دمعتان لأم الفحم والناصرة
سهيل كيوان | فلسطين
أم الفحم، الاسم الحركي لصراعنا من أجل بقاء وحياة كريمة في وطننا.
أم الفحم حناجر عشرات الآلاف تهتف للحياة، لا للظلم لا للعدوان… ونعم للكبرياء.
أم الفحم حاضنة المشاعر الوطنية الفيّاضة كأم رؤوم وأب شديد البأس، تربي الكرامة والكبرياء في بيوتها ومدارسها وأحيائها ومساجدها وميادينها ومقاهيها وملامح أهلها التي تشبه ترابها وصخورها.
كانت وستبقى الشعلة الوطنية المتوهِّجة التي تنضوي تحت جناحها كل التيارات السياسية والفكرية، وكل العائلات والشرائح الاجتماعية، بوُدٍّ أصيل يعرفه كل فحماوي، وكل زائر إلى هذا البلد، الذي لا تشعر فيه بأنك غريب، حتى في أول خطوة لك فيه.
أم الفحم نموذج يحتذى للسِّلم الأهلي، رغم التقاطبات السياسية، فما الذي يدفع بها إلى الهاوية؛ هل تخلّت عن جلدها واحتلتها الأحقاد والثارات؟ هل ضاقت ذرعًا كونها في المقدمة؟ هل تعبت ذراعها من رفع راية الشرف والكبرياء؟
أم الفحم عرين الأحرار يتصاعد منها دخان الحرائق! أي عبث هذا، وكيف وصلنا إلى هذه المنطقة الموبوءة بسموم الكراهية، كأننا نستكثر على أنفسنا ساعة من الفرح! كأننا مصرون على الخطايا التي لن تغتفر!
ناصرتنا…
ناصرتنا، مدينتنا اليتيمة، الوحيدة التي بقيت لنا بعد النكبة، بعدما دُمِّرت كل المدن الفلسطينية، وهُجِّر معظم سكانها، يافا وحيفا وعكا والرملة واللد وصفد وطبريا وصفورية ولوبية وغيرها، وبقيت الناصرة، الابنة المحبوبة المدلّلة لجميع الفلسطينيين. الناصرة التي استمرّت في احتضان الثقافة الفلسطينية وعزّزتها، وعملت على سدِّ الفراغ الذي تركته شقيقاتها المنكوبات.
الناصرة، التجمّع العربي الوحيد الذي حوى مؤسسات صحية ومستشفيات وغيرها ومال يزال.
في شوارع الناصرة، كانت البدايات لبلورة روح الشعب المتبقي في وطنه ووحدَتِه ووحدة مصيره ورفضِه لأن أن يكون يتيمًا على مائدة اللئام.
في الناصرة أزهرت “لا” كبيرة للعنصرية، و”لا” كبيرة لتزييف التاريخ… و”لا” كبيرة للعدوان، و”لا” كبيرة للاحتلال، وصدحت قائلة نعم للحرية، وليس أقل من الحرية، فكانت عملاقة متحدّية في وجه الحكم العسكري وما تلاه من تناسخ له في صوره المختلفة.
الناصرة، كانت بؤرة للأعمال التطوعية، يفدون إليها ممتلئين بحب العطاء من كل أرجاء الوطن، لأنها مثّلت كل الوطن، من الداخل والضفة الغربية وقطاع غزة، ومن الشتات والدول الأجنبية.
الناصرة ملتقى لثقافات متنوعة، رفدها تنوّع القادمين إليها والمقيمين فيها. الناصرة كانت قِبلة وقُبلة، فأي وحش هذا الذي خرج من كيانها اللطيف الجميل؟
الخراب يطرق أبوابنا بقوة! ولن يسلم أحدٌ من نيران نشعلها بأيدينا! لن يسلم أحد من رشقة دم! نحن على حافة الهاوية، وانتبهوا أن هناك من يتنظر سقوطنا، بل ويدفعنا إلى هذا السقوط، مستغلًّا بعض من فقدوا الضمير، وتاهوا في دوامة المال والقوة والدم والثارات.
هناك من يرى أم الفحم عقبة يجب تذليلها، ولم يعد سرًا!
هل نسيتم أن هناك من يعتبر بقاءكم في وطنكم غلطة تاريخية، وما زال يحلم بإصلاح غلطته؟
يا أم الفحم ويا ناصرة، ويا كل قرية وبلدة ومدينة! ها هم يتظاهرون على أبواب اللد ويهددون أهلها.
ها هم يعتدون على مسافر عربي هنا وآخر هناك!
وها هم يشددون الخناق على قرانا ومدننا حتى بات أكثرها مثل المخيّمات.
وها هم يمنحون مستوطنة يسكنها بضع مئات نفوذًا أكبر من نفوذ أم الفحم التي يقترب عدد سكانها من الستين ألفًا.
ها هم يمنحون “نوف هجليل” كلّ شيءٍ سلبوه من الناصرة…
يا كل أم ووالد من أبناء شعبنا، انزعوا الأحقاد من صدور أبنائكم، فهم سيكونون أول الضحايا، ولن يحصدوا سوى الخراب والدموع والندم.
يا أهلنا في كل مكان، تعلّموا الدروس ممن سبقوكم، تعلَّموا من عشائر كانت غنية أفقرتها النزاعات والثارات وأذلّتها، فباعت بيوتها وأراضيها ورحلت، تعلّموا من حمائل كانت كبيرة، تحطمت وتشتَّتت بسبب واحد منها “ركب رأسه” وأصرّ على إراقة الدماء، ورفض كل مبادرة للخير والصلح، تعلموا من حمائل وبلاد كانت تنعم بالسّعادة والهناء، وباتت تعيش في مقلاة القلق ولا تشم سوى رائحة الدماء.
كأننا عُميٌ، وفي أقنعتنا سادرون، كأننا عائدون إلى إحياء نكبتنا وخرائب الوطن الحزين.
عاصفةُ السُّم والغربان تُنذر بالخراب.
اتركوا لأبنائكم هذا الوطن المحاصر والصغير.
اتركوا لنا أحياءنا التي كانت بالحب تحيا وتحلم بالبذار.
يا شعبنا الذي يعلك كبِدَه أكثرُ من حقود، أتمد يدك لمن ألقوك في عَسَف القيود.
دمٌ على العتبات، والحقد يلتهم السّنابل والورود…
أيها الأحرار، لا تكسروا روح الأمل، واتركوا لجيل قادم نسائم الحب وأجنحة الكبرياء…
اخرجوا من ظلام الثارات، فلن تحصدوا إلا الفجيعة والنّدم..
دعوا خيوط الشمس تشرق بالفرح، واعلنوا للدنيا أننا هنا باقون، فلا فضاء يتسع للمرء إذا ضاق به حضن الوطن.