتماعية في ظفار في عصر الشيخ سعد تاج العارفين”، وفي ورقة سالم الحوقاني التي كان عنوانها:” الحياة السياسية والاقتصادية في عصر الشيخ سعد تاج العارفين”، والتي قال فيها: “تسلط هذه الورقة الضوء على الأحداث السياسية في القسم الأول منها، حيث تتناول السلطة الحاكمة ونشأتها في شحر عُمان أو ما سيعرف لاحقا بإقليم ظفار، كما ستتحدث عن الدولة المنجوية وخاصة في نهايتها وسقوطها، بالإضافة إلى قيام الدولة الحبوضية والصراع الذي قام من أجل السيطرة على الحكم في ظفار، مع توضيح الدور الذي لعبه الشيخ سعد تاج العارفين تلك الأحداث”.
وفي الختام تم تكريم المشاركين من سعادة الدكتور أحمد بن محسن الغساني رئيس بلدية ظفار بحضور الدكتور محمود بن مبارك السليمي رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي ولفيف من الأدباء والكتاب والمتلقين.
وكما يبدو واضحًا، لم يهتم علماءنا بالتأليف مبكرًا في هذا الجانب مبكرًا، ومنهم الشيخ سعد، وذلك” لكونها طريق تحقيق وأذواق وأسرار، فجنحوا للخمول والسر والإسرار، ولم يضعوا في ذلك تأليفا، ولم يصنفوا فيه تصنيفا، ومضت الطبقة الأولى إلى زمن العيدروس وأخيه الشيخ علي، فاتسعت الدائرة وبعد المزار، واتصل بهم القريب المنفصل ببعيد الدار، واحتيج إلى التأليف والإيضاح والتعريف”. بينما يعد العلم العَرَفاني -عربيًا- من العلوم التي لها جذور تاريخية قديمة، فقد ظهر النثر الصوفي العرفاني منذ القرن الأول الهجري، إذ تلفعت نصوصه بأثواب المناجاة، والموعظة والحكمة، تطورت في القرن الثاني إلى الثوب القصصي والقصص التعليمية، والرسائل المتبادلة بين الشيوخ ومريديهم، وخواطر المناجاة، والتضرّع، والابتهال، وحكايات الخوارق، والكرامات، والأخبار الصوفية، بينما اقترن التصوف بالفلسفة في القرن الثالث، من خلال المعارف الربّانية، والعلوم اللدنية (الباطنية)، والأحوال القلبية، والمقامات الروحية، أمَّا في القرن الرابع الهجري فقد تأثر التصوف بعلم الكلام الذي تخلله، المنظور الفلسفي، والجدل المنطقي، وعلى إثر ذلك ظهر المعجم الخاص بالمصطلحات الصوفية وألوان التعبير الأدبي.
فظهرت كتبًا تحوي شيئًا من ذلك مثل:
1ـ الرسالة القشيرية الإمام أبو القاسم القُشيري(ق5).
2ـ المنقذ من الضلال للغزالي (مواليد سنة 450هـ).
3ـ إحياء علوم الدين للغزالي.
4ـ الرسالة اللدنية للغزالي.
5ـ الحكم العطائية لجمال الدين ابن عطاء(ت709ه).
وغيرها من الكتب التي تناولها النقد العربي في الكتب الآتية: كتاب (اللُمع في التصوف) للسرّاج الطوسي، وكتاب (طبقات الصوفية) لأبي عبد الرحمن السُلمي، وكتاب (حلية الأولياء) لأبي نعيم الأصفهاني. ولهذا الفن أئمة في تراثنا الأدبي؛ كالحلاّج، والنِّفَّري، والسهروردي، والبسطامي، والتوحيدي، وابن عربي.